بقلم: د. كمال ميرزا
على مدار الأسبوعين الأخيرين، لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع بتصريحات “متفائلة” تصدر عن أطراف أمريكيّة وقطريّة ومصريّة وحتى “إسرائيليّة” تتحدث عن ما تُسمّى مفاوضات “التهدئة” أو “الهدنة” أو “وقف إطلاق النار” في غزّة، وعن التقدّم الحاصل في هذه المفاوضات، وعن النجاحات المتحقّقة في رأب الفجوات وتقريب وجهات النظر!
آخر هذه التصريحات تلك الصادرة عن الرئيس الأمريكيّ المنتهية مدة صلاحيته “جو بايدن” والذي قال: “حان الوقت لتنتهي الحرب في غزّة ولا أزال متفائلاً بشأن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار”.
الغالبية ينظرون إلى مثل هذه التصريحات باستخفاف، ويعتبرونها موضع تندّر وسخرية، وظاهريّاً معهم حقّ، فما هو المغزى من مثل هذه المفاوضات العبثيّة؟ حيث الأمريكان والإسرائيليون يفاوضون بعضهم البعض، ويجبرون الوسيطين المصري والقطري على المشاركة في هذه المسرحية السمجة، في حين أن الطرف الأهم، أي فصائل المقاومة الفلسطينيّة، غير حاضرة في هذه المفاوضات، وغير معنيّة بما يصدر عنها من مقترحات وتوافقات جديدة، باعتبار أنّها متمسّكة بالصيغة التي سبق وأن وافقت عليها في تموز/ يوليو الماضي، وهي غير معنيّة بمناقشة أي أفكار جديدة، خاصة تلك التي يطرحها الأمريكيّ انحيازاً للإسرائيليّ ولمطالب وتلكّكات “نتياهو” التي لا تنتهي!
لكن هل هذه المفاوضات عبثيّة حقاً؟ وهل العدو الصهيو – أمريكيّ بمثل هذا السخف، والوسيطين المصري والقطري بمثل هذه السذاجة.. حتى يتعاملوا جميعهم بكلّ هذه الجديّة مع مفاوضات يُفترض أنّها فاشلة سلفاً ومكشوفة و”مفقوسة” بالنسبة للجميع؟
المسألة تتعدّى مجرد شراء الوقت.
هَب أنّ المتفاوضين قد خرجوا بالفعل بصيغة اتفاق يباركونها جميعاً، ما الفائدة طالما أنّ هذه الصيغة لن تحظى بموافقة فصائل المقاومة الفلسطينيّة؟
هنا مكمن السؤال الخطير والحسّاس؟
ماذا لو وافق على هذا الاتفاق طرف آخر غير فصائل المقاومة؟
ماذا لو وافق عليه “محمود عبّاس”؟
أليس هو الرئيس الفلسطينيّ “الشرعيّ”؟
أليس هو رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة “الشرعيّة”؟!
أليس هو رئيس اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة “الممثّل الشرعيّ والوحيد للشعب الفلسطينيّ”؟
وموافقة “عبّاس” ستستدعي ضمناً موافقة الأنظمة العربيّة، والتي هي من جهة ما تزال لغاية الآن تصرّ بعناد على عدم الاعتراف بفصائل المقاومة الفلسطينيّة كحركات تحرّر وطنيّ مشروعة، ومن ناحية أخرى لديها باع طويل في التواطؤ واقتراف الموبقات بحق أشقائهم العرب بذريعة “دعم الشرعيّة”!
سيقول الكثيرون أنّ إقدام “محمود عبّاس” و”السلطة الوطنيّة” على مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة “طعنة في الظهر” لا تُغتفر.. لكن تسويغ وتبرير وتسويق هذه الخطوة هي مسألة أسهل كثيراً مما يظنّ هؤلاء!
في البداية يتم الإعلان عن صيغة الاتفاق التي توصّل إليها المتفاوضون، والتهليل والتطبيل لها باعتبارها أفضل صيغة ممكنة، وباعتبارها “الفرصة الأخيرة” التي تراعي مصالح الجميع وتصبّ في مصلحة الجميع..
وبموازاة ذلك يتم زيادة جرعة الضخّ الإعلاميّ بخصوص المعاناة الإنسانية والوضع الإنساني الكارثي في غزّة، وربما اقتراف مذبحتين أو ثلاث مذابح جديدة هنا وهناك لتعزيز وتكثيف هذه الثيمة..
فصائل المقاومة سترفض صيغة الاتفاق بطبيعة الحال..
وعندها ستزداد جرعة النقد والهجوم والاتهامات (التي لم تتوقّف أساساً) الموجّهة لفصائل المقاومة بأنّها لا تُلقي بالاً لأهالي غزّة، وأنّها تقامر بدمائهم ومعاناتهم، وأنّها المسؤولة عن كلّ القتل والدمار الحاصل بكونها هي التي بادرت باستفزاز العدو ومنحته الحجّة والذريعة..
