أدى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، إسماعيل هنية، في طهران نهاية يوليو/تموز الماضي إلى حدوث هزةٍ شديدةٍ داخل الحركة، التي تحاشت، وربّما صعبت الظروف الضاغطة عليها استخلاص العبر المناسبة من الاغتيال، بما في ذلك تقييم العلاقة مع إيران وحلفائها، خاصّةً بعد اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري في معقل حزب الله بالضاحية الجنوبية لبيروت مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، حينها بدا اختيار مسؤول قطاع غزّة والقائد العام فيها، يحيى السنوار، خلفاً لهنية تعبيراً عن الأزمة أكثر مما هو جزءٌ من الحل، بما في ذلك تدشين ما يشبه المرحلة الانتقالية بالحركة، التي قد تمتد لشهورٍ طويلةٍ بانتظار إجراء الانتخابات الداخلية، المقررة نهاية العام الجاري، وربّما أيضاً مآلات حرب غزة، التي انتهت بالشكل الذي عرفناه خلال الشهور العشرة الماضية، مع بداية مرحلةٍ جديدةٍ لم تتضح معالمها النهائية تماماً، بما في ذلك سيناريوهات اليوم التالي للحرب، في حال انتهائها بمراحلها المختلفة.
لفهم القصة كاملة، ومنذ بدايتها، لا بدّ من الرجوع إلى انتخاب إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي العام لحماس قبل سبع سنوات 2017، مع انتخاب السنوار رئيساً للحركة في قطاع غزّة، وقائداً لها في سياق تحولاتٍ ومعطياتٍ هدفت إلى إعادة القرار إلى غزّة، باعتبارها مركز ثقل حماس الرئيسي، كما كان الحال قبل عقدين زمن الشهداء المؤسسين أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ورفاقهما من الرعيل الأول، صلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب وآخرين.
لم تسمح مصر لهنية بالخروج من غزة، لممارسة صلاحياته قائداً عاماً للحركة، إلّا بعد ثلاث سنوات 2020، من هنا يمكن فهم إعادة انتخابه لفترة أخرى في 2021، لإعطائه فرصةً إضافيةً لممارسة صلاحياته ومهامه.
لكن خلال وجود هنية في غزّة نجح السنوار في إحكام قبضته على غزّة والحركة عامةً (تعطيه اللائحة صلاحية التحكم والحسم في ملفات المنطقة التنظيمية الثلاث المركزية والأساسية، المتضمنة المصالحة مع فتح وسلطة رام الله، والصراع مع إسرائيل، والعلاقة المركبة والمتداخلة مع مصر)، ورسم الإطار العام لسياسات الحركة بالتنسيق مع نائب رئيس المكتب السياسي العام، الشهيد صالح العاروري، المقيم في الخارج، إسطنبول ثم بيروت. هنا انزاحت الحركة أكثر نحو تغليب وطغيان الجانب العسكري، وبنظرة إلى الوراء، بدا المشهد كلّه تحضيراً لعملية "طوفان الأقصى"، التي ورغم بداياتها الأولى المبهرة إلّا أنّها ارتدت ارتداداً كارثياً ومأساوياً على غزّة، والشعب الفلسطيني عامةً، مع الافتقاد الواضح للاستراتيجية، وعجز العسكر، المتوقع، عن بلورة طريقٍ للخروج، ورؤيةٍ واضحةٍ لليوم التالي، في حين تبدو مساعي العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول (وقف إطلاق النار النهائي، وانسحاب الاحتلال التام من قطاع غزّة، ودخول المساعدات، وعودة النازحين)، بمثابة إهدارٍ لتضحيات الغزيين وعذاباتهم، وتعبيراً عن أزمة الحركة ومأزقها، لا عن حلٍّ لها.
بعد ثلاث سنوات على إعادة انتخابه، وقبل نهاية فترته الثانية والأخيرة، حيث لا يملك إمكانية الترشح لأكثر من فترتين، حسب اللائحة الداخلية للحركة، اغتيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية طهران، بطريقةٍ غادرةٍ خسيسةٍ ومهينةٍ، ورغم مرور أسابيع، لم تصدر روايةٌ إيرانيةٌ رسميةٌ حتّى الآن حول ما جرى فعلاً ليلة 31 يوليو/تموز، إضافةً إلى عدم الرد على الإهانة الإسرائيلية المدوية. ذلك كلّه لم يؤدِّ إلى مراجعة الحركة لعلاقتها مع طهران، كون الاغتيال يمثل دليلاً ساطعاً على عقم العلاقة برمتها، وعجز إيران عن حماية قادة الحركة بعقر دارها، ناهيك عن التأثير، جدياً وإيجابياً على الصراع مع إسرائيل عامةً، خاصّةً مع حضورها التاريخي الخجول والمتواضع في القضية الفلسطينية، والقضايا العربية والإسلامية عامةً.
يمكن القول، استطراداً، أنّ علاقة حماس مع إيران ليست استراتيجيةٍ، ولم تكن يوماً كذلك، لا شكلاً ولا مضموناً، وطهران كانت ولا تزال بعيدةً تماماً، تاريخياً وجغرافياً وسياسياً وفكرياً عن فلسطين وقضيتها. في السياق ذاته، بدا مشهد تشييع هنية في طهران صادماً جداً، مع طغيان الرموز والمظاهر الطائفية عليه، خاصّةً مع تذكر مراسم تشييع شهدائنا وقادتنا العظام، أبو جهاد الوزير، وأبو إبراهيم الشقاقي، وأبو حسن سلامة، وأبو عمار، وأبو علي مصطفى، وأحمد ياسين في دمشق وبيروت ورام الله وغزّة.
