بقلم: أ.د. طالب أبو شرار
لقد اتيحت للغربيين فرصة الهيمنة على العالم القديم مرتين، كانت الأولى تحت مظلة الإمبراطورية الرومانية (الغربية) لفترة قصيرة خلت من الإنجازات العلمية الثورية التي مكنت أحفادهم الأوروبيين الغربيين مرة ثانية من احكام قبضتهم على مقدرات البشرية لنحو خمسة قرون لاحقة امتدت من بدايات القرن السادس عشر وحتى نهايات القرن العشرين. كانت فترة هيمنة الإمبراطورية الرومانية (27 ق.م – 476 م) سابقة من الهيمنة الوحشية على مقدرات ومصائر الشعوب المغلوبة ابتدع فيها الرومان أصنافا من القهر والاسترقاق والتعذيب الجسدي والروحي لم يفكر بها الشيطان نفسه كإلقاء الأسرى للأسود الجائعة في المسارح العامة (Coliseum) أمام الحشود المتعطشة لرؤية الدماء البشرية لتتمتع بصرخات الذعر والألم من الضحايا التعساء أو إجبار أولئك الأسرى على مجالدة بعضهم البعض حتى الموت! أي سادية هي تلك الملهاة! لقد انهارت تلك الحضارة المجرمة الشيطانية على أيدي القبائل الجرمانية الأكثر توحشا وانتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الى القسطنطينية البيزنطية الى أن تمت الإطاحة بها في العام 1453 على يدي السلطان المسلم محمد الفاتح.
كانت تلك العاصمة قد ضعفت كثيرا بعد نهبها وتخريبها من قبل الصليبيين الكاثوليك في حملتهم الرابعة 1202-1204. لقد عاث الصليبيون في المدينة تخريبا ونهبا مما أضعفها الى حد كبير وجعلها في النهاية لقمة سائغة في فم العثمانيين. في بدايات القرن السابع الميلادي، ظهر الإسلام العربي الذي قلم مخالب وأنياب الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية آنذاك فحولها من قوة عالمية عظمى الى قوة إقليمية محدودة التأثير. كانت فترة الهيمنة الإسلامية فترة انفتاح ورخاء وسلام وعدل وازدهار استراحت خلالها البشرية من تعسف الغربيين ووحشيتهم. لكن وللأسف، لم تكن تلك نهاية الكابوس الغربي إذ سرعان ما تعزز نفوذ أولئك المتوحشين بالاكتشافات الجغرافية والإبداعات العلمية التي نقلوها عن المسلمين ثم عززوا مخرجاتها واستثمروها لقهر الشعوب المستضعفة.
كان ذلك منذ نحو خمسمئة عام أي بعيد سقوط غرناطة في العام 1492 واستمرت هيمنتهم المطلقة على العالم الى فترة قريبة لا تتجاوز بضعة عقود بدأت خلالها الصين في الصعود كقوة اقتصادية وعلمية وعسكرية منافسة. في فترة القرون الخمسة المظلمة، ابتليت فيها البشرية مرة ثانية بهيمنة القوى الغربية على مسرح الأحداث العالمي. في تلك القرون المزدهرة غربيا انحصر جل ما قدمته تلك الحضارة من ابداعات علمية في خدمة ورفاه الإنسان الغربي وحده وفي تعزيز نفوذه وتمتين أدوات قهره للشعوب المستضعفة. لقد زرع الغربيون البؤس الإنساني في كل مكان انتهوا اليه فأبادوا سكان الأمريكيتين الأصليين وسموهم جهلا وظلما بالهنود الحمر كما أبادوا سكان أستراليا وأمريكا الوسطى خاصة المكسيك التي كانت ذات حضارة مزدهرة. نهبوا الذهب المكسيكي ليملؤوا خزائنهم في أسبانيا بالمال المغمس بدماء الضحايا. أبادوا سكان جنوب أمريكيا وتاجروا بالإنسان الأسود في عملية استرقاق متوحشة لا يمكن وصفها وشحنوهم كالحيوانات في أقبية السفن المتجهة الى شواطئ أمريكيا الشمالية والوسطى ليموت ثلثهم أو نصفهم في رحلة الشقاء تلك وليعمل الناجون منهم في مزارع قصب السكر أو القطن خدمة لأولئك الشياطين. لقد فصلوا الأمهات عن أبنائهن وأزواجهن واغتصبوهن دونما اعتبار انساني وهيمنوا على مقدرات شعوب شرق أسيا وشبه القارة الهندية في عملية استغلال يندي لها جبين كل إنسان وتفوق كل “شطحات” الدراما السينمائية.