وغالباً سيرافق ذلك ترويج إشاعات قديمة جديدة بأنّ سبب ممانعة قيادات المقاومة الحقيقيّ هو أنّهم معنيّون في أي اتفاق سيبرم بسلامتهم ومصيرهم الشخصيّ هم وعائلاتهم، ولا يلقون بالاً لمصير أهالي غزّة..
ومع تصاعد اللغط، وزيادة التأزيم، يقرر الرئيس الفلسطينيّ أنّه لا يستطيع السكوت أكثر من ذلك، وأنّ التزامه الوطنيّ والأخلاقيّ و”النضالي” يُملي عليه أن يقف، ويتحمّل مسؤوليته التاريخيّة و”الدينيّة”، ويعلن باسم الشعب الفلسطينيّ موافقته على اتفاق الهدنة حقناً لدماء أهالي غزّة و”الأبرياء من الطرفين”، وذلك بالتزامن مع إصراره على زيارة غزّة، والدخول إليها “عنوة” دخول الفاتحين (ولو على الأنقاض).. تسانده في ذلك أقلام مأجورة وأبواق إعلاميّة وطنيّة وعربيّة لم تتوقّف لحظة عن مهاجمة المقاومة وشيطنتها لصالح العدو والمتواطئين معه..
وربما يتم تعزيز موقف “عباس” بقرار صادر عن جامعة الدول العربيّة (هل تذكرونها؟) يعلن تثمينه لجهود الوسيطين المصريّ والقطريّ، وتأييده لاتفاق الهدنة، ووقوفه وراء “الشرعيّة الفلسطينيّة” والرئيس “عبّاس”!
وربما يصار أيضاً إلى استصدار قرار أمميّ بهذا الخصوص، وذلك في حال النجاح في مساومة الروس والصينيّين من أجل تمرير مثل هذا القرار ولو من خلال الاكتفاء بالامتناع عن التصويت!
مثل هذه السيناريوهات المفضوحة والأفلام المحروقة لطالما حدثت من قبل.
ورهان العدو الصهيو – أمريكيّ الأكبر لطالما كان على الانقسامات العربيّة الداخليّة، وحقد العرب على بعضهم البعض.. لكي يحقق في الغرف الخلفيّة والمغلقة ما يعجز عن تحقيقه في ميادين القتال!
ولا يحتاج الأمر إلى عبقريّة فذّة من أجل إدراك سرب العصافير الكامل الذي سيتمكن العدو من ضربه بحجر واحد جرّاء مثل هذه الخطوة..
سواء من حيث نقل سلطة “التنسيق الأمنيّ” إلى غزّة بعد أن انتهت مهمتها في الضفة التي شرع العدو الصهيوني بإعادة احتلالها وضمّها بالفعل بعد أن تم إنضاجها على نار هادئة على مدار سنوات، وتكريس فكرة أنّ الدولة الفلسطينيّة (في حال سيكون هناك دولة فلسطينيّة) هي غزّة أو في غزّة والضفة خارج هذه الحِسبة..
أو من حيث شحن “قوّات دايتون” من الضفة إلى غزّة، تلافيّاً لأي “صحوة ضمير” غير محسوبة قد تقع بين منتسبيها بفعل ما يرونه من تفاقم جرائم العدو بحقّ أهلهم في الضفة، ولتشرع هذه القوّات التي تعاني من شبه بطالة منذ حوالي أحد عشر شهراً بتأديّة العمل الذي تمّ تدريبها عليه وتتقنه أكثر من أي شيء آخر، وهو ملاحقة فصائل المقاومة، والتنكيل بها، وتصفيتها على يد أشخاص منهم وفيهم ومن لحمهم ودمهم.. تعاونها في ذلك ميليشيات عشائريّة محليّة محسوبة على “أبو فلان” و”أبو علتان”، وبدعم أبناء عمومتهم المليشيات العشائريّة التي تمّ تأسيسها عبر الحدود في سيناء بتمويل خليجيّ على طريقة “حمدتي” وما تسمّى “قوّات التدخّل السريع” في السودان..
أو من حيث التمهيد لأدوار أمنيّة تلعبها دول عربية (وإسلاميّة) في غزّة بحجّة ضمان اتفاق الهدنة ودعم الشرعيّة!
مرّة أخرى، مثل هذه السيناريوهات والأفلام المحروقة سبق لنا أن شاهدناها في السياق العربي بحبكات وتخريجات متنوعة.. لكن الرهان في “طوفان الأقصى” و”رعب المخيّمات” أنّ فصائل المقاومة وحاضنتها الشعبيّة والوعي الجمعيّ الفلسطينيّ والعربيّ قد أظهر أنّه يعي دروس الماضي جيداً، وأنّه يدرك مثل هذه الخدع والمناورات، وأنّه قد استطاع لغاية الآن أي يبقى متقدّماً بخطوة أو خطوتين على حيل العدو وألاعيبه.
والقول الفصل يبقى كما كان منذ اليوم الأول وحتى إشعار آخر لصمود الشعب الفلسطينيّ البطل، و”وحدة الساحات”، و”الميدان”.
كاتب اردني
المصدر: رأي اليوم