2024-11-30 01:51 ص

حرب في الضفة من أجل سلامة المستوطنين

2024-08-30

بقلم: جمال زحالقة
شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي هجوما واسعا على شمالي الضفة الغربية ليلة الأربعاء هذا الأسبوع. واقتحمت أعداد ضخمة من الجنود والمجنزرات والمدرعات والجرّافات مخيم نور شمس في طولكرم، ومخيم جنين ومخيم الفارعة جنوبي طوباس. وأدّى العدوان الإسرائيلي الواسع إلى استشهاد وجرح أعداد كبيرة من المواطنين الفلسطينيين. وفرض الجيش الإسرائيلي حصارا على مدن فلسطينية وعلى مخيمات لاجئين ونصب حواجز إضافية شلت حركة الناس في أنحاء واسعة من الضفة الغربية. وقامت قوات أخرى لجيش الاحتلال بعمليات عسكرية عدوانية في مدينة نابلس ومخيماتها وفي منطقة غور الأردن وعدد من القرى الفلسطينية.
مع بداية شن العملية، نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية تقديرات متقاربة جدا، ما يدل على أنها استقتها من القيادة العسكرية لجيش الاحتلال. وجاء فيها أن العملية هي الأوسع منذ 22 عاما، أي منذ عملية «السور الواقي» التي نفّذتها إسرائيل في الضفة وغزة، وأنّها ستتواصل لأيام وربما أسابيع. لقد شن شارون هجوم «السور الواقي»، بعد عمليات تفجيرية صادمة، أما العملية الجديدة المسماة بالاسم الغريب «معسكرات صيفية»، فهي ليست ردا على حدث انطلق من الضفة الغربية، ولها اعتبارات وسياقات مخالفة.
لقد نشرت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية أن العامل المباشر لتوقيت حملة جيش الاحتلال في شمال الضفة، هو عملية التفجير في تل أبيب. وذهب آخرون إلى أن العملية تأتي شهرا قبل موسم الأعياد اليهودية «وليس بالصدفة»، ما يعني أن الجيش يريد ضمان أعياد آمنة ومريحة للشعب العبري، على الأقل في منطقة المركز المحاذية للضفة.
قد تكون هناك حجج أخرى للإجابة على سؤال لماذا الآن؟ لكن الأهم من ذلك بكثير هو سؤال ما السياق وما الدافع لهذه العملية الواسعة؟
عنف الاحتلال هو صفة ملازمة له، وهو ليس في حاجة لمناسبة أو لتبريرات كثيرة للخروج إلى حيّز التنفيذ. الاحتلال هو مصدر عنف لا ينضب، وبقاؤه واستمراره يعتمدان على البطش بالرازحين تحته بلا توقّف، وعلى سعي دائم لقمع الكفاح ضده ومقاومته. وتكثيف العنف على شكل عدوان عسكري في الزمان والمكان، له سياقاته الخاصة ومآربه العينية، ولعل أهمها في العدوان الحالي:
أولا: استغلال الانشغال بالحرب على غزة وبالقتال على الجبهة اللبنانية للقيام بعمليات عسكرية واسعة في الضفة الغربية، دون أن يثير ذلك احتجاجا دوليا وإقليميا وازنا. وفي هذا السياق ادّعت بعض النخب الأمنية الإسرائيلية أنّ العملية تهدف، في ما تهدف، إلى وأد أي إمكانية أن تتحوّل الضفة الغربية إلى جبهة إضافية فاعلة تثقل على الجيش الإسرائيلي وتصعّب عليه الحرب على غزة، والقتال ضد حزب الله، ومواجهة تحديات على جبهات أخرى. ويبدو أن إسرائيل في طريقها للفشل في تحقيق هذه الغاية، فهي من حيث جاءت لتكبت فقد أثارت. هي تقول ليل نهار إنها لا تريد مواجهة متعددة الجبهات، لكنّها في الحقيقة تبادر إلى تسخين خط مواجهة إضافي.

ثانيا: تندرج العملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة في إطار «حرب سلامة المستوطنين في الضفة الغربية»، التي لم تعد حملات وعمليات عسكرية متباعدة ومتناثرة، وتحوّلت إلى حرب ممنهجة ومتواصلة، تأتي على شكل حملات مكثفة في مواقع محددة، لكنها في المجمل بات حربا واحدة. لقد حصل هذا التحوّل قبل السابع من أكتوبر وزاد بشكل كبير بعده، لأن المستوطنين أصيبوا بالرعب، ونقلوا للقيادة الإسرائيلية ذعرهم من إمكانية أن يتعرّضوا لما تعرّض له مستوطنو غلاف غزة. هذه القيادة تصغي لهم جيّدا وتعمل كل ما تستطيع لطمأنتهم و»الحفاظ على سلامتهم» وحمايتهم بمراكمة عمليات القتل والتدمير.

ثالثا: يأتي استهداف شمال الضفة الغربية تحديدا في أعقاب إلغاء الكنيست لبنود قانون «فك الارتباط» الخاصة بمستوطنات شمال الضفة الغربية، واتخاذ قرارات حكومية بتجديد الاستيطان في تلك المنطقة وتكثيفه. العقبة الكأداء أمام تنفيذ هذا المشروع هي عدم توفّر حالة أمنية تبعث الطمأنينة عند النواتات الاستيطانية، التي يجري تجهيزها للزرع في قلب محيط نابلس وطولكرم وجنين وطوباس. الطمأنينة الأمنية عند المستوطنين غائبة بسبب وجود فصائل المقاومة بشكل مكثّف في هذه المدن ومحيطها، وبالأخص في مخيمات اللاجئين، ومن هنا جاء استهدافها بشكل وحشي. ويبدو أن العملية العسكرية الحالية وما قد يليها هي مؤشّر لحملة استيطانية كبرى في شمال الضفة الغربية.

