2025-01-06 12:14 م

ألمانيا وإسرائيل: وجهان لعملة واحدة

2025-01-02

بقلم: دانة زيدان
تنقلت منذ بدء الحرب على غزة بين أكثر من عشر دول ، شملت أوروبا وأمريكا الشمالية وأفريقيا وشرق آسيا وغربها، وشاركت بفعاليات داعمة للقضية الفلسطينية في كل مدينة زرتها. رغم إختلاف مواقف الدول وشعوبها، إلا أنني لم أواجه عداءً صريحًا تجاه الفلسطيني كالذي عايشته في ألمانيا حيث يمتد هذا العداء عبر مستويات متعددة: شعبية ومؤسساتية وحكومية.
تسعى ألمانيا بلا هوادة لقمع الأصوات المناهضة للعدوان على غزة بكل السبل الممكنة. حيث بات من المستحيل الخروج في مظاهرة دون التعرض لعنف ممنهج من قبل الشرطة تارة، ومن غوغاء متعصبين ودهماء تارة أخرى، فضلاً عن ترهيب أجهزة الدولة، والملاحقات القضائية. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى اقتحام منازل الناشطين والمشاركين في المظاهرات بسبب أبسط أفعال التضامن كرفع علم أو ترديد شعار.
في تناقض صارخ، وبينما توزع ألمانيا تهم “معادة السامية” بالجملة مستهدفة كل من ينتقد الإرهاب الاسرائيلي، لا تتوانى السلطات عن مضايقة، وسجن، وترهيب الناشطين اليهود المناهضين للحرب في خلط متعمد بين معاداة السامية وأي انتقاد لإسرائيل. هذا الخلط المقصود، يُعري ازدواجية المعايير التي تهيمن على المشهد في ألمانيا، ويكشف عن سياسة ممنهجة تهدف إلى إسكات أي صوت يرى قيمة للحياة الفلسطينية.
تُعد فكرة “سبب الدولة” أو Staatsräson حجر الزاوية في السياسة الألمانية، حيث تعتمد عليها الحكومة لتبرير دعمها المطلق لـ”إسرائيل” في “الدفاع عن نفسها”، مهما كان الثمن، ودون أي أدنى اعتبار للقوانين والأعراف الدولية. فقد صرّح المستشار الألماني أولاف شولتس، في 12 أكتوبر 2023، قائلاً: “في هذه اللحظة، هناك مكان واحد فقط لألمانيا. نحن نقف مع إسرائيل. إن أمن إسرائيل هو مصلحة وطنية لألمانيا”. وكأن الشعب الفلسطيني يمثل أي تهديد لألمانيا!
وفي العاشر من أكتوبر 2024، بعد مرور عام على بدء العدوان وإرتقاء أكثر من 45 ألف شهيد –حتى كتابة هذا المقال-  أعلنت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، دون مواربة، أن أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من السياسة الألمانية. وقد جسّدت بتصريحاتها تلك مفهوم “سبب الدولة”، الذي يمنح الحكومات المبرر لتجاوز المعايير القانونية والأخلاقية المعتادة تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي، والذي يتجلى هنا في دعم الكيان الصهيوني بلا قيد أو شرط وبغض النظر عن كم الإرهاب الذي تتركبه “اسرائيل”.
هذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها هذا التناقض الفج حيث تمارس ألمانيا ازدواجية المعايير بشكل صارخ. حين وجّهت حكومتها وشعبها انتقادات لاذعة لدولة قطر، متهمة إياها بانتهاك حقوق الإنسان بسبب منع رفع شعارات المثلية خلال المونديال وحظر المشروبات الكحولية، نجدها في المقابل تُسارع لقمع أي صوت يجرؤ على انتقاد “إسرائيل” التي ترتكب فظائع مشابهة لفظائع ألمانيا عبر التاريخ.
