بقلم: ريم عثمان
“إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في إيطاليا فيجب أن نعرف ماذا يجري في البرازيل”. جملة شهيرة كانت تتردد على لسان حسني البرزان في مسلسل “صح النوم” الكوميدي الشهير الذي عرض في سبعينيات القرن الماضي.
الجملة التي كانت مثار ضحك للمشاهدين وبقيت عالقة في الذاكرة الجمعية للجمهور السوري باتت أشبه بقول مأثور أقرب للحكمة في زمن باتت جهات العالم الأربع مرتبطة ببعضها عبر شبكات التواصل الاجتماعي والفضائي والأرضي وترابط حدود الجغرافيا وسطور التاريخ وخرائط المستقبل مع معطيات الحاضر بتشابك عنكبوتي يجسد لوحة تراجيدية تفرض على الجمهور البكاء عوضا عن الضحك إذا ما مرت على مسمعه جملة البرزان الشهيرة تلك .
فجهات العالم الأربع باتت غنيّة بالأحداث المأساوية من حروب واقتتال وتناحر وفقر وتزاحم وكساد وتضخّم وتغيّر مناخي وتلاعب بالمناخ والجوّ والأرض ومصادر الطاقة والغذاء والأوبئة الطبيعية والاصطناعية في عصر الذكاء الاصطناعي . فما يجري في الشرق لم يعد منفصلا عمّا يجري في الغرب والعكس صحيح وما يقع في الشمال له صلة حتمية بالجنوب والعكس صحيح أيضا.
واليوم إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في شمال غرب سوريا علينا أن نعرف ما يجري في شرقها , فالأحداث المتسارعة التي تشهدها محافظة حلب السورية وجوارها من مناطق خفض التصعيد في إدلب وحماة وريف اللاذقية الشمالي ,وكأنها مشهد هارب من مسلسل فانتازيا خيالي من إعداد وسيناريو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان, الذي قرر تقديم عرض مسرحي يكسب في نهايته تصفيق المخرج الأمريكي القادم الجديد إلى البيت الأبيض ,دونالد ترامب وحلفه الأطلسي ,وينال إعجاب الجمهور التركي ليكسب جولة أخرى على عرش القصر الأبيض في أنقرة.
إن جنح أردوغان للسلم فهل يجنح أوجلان؟ ونقول على الحرب السلام!
بالعودة إلى ترابط مسرح الحدث ومؤلفه بالحدث ومخرجه ,هل تعلمون أن الطبول تقرع في حلب وإدلب وحماة بينما العرس في الشرق والشمال الشرقي ,هناك حيث مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ,تحضيرا لعقد قران سلام بين التركي وعدوّه التاريخي الكردي؟! ليس ما ذكر مبالغة درامية بل واقع تفرد خيوطه بتروي أمام وسائل إعلام وجمهور القوميتين المتناحرتين منذ عقود. وإذا ما أمسكنا طرف الخيط المتصاعد دراميا يمكن أن نصل إلى خواتيم العرض.
هل أتاك مؤخرا حديث عبد الله أوجلان ,زعيم ومؤسس حزب العمال الكردستاني ؟ أو أقلّه الحديث عنه وعودة اسمه إلى التداول في الصحافة وأروقة السياسة ,بعد انقطاع دام لسنوات ؟! نعم ,عاد بانتظار كلمة ” نعم” الموافقة من أوجلان نفسه على عرض قدّمه له الأتراك قد ينهي نزاعا امتد لأكثر من أربعة عقود.
ففي اـلــ 22 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي أطلق رئيس حزب الحركة القومية في تركيا، دولت بهتشلي، حليف الرئيس أردوغان، وبشكل مفاجئ ,مبادرة للسلام مع الأكراد وحلّ القضية الكردية , دعا فيها خلال كلمة له أمام نواب حزبه ,إلى إطلاق سراح أوجلان من محبسه في جزيرة إمرالي , والسماح له بإلقاء كلمة في البرلمان التركي أمام نواب حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، ليعلن فيها حلّ حزبه الذي يصنّف على صعيد الدولة التركية “منظمة إرهابية انفصالية “.
وقال بهتشلي ، إنه من الممكن إطلاق سراح أوجلان من السجن بموجب أحكام قانون العقوبات التركي المعروف باسم “الحق في الأمل”، إن هو أعلن انتهاء الإرهاب بشكل كامل وحل “حزب العمال الكردستاني”.