أبادوا الأفارقة واغتصبوا نساءهم لينتجوا لهم جيلا هجينا يسهل ترويضه خدمة لأهادفهم الشيطانية. لم يكتفوا بذلك بل عمدوا الى استبدال شعوب ذات تاريخ مجيد بمهاجرين من أصقاع الأرض خدمة لمآربهم الاستعمارية تماما كما فعلوا في فلسطين. لقد زرعوا مأساة لا تنتهي ومسلسلا من الخراب وسفك الدماء وعدم الاستقرار. عندما تستمع اليوم الى سياسييهم تظنهم ملائكة لكنك سرعان ما تكتشف أن وراء الأكمة والكلمات المعسولة يكمن قبح وإصرار على القتل والتخريب وفرض الهيمنة. هم أساتذة في قلب الحقائق وتزييف الوقائع وإطلاق النعوت الكاذبة على خصومهم فيجرمونهم ويصفونهم بالمخربين أو الإرهابيين أو الأشرار: هل هناك أشرار في هذا الكون الفسيح سواهم؟ تذكروا فقط ما يقوله الصهاينة الأوروبيون عن الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين: ستعيشون تحت أقدامنا أو ترحلون الى الجحيم! أنتم لستم شعبا. تحاول تلك الشرذمة من اللاجئين الأوروبيين الشرقيين نزع الأصالة عن شعب هو مصدر الأصالة الإنسانية. الشعب الفلسطيني جزء من المكون الكنعاني العريق الذي قدم للبشرية أرقى المنجزات: الخط الذي يصور الصوت وليس الشيء فصاغ الكلمة من تسلسل أصوات لم تتمكن الحضارات التي سبقته من الوصول الى مثل ذلك الإنجاز. الكنعانيون هم من قدم المنظومة الدينية في سموها الراهن. يكفيهم فخرا أن القدس العربية (يبوس) تحظى بهذه القدسية عبر التاريخ والعصور والجغرافيا.
بمناسبة تأسيس الكيان الصهيوني في أيار الماضي، هنأت أورسولا فون دير لاين السيدة الألمانية ورئيسة المفوضية الأوروبية قادة الكيان قائلة لهم: لقد حولتم الصحراء الى مروج خضراء! أتساءل هنا عن موضوعية تلك الكذبة التي روجوا لها عبر عقود عديدة: أين هي الصحراء التي تحولت الى مروج خضراء؟ هنالك في فلسطين صحراء واحدة هي صحراء النقب كانت وما تزال كذلك! وبالرغم من كونها صحراء فقد عمد أجدادنا الأنباط الى استزراع مساحات منها بتقنيات مبدعة حتى بالمفهوم العصري إذ شقوا القنوات الحجرية لتجري عبرها مياه الأمطار الى كهوف منحوتة في الصخر فتخزن هناك لتستخدم في الصيف القاحل لأغراض شتى.
هي صناعة الحياة التي لا تعرفينها أيتها السيدة ولا يعرفها الصهاينة الذين تدعمينهم! لقد أبدع أجدادنا أكثر من ذلك فاستنبطوا تقنية “الرجوم” الحجرية التي تغرس في مراكزها أشجار الكرمة فترتوي من دقائق الضباب العالق في الهواء والمتكثف عليها في الصباح الباكر. لقد تمكنوا عبر تلك التقنية من حصاد الضباب في صحراء النقب وأنتجوا أطيب الأعناب التي بنوا لعصرها دوسا بالأقدام الأحواض الحجرية ذات المزاريب التي ينساب منها عصير العنب فيتحول الى نبيذ فاخر. آثارهم تلك ما تزال موجودة في النقب الغربي كما هو الحال في بلدة “عبدة” النبطية. قولي لي بالله عليك أين هي آثار ممالك اليهود المزعومة في فلسطين؟
أما إن كنت تقصدين بالصحراء التي حولها الصهاينة الى جنان “صحراء” الجليل أو “صحراء” بيارات البرتقال في يافا ومحيطها فإنه سيكون أمرا مثيرا للضحك وهو يفضح حجم الكذب والانحياز السافر لأولئك الغزاة! دعيني أذكرك بأنه قبل أن يكون هناك شعب الماني بل وقبل أن يطرأ على التاريخ ذلك الهم الكبير الذي يسمونه الديانة اليهودية عرف أجدادنا أساليب صيانة التربة من الانجراف وحولوا سفوح جبالنا الى “حواكير” غناء.