أما على الصعيد الشعبي، علت أصوات الألمان بالدعوة لمقاطعة مونديال قطر تحت شعار الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، بينما تغرق تلك الأصوات ذاتها في صمت مطبق أمام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية تُنفَّذ بدعم ورعاية وتواطؤ من الحكومة الألمانية. حيث أنه وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام فألمانيا هي ثاني أكبر مُصدّر للأسلحة لإسرائيل.
إن كانت ألمانيا حريصة، كما تدّعي على حقوق الإنسان ومخلصة لقيمها الغربية الإنسانية، خاصة الحق في التعبير عن الهوية الجنسية، وأبدت قلقاً كبيراً لعدم سماح قطر برفع علم المثلية، فلماذا إذن تمارس القمع بحق المظاهرات المناهضة للحرب، والتي تُعد حقاً إنسانياً مشروعاً؟ ولماذا تطارد العلم الفلسطيني حيثما ظهر، وكأنه تهديد لوجودها؟ هذا التناقض المتكرر يفضح ازدواجية تُناقض قيم الحريات التي تدّعي ألمانيا الدفاع عنها.
من المؤسف غياب تيار شعبي قوي وفعّال قادر على التأثير في سياسات الحكومة، خاصة في ظل تنامي نفوذ اليمين المتطرف في ألمانيا. ذلك أن النازية لم تُجتث بالكامل، كما كشفت الأحداث الأخيرة عن الوجه الحقيقي لألمانيا، حيث بات جليًا – حتى لمن كان يُنكر- تبنيها غير المشروط لإسرائيل، فوق كل الأعراف الدولية وحقوق الإنسان.
ليس غريبًا على ألمانيا هذا الدعم غير المشروط للإبادة الجماعية، فقد سجلت بتاريخها فصولٌ حافلة وموثقة في هذا المجال، حتى قبل الهولوكوست. حيث ارتكبت ألمانيا في جنوب غرب إفريقيا واحدة من أبشع الجرائم الإنسانية حين أبادت 80% من شعب الهيريرو و50% من شعب الناما. أما من كُتب لهم النجاة، فقد أُجبروا على النزوح إلى الصحراء، حيث انتهى بهم المطاف في معسكرات اعتقال شنيعة. حيث أجبروا على الأعمال الشاقة التي حصدت أرواحهم بسبب الجوع والإرهاق والأمراض، بالإضافة إلى الاعتداءات الجنسية والتجارب الطبية الوحشية التي أجرتها ألمانيا على هذه الشعوب. عدا عن إبادة الألمان ما يزيد عن ربع مليون أفريقي بما يعرف بثورة الماجي ماجي في تنزانيا حالياً ما بين 1905 و 1907.
ذات المشهد بل وأشد بشاعة يتكرر اليوم مع الشعب الفلسطيني، الذي تعتقد إسرائيل، بوهمها وغرورها، أنها قادرة على استبداله أو محوه من التاريخ. فما أشبه إسرائيل بألمانيا وإن تغيّرت الأسماء، فإنهما وجهان لعملة واحدة، تُمثّل القمع والإبادة بأبشع صورها.
ما تمارسه ألمانيا من ظلم بحق الفلسطينيين يفوق كل تصور، ويطرح تساؤلات عميقة: هل تعلمت ألمانيا دروساً من ماضيها الدموي العنصري البشع؟ وهل التكفير عن أخطاء الماضي يعني التغاضي عن وقوع الظلم نفسه على الشعب الفلسطيني؟ كان حريًا بألمانيا أن تبرز تفوقها الأخلاقي من خلال الالتزام بالقيم الإنسانية –بحدها الأدنى – التي تدّعيها بدلًا من أن تُصبح رائدة في صناعة الأسلحة وتصديرها إلى إسرائيل، لتُسهم مساهمات فعالة في تعميق المأساة التي يُعاني منها الفلسطيني.
إن حجم التجاوزات والاستخفاف بالقيم الإنسانية بلغ مستويات لا يمكن وصفها، تحت ظل كيان صهيوني يحاول عابثاً استبدل شعب بشعب. ودولة مثل ألمانيا تدّعي العلمانية، لكنها تتبنى سياسات عنصرية تجعلها “إسرائيل” أخرى في أوروبا. إن كانت ألمانيا تؤمن حقًا بالدفاع عن اسرائيل بغض النظر عن الثمن الأخلاقي، فلماذا لا تُخصص أرضًا بحجم فلسطين داخل حدودها للإسرائيليين بدلًا من هذا الدعم غير المشروط الذي تقدمه لهم في أرض جدي وأبي التي لا نعرف أرضاً غيرها؟
كاتبة فلسطينية
المصدر: رأي اليوم