رغم عنصر المفاجئة في تلك المبادرة إلاّ أنها لاقت قبولا من الطرف الكردي المعني في تركيا وسوريا والعراق . فإلهام أحمد مسؤولة العلاقات الخارجية في المجلس التنفيذي لـ”لإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا, أكدت أن هناك مباحثات تجري مع تركيا عبر وسطاء دون تقديم أي تفاصيل ,رغم الغمز إلى الرضا ليس بعلامة السكوت وإنما بالقول : ” نريد البقاء في أراضينا بحرية وأمان، تركيا تزعم أننا أعدائهم، لكننا لم نؤجج أي عداء تجاه تركيا، نريد علاقات بناءة وسلمية مع تركيا كسائر جيراننا الآخرين”. مؤكدة أن “كل ما سيصدر عن أوجلان محل ثقة الحزب ,وأن كل ما سيقوله سيكون لصالح حزبهم وسائر الأكراد”. على حد وصفها.
مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل “وحدات حماية الشعب” عمودها الفقري، ألمح أيضا لوكالة فرانس برس إلى الوساطة الجارية مع تركيا لبدء حوار سياسي وعسكري.
و في العراق لم يرفض زعيم حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل , مراد قره يلان الدعوة التركية . وعلى الصعيد التركي لم تلقى مبادرة بهتشلي من الجمهور التركي، بما في ذلك حزب المعارضة الرئيس، “حزب الشعب الجمهوري”، أي ردود فعل سلبية كبيرة.
صاحب الكلمة الفصل في الأمر عبد الله أوجلان بحسب وسائل إعلام ,استجاب لدعوة بهتشلي، في رسالة نقلها إلى الرأي العام أحد أقربائه الذي زاره في السجن، وقال فيها إنه “يملك القدرة النظرية والعملية لنقل هذه القضية من حيّز الصراع والعنف إلى الأرضية القانونية والسياسية، إذا سمحت الظروف بذلك”.
الترك والكرد .. أعداء الأمس حلفاء اليوم ؟ إنه فن الممكن..!
إذاً مبادرة السلام التركي الكردي أحيطت بأجواء من الارتياح والرضا فكيف ستترجم على الأرض وفق السيناريو الذي أعده أردوغان ؟
في الــ 10 من شهر تشرين الثاني / نوفمبر الفائت قال أردوغان من أنقرة:” إن تركيا ستكمل في الفترة المقبلة الحلقات الناقصة للمنطقة الآمنة التي أنشأتها على حدودها الجنوبية”. موضحا أن “تركيا ستقطع بذلك أي اتصال بين التنظيمات الإرهابية وحدود البلاد وبالتالي ستنتهي مكيدة الإرهاب القائمة منذ 40 عاما”. على حد قوله.
ونذكر علّها تنفع الذكرى . في تشرين الأول /أكتوبر من عام 2019 وفي خضم عملية “نبع السلام” العسكرية التي قادتها تركيا على شمال شرق سوريا بنفس أذرعها من الفصائل المسلحة وبتغطية من الجيش التركي .تم اتفاق التركي مع الجانبين الروسي والأمريكي على إنهاء العملية وفق عدة بنود كان من بينها بند تعهّد فيه الأمريكي والروسي بإخراج وحدات حماية الشعب من منبج وتل رفعت بريف حلب مع أسحلتهم بعمق 30 كيلومتر من الحدود التركية. لكن أردوغان أكد أن الاتفاق لم ينفذ وأن قوات قسد بقيت في البلدتين الحدوديتين.
وفي إشارة إلى هذا البند بالذات جاءت تصريحات أردوغان ووزير دفاعه الشهر الفائت حول إعداد أنقرة العدة والعتاد لتطهير ما تبقى من حدود بلاده الجنوبية من الإرهاب ,في إشارة إلى قسد . فجاءت معركة حلب الأخيرة والتي امتدت إلى باقي المحافظات السورية المجاورة في غضون ساعات أفلت فيها فصائله المسلحة معززة بالعتاد المتطور والعدّة المؤلفة من سوريين وأتراك وإيغور وشيشان وأوكران مدربين على قتال الشوارع فسيطروا على حلب تحت عنوان “ردع العدوان”. وبعد أن تنصل مما جرى لعدة أيام كسر الصمت وأعلن أن هدف تركيا من “معركة حلب” هو منع أي موجة نزوح إلى أراضيها والتصدي لقوات سوريا الديمقراطية.