هل تعرفين حجم الإبداع والجهد البدني الذي بذله آباؤنا لبناء المصاطب الحجرية على سفوح جبال الخليل والقدس ونابلس ليصنعوا من تلك السفوح حقولا مكسوة بكروم العنب والتين والتفاح والزيتون. هل تعرفين ما يعنيه ذاك العطاء البدني المتعاقب جيلا تلو جيل! لو عرفت لأدركت حجم حبنا لترابنا الوطني ومدى استعدادنا للذود عنه مهما عظمت التحديات وادلهمت الخطوب. لو عرفت ذلك لخجلت من كذبك. لكنك ومن حذا حذوك من ساسة الغرب مستمرون في انكار حق الشعب الفلسطيني في الوجود ومستمرون في مقارعته منذ أكثر من قرن من الزمان لكن هذا الشعب الصغير في عدده والكبير بروحه وتوقه للانعتاق من ذلك الظلم السافر لم يستسلم قط. هو يقدم قوافل الشهداء قافلة تلو أخرى ولم ولن يفقد الأمل بالحرية والخلاص. تخيلوا أيها السادة حجم الانحياز الغربي لدولة الكيان وتخيلوا لو انحسر ذلك الدعم قليلا عن أولئك الصهاينة. هل تظنونهم سيصمدون شهورا وليس سنينا؟ كيانهم ليس سوى كيان لقيط مربوط الى الغرب المجرم بحبل الصرة. هذا الحبل سينقطع يوما وستكون نهاية الكيان حتمية آنئذ تماما كما كانت نهاية نظام جنوب إفريقيا العنصري.
أقول دائما أن الصهاينة لن يحتملوا عشر معاناة الشعب الفلسطيني المظلوم والمرابط في وطنه والراسخ في أرضه رسوخ جبال الجرمق (أعلى جبال فلسطين، 1204م) ونابلس والقدس والخليل. لقد تقاطر أولئك الغزاة من كافة أرجاء المعمورة لينهبوا وطنا ويقتلعوا شعبا مسالما من أرضه. أولئك الغزاة ليسوا مدنيين كما يروج الغرب لهم لأن كل من يشارك في جريمة أو يصمت عنها أو يستثمرها لصالحه هو مجرم قطعا. لقد أوصد الغربيون قلوبهم وصمُوا أذانهم وأغلقوا عيونهم فهم لا يستمعون الى آهات الجرحى أو عويل الأمهات المكلومات وهم لا يرون دماء أطفالنا الذين لم تتفتح عيونهم على الحياة بعد والتي تراق كل يوم. لو كان لدى الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن قلب رحيم لأوقف تلك المجازر منذ بداياتها لكنه لا يرى سوى مائة وعشرين أسيرا صهيونيا جاءوا من أقاصي الأرض ليحلوا محل شعب مظلوم ويحتجزونه في سجن مفتوح اسمه قطاع غزة. لقد انفطر قلب ذلك الرئيس عندما علم بمقتل الصهيوني هيرش جولدبيرغ الذي جاء الى بلادنا غازيا ومدفوعا بالجشع الغربي والأساطير الصهيونية.
لم ينفطر قلب الرئيس الأمريكي لمقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين لأنه محروم من المشاعر الإنسانية. أي وحشية وسقوط أخلاقي هو ذاك الذي نشهده! وعلى الضفة الأخرى للأطلسي، أعلن وزير الدفاع البريطاني، جون هيلي، أنّ تعليق بلاده بعض مبيعات الأسلحة لـ “إسرائيل” لن يشمل طائرات F-35 وذلك في “استثناء مقصود ومتعمّد” مضيفاً أنّ التعليق لن يهدد قدرة إسرائيل في الدفاع عن نفسها. أي أن لسان حاله يكاد أن يقول: يمكنكم الاستمرار في قتل الفلسطينيين لكن بوتيرة أقل حدة! هل هناك رياء أكثر انحطاطا من هذا! لقد علمتنا ثقافتنا فضائل لا تعرفونها أنتم الغربيين: علمتنا أن نصفح عند المقدرة وأن نرحم المقهور وأن نعفو عند الاقتدار وأن نصون حياة وكرامة الأسير. لقد خبرنا وحشيتكم وتعطشكم للدماء في صراعاتنا معكم في الماضي البعيد والقريب، خبرناها في قرطاج هاني بعل وفي بيت المقدس وعكا صلاح الدين وفي الأندلس وفي جزائر الأمير عبد القادر وفي ليبيا شيخ الشهداء عمر المختار. ورغم كل ذلك، نحن لن نسمح لوحشيًتكم أن تصوغ سلوكنا!
قال لي صديق ذات مرة: لا تخشى الصهاينة ما دام فطورهم يتكون من المربى والزبدة وخبز (التوست). عندما يتحولون في طعامهم الى خبز الطابون أو التنور والزيتون والزيت والزعتر والجبنة البلدية يمكنك القول بأنهم تجذروا في بلادنا ومع ذلك لا تقلق أيضا لأنهم آنذاك سيكون قد تم هضمهم وأعيد تمثيلهم حيويا ليتحولوا الى فلسطينيين تماما مثل كل الغزاة الذين سبقوهم. ليتكم أيها الغربيون تبتلعون ألسنتكم وتعيرونا صمتكم فقد قرفنا من كذبكم وانحيازكم الصارخ لأعدائنا ومن طروحاتكم المكرورة عن حقوق الإنسان والعدالة والسلام.
مفكر عربي
المصدر: رأي اليوم