كذلك؛ وباستحضار عملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، صالح العاروري، في ضاحية بيروت الجنوبية قبل ثمانية شهورٍ، وبنظرةٍ إلى الوراء أيضاً، يفترض أن يمثّل ذلك فرصةً لمراجعة العلاقة كلّها مع ما يسمى محور المقاومة برمته، خاصّةً مع استغلاله الانتهازي لحرب غزّة والقضية الفلسطينية، لتحقيق مصالح فئويةٍ ضيقةٍ بعيداً عن تطبيق مفهوم وحدة الساحات، كما نظر وروّج له المحور وأبواقه الدعائية طوال السنوات الماضية، المتضمن انخراطاً جدياً وفعالاً لكلّ جبهات المحور وأعضائه المزعومين، خاصّةً دول الطوق، في أيّ حربٍ قادمةٍ مع إسرائيل.
أما قصة اختيار السنوار خلفاً لهنية، فبعد الاغتيال، وفي ظلّ غياب رئيس المكتب السياسي، ونائبه صالح العاروري بصفته مسؤول الضفّة الغربية، كان يفترض اختيار خالد مشعل، كونه رئيس المكتب السياسي في الخارج، ونظراً إلى خبراته وقدراته وعلاقته الواسعة، كما موقعه التنظيمي، الذي يجعله بمثابة نائبٍ لرئيس المكتب العام، وخصوصاً في ظلّ تواجد السنوار في غزّة، وغيابه عن السمع لفتراتٍ طويلةٍ، وعجزه عن القيام بمهامه التنظيمية والمدنية كما ينبغي، في غزّة والخارج أيضاً.
مع ذلك؛ عرقلت جماعة غزة/ العسكر هذا الخيار لأسبابٍ عدّة، منها أنّها لم ترَ أحدًّا من أعضائها مناسباً ويملك قدراتٍ مماثلةً، ويمكنه منافسة مشعل وتحديه، كما رفضت فكرة تشكيل لجنةٍ مؤقتةٍ لإدارة الحركة جماعياً، يرأسها رئيس مجلس الشورى، برلمان الحركة، حتّى الانتخابات المقررة بعد أشهرٍ، وتضم رؤساء المكاتب المناطقية أو نوابهم، أي مشعل مع نائب مسؤول غزة خليل الحية، ونائب مسؤول الضفّة زاهر جبارين. عندها طرح فريق هنية وغزّة والعسكر اسم السنوار، ولم يعترض عليه أحدٌ بالطبع، وبدا الأمر، ظاهرياً على الأقلّ، تقديراً وتكريماً وحمايةً وحصانةً له، ما قد يسمح بخروجه من غزّة في صفقةٍ ما، حتّى لو بدا الأمر ضعيف الاحتمال، وتتضاءل فرصه أكثر مع الوقت.
من جهةٍ أخرى، يظهر اختيار السنوار رغبةً في مواصلة النهج الراهن نفسه، وفي غياب هنية والعاروري سيحل محلهما الحية وجبارين، ما يعني المراوحة في المكان ذاته، والمضي في المسار السابق نفسه، وانتظار مآلات الحرب وتطوراتها. وعليه لا تبدو قصة الانتخابات حتميةً، حتّى لو بالخارج والضفّة الغربية فقط، مع التمديد لمسؤولي قطاع غزّة، وربّما تأجل العملية الانتخابية برمتها، تحت شعاراتٍ برّاقةٍ، مثل لا انتخابات من دون غزّة، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وما إلى ذلك.
فعلياً، تبدو فكرة الذهاب إلى الانتخابات ضروريةً وحتميةً، حتّى لو كانت في الخارج والضفّة فقط، ومن دون انتظار مآلات الحرب في غزّة وتطوراتها، بل على العكس، ستظهر الانتخابات الحيوية التنظيمية، بما في ذلك محاولات مراجعة التجربة، واستخلاص العبر، وبالطبع ضخ دماءٍ شابةٍ وحيوية في الجسم التنظيمي.
في الأحوال كلّها، وبناءً على المعطيات السابقة، وفي الصورة العامة وبالرغم من استمرار المقاومة المتفرقة في غزّة هنا وهناك، والاحتفاظ بنصف الأسرى، إلّا أنّ إسرائيل، ونتيجةً لفارق القوة الهائل، والميزان المختل لصالحها، قد نجحت في توجيه ضرباتٍ قويةٍ جداً للقدرات السلطوية والعسكرية لحماس، لكن من دون القضاء التام عليها، وهي مهمةٌ تحتاج لسنواتٍ، وغير مضمونة النتائج، بل تبدو مستحيلةً، في ظلّ جذور الحركة القوية بالبيئة الفلسطينية، في الداخل والشتات.
بالعموم أيضاً، ثمة ضرورة ملحة لتبني ذهنيةٍ ومقاربةٍ جديدةٍ حمساوياً ووطنياً، بعيداً عن محاولات الهروب الممنهج إلى الأمام، بما في ذلك تشكيل قيادةٍ منتخبةٍ وهادئةٍ، تتجاوز الإطار التنظيمي الضيّق نحو البعد الوطني الرحب، وبالسياق، تبدو مرحلة ما بعد نكبة 2024 مشابهةً تماماً لمرحلة ما بعد النكبة الأولى 1948، بمعنى أننا بحاجةٍ إلى تغييرٍ كبيرٍ في الشخوص والأطر، لعدم الاستسلام ومواصلة النضال المحقّ والعادل، وعلى حماس أن تكون جزءاً مركزياً من هذا التغيير، حتى لا تمضي وتفرض الوقائع بدونها.
المصدر: العربي الجديد