رابعا: ينسجم عدوان جيش الاحتلال الحالي مع التحوّلات الحاصلة في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي. وفي مقدمة ذلك انتقال مركز الثقل من الردع إلى المنع. فبعد أن طغت صناعة الردع لسنوات طويلة، جاء السابع من أكتوبر، وخرجت النخبة الأمنية الإسرائيلية باستنتاج سريع وهو أنّه لا يمكن الاتكاء على الردع، إذ لا يمكن ردع من لا يرتدع، خاصة في حال منظمات ومقاتلين مثقلين بالعقيدة ومتحمسين لمقاومة الظلم ومستعدين للتضحية. الجيش الإسرائيلي لم يتنازل عن استراتيجية الردع، لكنّ وزنها خفّ، مع أنّها لا زالت أحد الأرجل الأربعة، التي يستند إليها مفهوم الأمن القومي الإسرائيل (الإنذار والردع والدفاع والحسم). لم تجر، إلى الآن، إضافة المنع رسميا إلى مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، لكنّ استراتيجية المنع تحولت عمليا إلى استراتيجية مركزية في إطار مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وقد زاد وزنها بشكل دراماتيكي بعد صدمة السابع من أكتوبر. وينطلق الجهد العسكري والأمني الإسرائيلي في الضفة الغربية من منطلق المنع، فهو ليس ردا على ما يحدث بل تراه القيادة الإسرائيلية منعا لما قد يحدث في نظرها.

خامسا: تأتي العملية الإسرائيلية استكمالا لحرب غزة. ولو تمعّنا جيدا في أهداف الحرب المعلنة نجد أنها تشمل «القضاء على حكم حماس في غزة» وعلى تفكيك حركة حماس، دون تحديد مكان، ما يعني تفكيكها في المجمل في غزة والضفة والقدس والشتات. صحيح أن العدوان الإسرائيلي يستهدف كافة فصائل المقاومة، لكن لحركة حماس حصة الأسد في هذا الاستهداف.

سادسا: تستهدف حملة جيش الاحتلال مخيمات اللاجئين بشكل خاص، وهي تلجأ لتكتيكات عصابات الهاجاناة في حرب 1948، وهي محاصرة المكان الآهل بالسكان من كافة الجهات، وإبقاء منفذ للهرب، ثم تقوم بالقصف، فيضطر الناس للخروج، ثم تدّعي أنها لم تهجّرا أحد بل هم تركوا المكان. وكما دمّرت إسرائيل القرى حتى لا يعود إليها الناس، تقوم هذه الأيام بتدمير ممنهج للمخيمات لإجبار السكان على الفرار حفاظا على حياتهم وحياة عائلاتهم وأولادهم. وهي تعود أيضا إلى الأساليب ذاتها التي طبقّتها في غزة بتدمير البنى التحتية وجرف الشوارع في المخيمات لجعلها مناطق غير صالحة لحياة البشر.

سابعا: يبدو أن هذه الحرب ستطول كثيرا، فقد حدث انقلاب في التعامل الإسرائيلي مع طول مدة الحرب. باختصار يمكن القول إن مفهوم «الحرب السريعة الخاطفة»، الذي كان سائدا في الذهنية الحربية الإسرائيلية في محاربة دول عربية، لم يعد سيد الموقف، وأصبح من المقبول عند النخب العسكرية الإسرائيلية خوض الحروب الطويلة ضد منظمات مقاتلة، وقد حدث ذلك فعلا في عملية «السور الواقي» عام 2002، وفي الحرب على غزة، التي اعتقد الكثيرون أنها سوف تستمر لأسابيع، وها هي تتواصل لأشهر طويلة، وليس مستبعدا أن تستمر لسنوات. وعليه يمكن الاستنتاج بأن «حرب سلامة المستوطنين»، تبعا لأهدافها وسياقاتها، ستكون حربا طويلة، وستأخذ شكل عمليات عسكرية متقطعة ومتكررة. ومهما كان شكلها فهي «حرب»، تبدأ من فرضية عدم وجود أي أفق لحل سياسي أو حتى لتسويات مرحلية، وأن «الحل العسكري» هو الممكن بإجماع إسرائيلي وهو المرغوب فيه بإجماع اليمين الإسرائيلي، الذي يدعمه حوالي ثلثي اليهود الإسرائيليين.
ما يحدث في الضفة الغربية هو انطلاق حرب استنزاف إسرائيلية مقصودة، هدفها إنهاك المقاومة وإضعافها، لتسهيل التوسّع الاستيطاني، وقضم مناطق إضافية في الضفة الغربية. ومن أهدافها أيضا تدمير المخيمات ومحاصرة الوجود الفلسطيني، وقمع أي حالة مقاومة للاحتلال.
مرة أخرى، لا يمكن مواجهة العدوان الإسرائيلي الإجرامي على شعبنا الفلسطيني، دون إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة على أساس التوافق السياسي الوطني، وعلى أساس المسؤولية عن مصير هذا الشعب، ووحدة هذا المصير.

كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي