2024-09-13 09:32 م

كولومبيا.. من صداقة “إسرائيل” إلى خصومتها

2024-08-22

“بالفحم الكولومبي يصنعون القنابل لقتل أطفال فلسطين”.. هكذا غرد الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، في منشور له على منصة “إكس” أمس الأحد، تعليقًا على مرسوم حظر تصدير الفحم لـ”إسرائيل”، الذي أصدرته بلاده في 14 من الشهر الجاري، تنفيذًا لما تعهد به الرئيس سابقًا في يونيو/حزيران الماضي حين أعلن أن كولومبيا ستوقف صادراتها من الفحم لدولة الاحتلال إلى أن توقف “الإبادة الجماعية” ضد الشعب الفلسطيني في غزة.

تأتي تلك الخطوة تباعًا لقرار قطع بوغوتا العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب في الأول من مايو/أيار الماضي، وطرد السفير الإسرائيلي لديها، واتهام بيترو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بارتكاب إبادة بحق الفلسطينيين، الأمر الذي دفع الأخير لاتهامه بأنه “مُعادٍ للسامية وداعم لـ(حركة) حماس”.

شهدت السياسة الخارجية الكولومبية إزاء دولة الاحتلال تغيرات جذرية منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقارنةً بالسياسة التقليدية التي كانت تتبعها الدولة على مدار العقود الماضية، وهي التي كان تُوصف بـ”إسرائيل أمريكا اللاتينية” نظرًا لعمق العلاقات مع الكيان المحتل ومتانتها.

مع ذلك، فإن سلسلة الإجراءات التضامنية التي اتخذتها كولومبيا لدعم الفلسطينيين في مواجهة دولة الاحتلال سيكون لها ثمن فادح من المتوقع أن تدفعه بوغوتا، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، فكيف يمكن قراءة هذه الانعطافة الكبيرة في سياسة الدولة اللاتينية؟

ثمن باهظ
يدرك بيترو أن مقاطعة “إسرائيل”، الحليف الأبرز للولايات المتحدة والمعسكر الغربي، قرار مكلف، سيكون له تداعياته على أكثر من مسار، وأبرزها:

– المستوى السياسي: يتوقع أن يواجه بيترو وحكومته اليسارية ضغوطًا سياسية حادة، سواء من المعارضة الداخلية المحتمل أن تنشط بصورة كبيرة – بتأجيج ودعم من الخارج – بزعم إضراره بمصالح البلاد، وإما عن طريق حلفاء “إسرائيل” وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي استنكرت تصريحاته الداعمة للمقاومة الفلسطينية، ودعته بشكل مباشر إلى إدانة حماس، ولا يُستبعد أن تمارس استراتيجيتها المعروفة في الانتقام من نظام بيترو، عبر تأليب الداخل والخارج عليه، كما حدث مع بلدان أخرى مجاورة.

– المستوى الأمني: قد يترتب على الموقف الكولومبي وقف أحد أهم وأقوى مصادر التسليح لبلاده، إذ كان يعتمد الكولومبيون على السلاح الإسرائيلي على مدار عقود طويلة في مواجهتهم الجماعات المسلحة، وعصابات تهريب المخدرات. وخلال 6 عقود كاملة من مواجهة تلك الجماعات التي تمثل تهديدًا مباشرًا ومستمرًا للدولة واستقرارها، اعتمد الجيش الكولومبي على الطائرات المقاتلة عالية الجودة المستوردة من “إسرائيل”، والصواريخ جو-جو متوسطة المدى، والقنابل الموجهة بالليزر، هذا بخلاف ما كان يخطط له بالحصول على أنظمة دفاع جوي حديثة لمواجهة تصعيد العمليات من المسلحين في الآونة الأخيرة.

– المستوى الاقتصادي: من المتوقع أن تتعرض كولومبيا لخسائر اقتصادية، إذ كانت تقدر قيمة صادرات البلاد من الفحم لـ”إسرائيل” بنحو 450 مليون دولار العام الماضي، حيث تعتمد دولة الاحتلال على الفحم في توليد 20% من طاقتها الكهربائية، وتعد كولومبيا أكبر مورد للفحم لها بنسبة تتجاوز نصف واردتها من هذا المورد. وفي المجمل بلغ حجم الصادرات الإسرائيلية إلى كولومبيا 139 مليون دولار، جزء كبير منها كان عبارة عن أسلحة، فيما تصدر الفحم والوقود الصلب قائمة الصادرات الكولومبية للكيان المحتل يليه البن وبعض المستلزمات النباتية الأخرى.

تاريخ العلاقات
مرت العلاقات بين كولومبيا و”إسرائيل” من جانب وبين كولومبيا وفلسطين من جانب آخر، بعدة مراحل، يمكن تلخيصها في 3 محطات رئيسية:

صداقة دبلوماسية واقتصادية

شهدت العلاقات بين البلدين حالة من التناغم والتعاون الشامل بعد أن امتنعت كولومبيا عن التصويت على قرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947 الصادر عن الأمم المتحدة والقاضي بتقسيم فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك، إلى دولة يهودية ودولة فلسطينية،

بعد 10 سنوات من قرار التقسيم اعترفت بوغوتا بالدولة اليهودية الجديدة وبدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تسير في الاتجاه التصاعدي حتى عام 1963 حين افتتح كل بلد سفارته لدى البلد الآخر.

وخلال فترة الثمانينيات والتسعينيات دخلت العلاقات الاقتصادية بين البلدين منعطفًا جديدًا، حيث تزايدت الاستثمارات بين الدولتين، وبلغت العلاقات بين بوغوتا وتل أبيب أوج ازدهارها خلال فترة ولاية الرئيسين الكولومبيين السابقين ألبارو أوريبي (2002-2010) وخوان مانويل سانتوس (2010-2018)، حيث تم توقيع اتفاقية التجارة الحرة (FTA) بين البلدين في 10 يونيو/حزيران 2013، فيما  شهد عام 2017 أول زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي لدولة واقعة في أمريكا الجنوبية حين زار رئيس الحكومة وقتها، بنيامين نتنياهو، العاصمة الكولومبية.

التوازن بين الاحتلال والمحتل

حرصت بوغوتا على تحقيق التوازن النسبي في العلاقات مع “إسرائيل” وفلسطين، فرغم العلاقات المتينة التي كانت تجمعها بتل أبيب والتعاون غير المسبوق لدولة في أمريكا الجنوبية مع الكيان الإسرائيلي، فإنها في الوقت ذاته حاولت مسك العصا من المنتصف بالحفاظ على علاقاتها مع فلسطين في إطارها الدافئ.

بدأت علاقات كولومبيا الرسمية مع فلسطين عام 1988، وتعززت أكثر بزيارة الرئيس الفلسطيني الراحل لمدينة قرطاجنة الكولومبية لحضور قمة حركة عدم الانحياز عام 1995، ودعوته للرئيس الكولومبي إرنستو سامبر لزيارة الأراضي الفلسطينية والذي بدوره لبى الدعوة وزار غزة في العام التالي مباشرة، ليتبع ذلك إرسال البعثة الدبلوماسية الفلسطينية بشكل رسمي إلى كولومبيا، وفي عام 2011 زار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن كولومبيا في إطار مساعيه لحشد الدعم الدولي للاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة في الأمم المتحدة.

وشهد عام 2018 أحد أبرز المحطات المهمة في تاريخ العلاقات الفلسطينية الكولومبية، حين قرَّر الرئيس الكولومبي الحائز جائزة نوبل للسلام، خوان مانويل سانتوس، الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة، وهي الخطوة التي كانت بمثابة الصفعة على وجه الكيان المحتل.

رغم تلك الخطوة الصادمة، فإن ذلك لم يمنع من تطوير العلاقات الاقتصادية بين تل أبيب وبوغوتا، فبعد عامين فقط على هذا الاعتراف، وقع البلدان اتفاقية تجارة حرة بينهما، حينها وصف رئيس كولومبيا السابق، إيفان دوكي ماركيز، “إسرائيل” بـ”الدولة الشقيقة”.

