بقلم: ساري عرابي
يرفع جواله يرسل إليهم رسالة: "كيف حالكم اليوم؟". لم يأته الردّ. تذكّر ابنهم المراهق وهو يجادله: "عمّو أليس الموت مكتوبا؟ وكأنّ الموت لن يدركنا إذا تركنا سكننا هذا!"، يردّ عليه: "صحيح. لكن الإنسان يسعى، يقوم بالذي يمكنه فعله، والباقي على الله". يقول المراهق: "عمّو، لا نريد النزوح مجددا. فلنمت هنا"، "وإخوتك؟! ألا تخشى عليهم؟! على الأقلّ فليحظوا بالقليل من الأمان، الجيش يقترب منكم".. "فقط الصغيرة تريد النزوح، هي أكثرنا خوفا، نحن اعتدنا. هي تريد اللعب، هناك أطفال أكثر، نحن هنا وحدنا"..
كانت هذه آخر محاورة بينه وبين الابن المراهق الذي يخرج ليحضر لهم الماء والخبز، وطائرات "كواد كابتر" فوق رأسه، ثم يعود ليشاهد شيئا من برامج رسوم الأنيميشن. كانوا قد جمّعوا العديد من الأفلام والمسلسلات لحضورها تسلية أثناء القصف على جهاز "لاب توب". تحبّ الصغيرة الكرتون، يصل صوت ضحكتها من خلال الهاتف وهي تجلس قبالة الجهاز وتمسك بيدها كوب الشاي الذي تحبّه، لديها غرام خاصّ بالشاي. يسيح قلبه إليهم وهم يحاولون استنقاذ ما أمكن من السكينة من أسنان الموت المحيط بهم. لعبهم، ضحكهم، خروجهم للتنزه ولقاء الآخرين إن أمكن، طعامهم الذي يصطنعونه من العدم. يملأ قلبه بالحزن لا بالفرح، صحيح أنّه يمنحه شيئا من الطمأنينة لأنّه يلحظ الرباط الإلهي على قلوبهم، ولكنه ينتظر بقلق بالغ أن تحيا هذه العائلة إلى ما بعد انتهاء الحرب، وأن تذوق فرحة انتهاء الحرب، وتعيش لحظة من أمل بأيّام قادمة أفضل.
لم يأته الردّ. يقلب صفحات الفيسبوك، الذي نادرا ما يدخله، يجد صورة أحدهم، لم يتبيّن المكتوب، جلّل القلق على بصره، وبدا كأنّه فقد وعيه مع سقوط قلبه من صدره، مع أنّه لم يقرأ بعد النصّ المرفق مع الصورة.
الذين نحبّهم، ونعتاد عليهم، وندخل في تفاصيلهم اليومية، ونعرف طباع أطفالهم، ونحفظ كيف ترتسم الابتسامة على وجه كلّ واحد منهم، وكيف لكلّ منهم طريقته في التعبير عن خوفه المكتوم وصوته يتهدّج بذلك الخوف، وكيف لكلّ منهم صيغته الخاصة في بثّ أحزانه بعدما يفقد قليلا قدرته على سدّ باب الشكوى للخلق، ونكتشف بهم أنّ الحياة لم تزل قائمة في قلوبنا.. يصعب علينا تصوّر فقدهم، مع أنّه لا شيء يحيط بهم، ويتخلل لحظاتهم، إلا الموت، ولا صوت يثبت في سمائهم إلا صوت الطائرات بأنواعها، ولا صوت أعلى من حولهم من صوت القصف الذي يطمس كلّ صوت آخر، ولكنّك هكذا؛ دائما ما تتصرف حيال الذين تحبّهم وتعتادهم كأنّهم خالدون، وكأنّك حتما أسبق إلى الموت منهم، لكنّك لا يمكنك أن تتذاكى بهذا القدر من التغافل عن الواقع. كلّ محاولة للتغافل كانت سقطتها على صخرة الواقع قاسية، شديدة الوجع، وبقدر ما نعتقد أنّ الأيام تنسينا، فإنّنا نعود ونكتشف عمق الألم الذي خلّفته تلك السقطة، ذلك الألم الذي يبقى يفيض بصمت على مسامات تكوين الواحد منّا، يعيد تكوينه باستمرار وهو لا يدري إلا متأخرا إن تأمّل في نفسه، ولاحظ كم تغيّر.. وهكذا كان النصّ المرفق مع الصورة، الصخرة التي سقط عليها التغافل، كان النصّ نعيا للعائلة كلّها.