لكن كيف يضفي أردوغان المصداقية على ما أفصح عنه من نوايا إذا كانت أرض الميدان تؤكد تلاحم البندقية الكردية مع البندقية التركية في تلك المعركة الشرسة؟ فمع سيطرت فصائل أنقرة على مدينة حلب وريفها سارعت قوات قسد إلى الانسحاب من مناطق تواجدها في المدينة ,الأشرفية والشيخ مقصود ,الحيين الكرديين اللذين لم تدخلهما الفصائل المسلحة رغم سيطرتها على كامل مدينة حلب . كما فتحت قسد ممرا لسحب قواتها والأهالي من “منبج وتل رفعت” بريف حلب وهما البلدتين اللتين وضعتهما أنقرة مرارا نصب أعينها في كل عملية عسكرية لقضم مساحات حدودية تضاف إلى حلمها بالمنطقة الآمنة؟!
وإلى الشرق وبالتزامن مع احتدام المعارك في الشمال الغربي حشد “مجلس دير الزور العسكري” التابع لقسد عددا كبيرا من مسلحيه وبدأ بشن هجوم شرس على سبع قرى تقع على خطوط التماس مع مواقع للجيش العربي السوري في ريف دير الزور الشمالي شرق نهر الفرات ,تحت اسم “معركة العودة” ,وذريعته المعلنة إعلاميا هي إعادة عشرات الآلاف من أهالي تلك القرى السبع إليها بعد أن نزحوا عنها عام 2017 .
تقسيم سوريا ورقة ضغط أم أمر سيفرضه الميدان ؟ المنتصر يقرر..
يبدو المشهد أقرب لبادرة حسن نية من جانب قسد أو ربما اتفاق من تحت الطاولة مع أنقرة سيفضي إلى السلم العلني بين الطرفين على قاعدة تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ تمتد على كامل المساحة التي رسم خريطتها أردوغان منذ بدء الحرب على سورية, تحت اسم “المنطقة الآمنة”, التي ستشمل كامل الحدود الجنوبية لبلاده مع سوريا , بحيث يكون الشمال الغربي مقرا للاجئين بعد ترحيلهم من تركيا تحت إدارة ما يسمى “الحكومة المؤقتة” و”الجيش الوطني” المدعومين سياسيا وعسكريا وماليا من أنقرة . فيما يترك لقسد الانفصالية مناطق شرق الفرات حيث نفوذ “الإدارة الذاتية” الكردية التي ستوقع معاهدة سلام مع الجانب التركي, وينتهي المشهد بتحقيق أهداف أردوغان من الحرب على سوريا ,بالتقسيم أو الفدرلة التي ألمح إليها وزير دفاعه , يشار غولر في مقابلة تلفزيونية أجراها قبل أكثر من شهر قال فيها :” إن الجيش الوطني السوري سيكون جزء من مستقبل سورية ,إذا بقيت دولة واحدة”. في إشارة إلى تقسيم مناطق نفوذ أو حكومات ذاتية عربية سورية وكردية سورية. وليطمئن قلب دونالد ترامب الذي يدير الأتراك والأكراد بالتحكم عن بعد ,ويستريح على عرشه الأمريكي بعد أن وضع أردوغان نفسه أمامه موضع المارد الخارج من القمقم ليقول له شبيك لبيك عبدك بين يديك إذا ما أردت سحب قواتك من سوريا فنحن سنملأ فراغها وحصة أمريكا من الكعكة بالحفظ والصون . وفي النهاية يسجل الجمهور التركي إعجابه بالبطل أردوغان بالتعليق على بطولاته في صناديق الاقتراع بعد أن أعلن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في عام 2027 .
بانتظار خواتيم المعركة الدائرة في الميدان بين الجيش العربي السوري وحلفه الروسي الإيراني من جهة وفصائل جبهة النصرة الإرهابية المدعومة أمريكيا مع مسلحي قسد الانفصالية المدعومة أمريكيا . وكما أن التاريخ يكتبه المنتصرون كذلك حدود وخرائط الجغرافية يرسمها المنتصرون وللميدان كلمة الفصل .
كاتبة سورية
المصدر: رأي اليوم