مواقف متناغمة تجاه الطرفين

حافظت كولومبيا على وتيرة تقليدية بين الطرفين بعد تولي غوستاف بيترو السلطة في أغسطس/آب 2022، رغم مواقفه المعروفة سلفًا بتأييده القوي للقضية الفلسطينية، إذ إنه حتى لم يطرح هذا الأمر في خريطته الانتخابية كإحدى الأوراق التي كان يمكن توظيفها سياسيًا خلال الانتخابات التي فاز فيها بنسبة 50.8%.

لا ينكر أحد أن فوز الرئيس اليساري بالسلطة في كولومبيا كان باعث قلق للحلفاء الأمريكان والإسرائيليين، غير أن الأمور لم تشهد أي طارئ يدفع هذا القلق للتصاعد، حيث هنأته “إسرائيل” بالفوز، وكانت العلاقات بينهما تتمتع بالإيجابية والتناغم وفق الخط العام للسياسة الخارجية الكولومبية على مدار عقود.

وفي سبتمبر/أيلول 2023 أقدمت كولومبيا على تسمية أحد أكبر شوارع العاصمة بوغوتا باسم “دولة فلسطين” ودشنت لافتتاحه مراسم احتفالية كبيرة، عُزف فيها النشيد الوطني الفلسطيني إلى جانب النشيد الكولومبي، وحضرها وزير خارجية فلسطين.

الخطوة فُسرت حينها على أنها امتداد للسياسة الكولومبية المتوازنة في تعاطيها مع الدولتين المتنازعتين في الشرق الأوسط، خاصة أن بوغوتا لا تزال تسمي “إسرائيل” بالدولة الحليفة، وتتشابك معها اقتصاديًا بصورة تبعث على الطمأنينة وتزيل أي شعور بالقلق إزاء أي تحول من شأنه أن يهدد تلك العلاقات ويجردها من تماسكها الرصين.

مسار العلاقات بين طوفان الأقصى
جاءت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي لتلقي بظلالها على أجواء العلاقات الكولومبية الإسرائيلية، التي شهدت انحدارًا غير مسبوق، لتدخل نفقًا مظلمًا من الصدام لم تعرفه منذ نشأة الكيان المحتل.

ويبدو أن تلك العملية وما تبعها من حرب إبادة همجية ضد المدنيين في غزة من نساء وأطفال قد فجرت ما لدى بيترو من مواقف داعمة لحق الشعب الفلسطيني في الحياة والعيش بسلام فوق أرضه، تلك المواقف التي حاول قدر الإمكان تحييدها بعيدًا عن غرف صناعة القرار.

البداية كانت مع رفض الرئيس الكولومبي إدانة عملية الطوفان أسوة بغيره من حكومات الدول الحليفة للكيان الإسرائيلي، وعلى العكس من ذلك، وبدلًا من توبيخ المقاومة غرد بيترو على حسابه الشخصي على “إكس” بعد يوم واحد فقط من الطوفان، مشبهًا ما يفعله الإسرائيليون بحق الفلسطينيين “بالجرائم التي ارتكبها هتلر والنازيون ضد اليهود”.

أثار هذا الموقف غضب تل أبيب التي استدعت بدورها السفيرة الكولومبية لديها لتوبيخها على تصريحات بيترو التي وصفتها بأنها تؤجج معاداة السامية وتهدد سلامة اليهود في بلاده، معلنة أنها ستوقف صادراتها الأمنية لبوغوتا.

بعد أسبوع تقريبًا من الطوفان التقى بيترو بممثلي الجالية الفلسطينية في بلاده وأكد دعمه للحق الفلسطيني والتمسك بالقرارات الدولية ورفضه ما يجري في غزة، كما أعلن تواصل كولومبيا مع مصر لإيصال المساعدات الإنسانية لسكان غزة، مؤكدًا خلال اللقاء أن دولته لن تدعم الإبادة الجماعية مهما كان الثمن، وإذا تطلَّب الأمر فستُعلِّق علاقاتها مع تل أبيب.

كما هاجم وزير الخارجية الكولومبي جرائم الاحتلال في قطاع غزة، مؤكدًا أنه لا يمكن لعاقل أن يُصفِّق لسياسة الأرض المحروقة، كما ألمح إلى احتمالية أن تقوم بوغوتا بطرد السفير الإسرائيلي لديها، ساخرًا من اتهامات حكومة نتنياهو لبيترو بمعاداة السامية وكراهية اليهود.