"كيف حالكم اليوم؟". عاد للنظر إلى رسالته. لم يأت الردّ، إلى الآن لم يأت الرد، ولن يأتيَ. يفزع المرء إلى إيمانه، أو إلى أمانيه، والأماني ضرب من التغافل كذلك، إذ كيف له أن يتقبّل الآن عجزه عن التواصل معهم، عن سؤاله لهم: "كيف حالكم اليوم؟"، فلعلّ حاله يبلغهم، ولعلّ كفّا ترفع إليهم الآن ما يجوس في قلبه، تبلّغ لهم أحزانه وشوقه وحبّه وإحساسه بالفقد مجسّدة ذلك لهم بنحو جميل، في صورة حسنة، وهكذا في ذلك العالم تصير هذه الأشياء ممكنة، والمعاني قابلة للتجسيد، للتبليغ الكامل، وبما يغني عن قولها.
دائما ما كان القول أقصر من كلّ حقيقة تطوي عليها النفس. حتى لو كانوا في حال أحسن، في حال ليسوا فيه بحاجة إلى أن يعرفوا أخبار أهل هذه الأرض؛ أُحبُّ أن تصل إليهم أحوال قلبي، وأُحبُّ أن تصل إليّ أحوالهم، لكن الخشية دائما من أنّني غير جدير بذلك، وأبعد من أن تصلني أحوال أهل السماء، وأقلّ شأنا من أن تُرفع إليهم أحوال قلبي، حتّى لو غمروني بحبّ واهتمام والموت يحيط بهم، وهو حبّ لم أكن أبدا لأستحقه، ليس فقط لافتقادي الجدارة به، ولكن أيضا لأنّ من يصل غيره بذلك الحبّ والموت محيط به، هو أعظم من كلّ أحد، وقلبه أغنى من كلّ قلب. هكذا قال لنفسه، وعاد ينظر إلى الرسالة التي لم يأته الردّ عليها.
كيف يفهم الآخرون الإبادة؟! كيف للآخرين أن يفهموها وهم لا يملكون الإحاطة؛ الإحاطة بضحكة كلّ طفل؟ بدمعة كلّ طفل؟ بحقيقة اصطناع المعجزة لإسعاد كلّ طفل؟ بمعنى الأماني المدفونة في صدور أصحابها؟ بالحزن المتنوع على الناس قهرا ونارا وصمتا وصراخا وهم يتناقصون، والأب يبكي طفله الممزق بين ذراعيه؟ كم من أمنية دفنت في صدر ممزق؟ وكيف طغت أمنية وقف الحرب على كلّ أمنية سبق لها وأن علت في النفوس الطموحة؟ النفوس التي تحسن الحياة كما تحسن الرضا.
من هذا الذي يمكنه أن يتخيّل صور النزوح كلّها، وأن يجمع قلبه للوعي بأشكال الموت كلّها، وأن يحصي كلّ لحظة جوع وعطش وقلق وخوف وكيف الشعور بها من كلّ واحد، وأن ينبث في النفوس المحزونة والمقهورة علما ومعرفة واطلاعا ليرتب أوجاعها في عقله وحقائق أوجاعها في نفسه؟ لا أحد. يفزع المرء إلى إيمانه، ويقول: "الله وحده الذي يحيط بذلك كلّه".
الإبادة هي أن تتناقص الردود على الرسائل التي تنبعث إليهم كلّ يوم: "كيف حالكم اليوم"، وحينما لا يأتي الرد، فوراء ذلك قصّة، قصّة خاصّة جدّا، كما وقعت لأصحابها، ووراء كلّ قصّة قصص على عدد أنفاس أصحابها، قصص لا تحصى، فمع أصغر جزء من الوقت تتقلّب على نفس كلّ واحد منهم المشاعر كلّها من تلك المتعلقة بمحاولة التشبث بالحياة، إلى الخوف والقلق والأماني غير الواثقة بالأيام القادمة. من يحصي ذلك؟ ومن يعرف حقيقة كلّ شيء أحصاه كما عاشه أصحابه؟! "الله وحده القادر على ذلك".
لم يأت الرد، وما يزال ينظر في رسالته إليهم: "كيف حالكم اليوم"؟ لم يفكر في نوع القنبلة التي سقطت عليهم. أخذ وقتا كي يصدّق أن ما كان يرفض توقّعه قد حصل. يستعيد في كلّ يوم ضحكات الأطفال وألعابهم ويومياتهم ورسائل محبتهم إليه. ينظر حوله، ويسأل: "كيف يمكن أن يمرّ هذا كلّه"؟ يتذكر كذلك أنّ هناك من لا يكتفي بالصمت، أو جلد الضحية، ولكنّه أيضا يقول: "لم يعان الفلسطينيون كثيرا بالنسبة لمعاناة غيرهم". سوف يبقى ينظر في رسالته، متغافلا عن الحقيقة بالأماني، لعلّ حبلا ما يهبط عليه من عالمهم السماوي فيصعد إليهم بالكثير مما كان يودّ قوله لهم.
عربي٢١