2024-12-30 11:33 م

الفوضى الخَنَّاقة

2024-12-28

بقلم: بسّام ضو 
عامَ 2006، بعد عُدوانِ الثلاثةِ والثلاثينَ يوماً الإسرائيليّ - الأميركيّ على لبنان، جدَّدتْ كوندوليسا رايس [وزيرة الخارجية الأميركية السابقة بين 2005 و2009] عبارة "الشرق الأوسط الجديد"، وأضافتْ بِدعتَها "الفوضى الخلَّاقة".

آنذاك، “كوندي” (هكذا كان يناديها الرئيس جورح دبليو بوش) لم تخترع جديداً. كانت تُكرِّرُ مفهوماً أَحْياهُ في تسعينيَّات القرن الماضي شيمون بيريز ثمَّ بنيامين نتنياهو. وكانتِ الحربُ ضدَّ العربِ جميعاً تسبقُ دوماً أيَّ عمليةِ إحياءٍ لهذا المفهوم ِالمتجذِّرِ في الفكرِ الصهيوني. العربُ – بإرادتهم – هم اللقمة السائغة في فمِ التنين الشرق أوسطي الأميركي – الإسرائيلي – التركي الجديد. لم يعدْ ذلك غامضاً. بات واضحاً جدَّاً. وربّما لا تنجو إيران إلا إذا اِستدركتْ وضعَها الداخلي كي لا يجري استغلالُه خارجيَّاً. ما كانت تريده “كوندي” والأميركيون والإسرائيليون عام 2006 والتطبيعيُّونَ الكيانيُّونَ العرب، وفشلوا فيه، ها هم الآن يجدون الفرصة لتحقيقه. يظهرُ ذلك جليَّاً على المسرح الدموي الراهن. سوريا خرجت من كل دورٍ إقليمي أو دولي. النظام أسقط الدولة قبل أن يسقط. تأكَّد قطعيَّاً أن الفكر القومي الرومنطيقي المتعالي على الحقائق الاجتماعية أسرعُ من غيره إلى الهزيمة والسقوط. بشار الأسد لم يصغِ إلى نصائح الروس قبل سنتين، ولم يقرأْ الإشارات الإيرانية اللافتة للانتباه، ولا سيّما تلك التي حملها وزير الخارجيَّة الإيراني عباس عراقتجي قبل أسبوعين من سقوطه وفِراره.. كيف ترتسم الصورةُ الآنَ؟

إنها صورةٌ مخيفةٌ فعلاً.. الفوضى الخلَّاقة التي اشتُهِرت عام 2006 سرعان ما تحوَّلت إلى هدفها الباطني أي الفوضى الخنَّاقة. لاعبانِ كبيرانِ وخطيرانِ يعبَثانِ بالمَنطِقة . نتنياهو الذي سمَّى جنوب سوريا بـِ“أرض الباشان” وفقاً للأسطورة التلموديَّة، ويرى نفسه “ملك إسرائيل” الجديد، ورجب طيب أردوغان الذي ينظر إلى سوريا والموصل وكركوك أرضاً عثمانية، ويعيشُ في شخصية “السلطان سليم” الذي انتصر على المماليك في معركة مرج دابق وعلى الصفويين في معركة جاليدار قبل خمسة قرون، ودخل إلى دمشق ثم أمسكَ بمداخل الشام. وهكذا يريد الرئيس التركي أن يكون “السلطان سليم” الجديد من دون أن يُعلن الخلافة. نتنياهو وأردوغان يتكاملان على أرض سوريا وفي الشرق. الأوَّل، احتلَّ جنوب سوريا وغربَ جبلِ الشيخ اللبناني، وطوَّق ريف دمشق وبات على مسافة تقلُّ عن 15 كيلومتراً من طريق دمشق – بيروت. والثاني، اجتاح بفصائله التي قادها الجولاني معظمَ سوريا الباقية، ولم يتردَّدْ في فتح المعركة مع الكرد الذين يشكِّلونَ تقاطعاً متفجِّراً بين تركيا والعراق وسوريا وإيران. وهذا كلُّه يجعلنا نرى أكثر فأكثر أن سوريا – الدولة ربّما انتهت، وهي في طريقها إلى نوع من الدويلات، فالإسرائيليون يريدون في الجنوب دويلة، والأتراك يريدون دويلة في الوسط تمتدُّ شمالاً، ويرفضون حلَّاً معقولاً للمسألة الكردية. يكفي أن نرى هذا المشهد على أرض الشام، ثمَّ ننظر إلى الخريطة العربية والمشرقية حتى ندركَ أنَّ المَنطِقة تَغلي بالفوضى التي ستغيِّرُ كل شيء حتى في الهويَّات. لا يهمُّ الأميركيين الذين يقودون هذه اللعبة النارية ما قد يدور في المَنطقة من مِطحنة دماء، بل ما يهمهم أن تصبح مناطق بإدارة تركيا وإسرائيل الكبرى وبعض الملحقات العربية التي تدور كلُّها في الفلك الاستعماري الأميركي. بين فكَّيِّ الكمَّاشة التركيَّة – الإسرائيلية ستدورُ الأحداثُ المرتقبة، فالسلطان سليم الجديد، الحاضرُ بالجَولاني في دمشق، بدأ يستقبلُ هذا الرئيس وذاك، وأخذ يؤدِّي دوره في صياغة مستقبل سوريا ولبنان، ويحتضنُ قطر لمنافسة السعودية ومصر والإمارات على زعامة السنَّة، ويراوغ مع إيران من أجل تحجيم دورها الإقليمي. أمَّا إسرائيل فتكملُ مشاريعها التوسعيَّة، وتعزِّزُ حركة الاستيطان وتُمدِّدُها إلى سوريا، وربّما قريباً إلى مصر، فالعينُ التوراتيّةُ شاخصةٌ إلى سيناء لتهجير دفعات من الفلسطينيين إليها، وعلى الأردن الذي يريده نتنياهو ملجأ أخيراً للفلسطينيين من الضفة الغربية، وعلى لبنان الذي تسعى إسرائيل إلى وضعه على المشرحة الفدرالية. الصورة قاتمة، لكن هذا هو الواقعُ الآنَ. وسواء أكانت هذه الأهداف الاستعمارية اقتربت من التحقق، أم لا، فإنَّ المؤكد أنَّها أدخلت المنطقة بـِ“الفوضى الخنَّاقة”، وبات الحفاظ على الحدِّ الأدنى من الوحدة الداخلية – ولا نقول الوطنية للأسف – هو الهمُّ الأساسي كي لا نعيش مرحلة سايكس بيكو جديدة مع التغيُّر المتسارع في لعبة المصالح الدولية على أبواب نظام دولي جديد.