وعقب مجزرة الطحين نهاية فبراير/شباط الماضي، التي راح ضحيتها أكثر من 118 فلسطينيًا كانوا باتجاه قافلة المساعدات للحصول على ما يسد رمقهم بعد أيام طويلة من الجوع، أعلن الرئيس الكولومبي تعليق صفقات شراء الأسلحة من “إسرائيل”، وطالب بشكل رسمي انضمام بلاده إلى الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، التي تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب إبادة جماعية.

وخلال مسيرة حاشدة في بوغوتا بمناسبة عيد العمال في الأول من مايو/أيار الماضي، خاطب بيترو الجماهير المحتشدة قائلًا: “هنا أمامكم، حكومة التغيير وحكومة رئيس الجمهورية تعلن أننا غدًا سنقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة إسرائيل.. لأن لديها حكومة ورئيسًا يرتكبان الإبادة”.

كذلك تعهد الرئيس الكولومبي في يونيو/حزيران الماضي أن بلاده ستوقف صادراتها من الفحم لدولة الاحتلال إلى أن توقف “الإبادة الجماعية” ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وفي 14 من أغسطس/آب الجاري أصدر مرسومًا رسميًا بهذا الأمر على أن يدخل حيز التنفيذ بعد 5 أيام من تاريخ الإصدار.

ليست كولومبيا وحدها
لم يكن الانقلاب في السياسة الخارجية إزاء دولة الاحتلال قرار كولومبيا فقط، فكثير من بلدان أمريكا اللاتينية – بعضها كان يصنف على أنه بلدان حليفة لتل أبيب – حذت نفس الخطوة في ظل وحشية الانتهاكات التي ارتكبها جيش المحتل بحق الشعب الفلسطيني.

وتنوعت أدوات واستراتيجيات دعم تلك البلدان لحق الفلسطينيين في مواجهة تغول الاحتلال، ما بين اتخاذ خطوات دبلوماسية تصعيدية كقطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” كما فعلت بوليفيا وهندوراس وتشيلي ومعهم كولومبيا، كذلك دعم جهود ملاحقة الكيان المحتل أمام المحافل الدولية، كما ذهبت تلك البلدان في أوائل يناير/كانون الثاني الماضي حين أيدت دعوى جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية، علاوة على تقديم المكسيك وبوليفيا وتشيلي طلبًا للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة.

كما أيدت كثير من دول أمريكا اللاتينية معظم القرارات الصادرة عن المؤسسات الدولية لوقف الحرب، على رأسها التصويت لصالح قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف إطلاق النار في القطاع وإدخال المساعدات، الصادرين في أكتوبر/تشرين الأول، وديسمبر/كانون الأول 2023.

علاوة على ذلك، شهدت خريطة الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة زخمًا غير مسبوق من دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، على عكس الهوى الأمريكي الإسرائيلي، حيث بلغ عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية 31 دولة حتى مايو/أيار الماضي، في انتصار دبلوماسي ما كان ليحدث لولا طوفان الأقصى والمزاج الشعبي الذي تغير بشكل جذري لصالح الشعب الفلسطيني.

في ضوء ما سبق، يمكن القول ردًا على مقاربات المرجفين والمثبطين وأصحاب نظريات المؤامرة من المتصهينين العرب، أن تأثير الطوفان تجاوز بشكل كبير نطاقه الجغرافي الضيق داخل الأراضي المحتلة إلى ما سواها، حيث استعادة القضية الفلسطينية للزخم الدولي الذي غاب عنها لعقود طويلة، وسحبها لبساط المزاج الشعبي العالمي من تحت أقدام الاحتلال وحلفائه.

قد يكون الموقف الكولومبي وغيره من مواقف بلدان أمريكا اللاتينية، الداعم للقضية الفلسطينية والمناهض لإجرام الكيان المحتل، مرهونًا ببقاء الأنظمة اليسارية الحاكمة، لكن ما حدث في حقيقته تحول لافت في مشوار التحرير الطويل، وعلامة فارقة في نضال الفلسطينيين وإقناع العالم بحقوقهم المسلوبة، ونقطة ثمينة في معركة الاستقلال طويلة النفس.

المصدر: نون بوست