2024-11-14 07:24 م

الثقافة والحرب!!

2024-08-19

بقلم: د. موفق محادين
الحرب ضرورية، ضرورة الصراع نفسه، كمحرك رئيس للعلاقات والأنساق بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الطبيعة، وبينه وبين نفسه، الأنا والأنا العليا.

كل آخر، في مستوياته المتعددة، ينطوي على نفي ونفي مضاد، بدوافع وسيكولوجيا ومصالح لا تقبل القسمة في اللحظات الحاسمة.

وبحسب الديالكتيك، في الطبيعة والمجتمع، كما بحسب فرويد وهوبز، فإن العامل الحاسم في علاقة أو معادلة الوحدة والصراع، هو الصراع، هو النفي، وابتداء الفكرة مع نفسها.

وإذا كان في الإمكان تجنب الصراعات والحروب موقتاً، أو تأجيلها، فلا يمكن تجنبها إلى الأبد، وخصوصاً في القضايا والمنعطفات والمدارات الكبرى.

التاريخ، بما هو تعين للأفكار والضجيج والأيديولوجيا، هو ميدان سياسي – حضاري أولاً.

السلم يؤدي إلى ترهل البشر، نعم، لأنه ليس سوى التعبير الثانوي، الحيط الواطي، لمعادلة الوحدة والصراع، لحركة الكريات البيضاء والحمراء، للطبقات، والمصالحات العقيمة بين الأنا المهضومة والأنا العليا، سلطة الإكراه والقمع والمصادرة.

من المضغة إلى العلقة والاستدارة إلى الامتداد المستقيم الحر، إلا على الحافة هبوطاً وصعوداً.

النسخة البشرية من الزرافات قصيرة العنق، لم تصبح هكذا إلا بسبب ترهلها. وما عليها سوى التنحي، بحسب الداروينية المتوحشة.

ولنتذكر أيضاً أن المصالحات الرخوة بين الأنا والأنا العليا، هي المسؤولة عن الكساد المائي والعطانة والاختراع التافه لما يسمّى التناسخ... بالأفكار الوحيدة المهترئة بسبب سباق المسافات الطويلة.

ليس ثمة اختراع خارج الحرب
الحرب بما هي الحامل الحقيقي لكل جديد في كل مستوى، الحضارات، الحقب، والثقافات.

ونعرف أن أهم الإنجازات التقنية السلمية المعاصرة هي الابن الشرعي والوحيد للتقنيات العسكرية، من غزو الفضاء والمحيطات إلى هندسة الجينات، التي بدأت في مختبرات وزارات الدفاع.

كل العباقرة خرجوا من عباءات السيف والخنجر، باستثناء بوذا والمسيا الناصري، اللذين كرّسا بروحهما المتسامحة ركوداً طويلاً من نهر الغانج إلى النهر سريع الانحدار، وجعلا من مرحلة العبودية والرق أطول مرحلة في التاريخ.

الإبداع لحظة قتل مع الذات، لحظة توتر بطبيعته. وما إن يفقد هذا التأجج، حتى يخسر نفسه ويكف عن كونه إبداعاً.

الإبداعات والفنون عموماً، ظاهرة حربية. ويكفي التمعن في الملاحم العظمى لتأكيد ذلك. فهي أم الفنون والإبداعات جميعاً: الشعر، الرواية الأولى، النحت والنقش والمسرح.

ومع تراجع هذا الفن العظيم على إيقاع الهزائم الفادحة للأمم الكبرى، والانشطارات والانشقاقات لهذا الفن، من شعر ورواية ومسرح، فإن الأقرب إلى دائرة النار الجميلة هذه هو الابن الأكبر، الرواية. فالشعر مثلاً، من دون الملحمة، تهويمات على أطراف الغابات، ومضات برق في سماء شحيحة.

والمسرح يقاتل في مكعبات سوداء مغلقة أو حلبات مزيفة.

أما الرواية، فهي ساحة الوغى الدامية، بما هي أيضاً ائتلاف حديث من زمن البرجوازية بين لوكاتش وباشلار، وبين المدن الباردة وظلال القرى.

كانت البدايات مع الأساطير والصراع على المعرفة ورموزها. بروميثيوس يحاول سرقة النار من أجل الإنسان، وسيزيف يحاول الصعود، لكن زيوس، في امتلاكه الاحتكاري للمعرفة، لا يسمح بذلك.

وتتواصل الحرب في زمن أنصاف الأساطير وأنصاف الحقائق، فيُحكَم على سقراط وبروتوغراس بالموت لأنهما حثّا الإنسان على المعرفة، ابتداءً من نفسه، ويسقط المثقفون والعارفون، واحداً تلو الآخر، بمن في ذلك الذين اقتربوا إلى بلاط السلاطين، وليس ابن المقفع وحيد زمانه.

وتمر قرون طويلة قبل أن يفهم المثقف الحقيقي أن المعرفة، لأنها قوة، وأن "الإصلاح من الداخل" وهم محض، كما تخيّل كانط ولوك ومانهايم. فيستعاد ابن خلدون، العربي مؤسس نظرية الشوكة والغلبة، ويأخذه هوبز على محمل الجد قبل أن يصير العنف قاطرة التاريخ في الثورات الكبرى اللاحقة، ويأخذ معه رؤوساً كثيرة في الجزر البريطانية وفرساي والباستيل في باريس، وصولاً إلى أجراس أكتوبر على إيقاع دفاتر الديالكتيك.

ولنتذكر أيضاً كيف قطع فيخته دروس تلاميذه في جامعة برلين، ودعاهم إلى الحرب ضد الاحتلال الفرنسي، وكيف قاد الموسيقار الألماني العظيم فاغنر مع باكونين انتفاضة مسلحة في درسدن.

ومثلهما عشرات المثقفين الذين استهوتهم رائحة البارود، كما رائحة الحبر وحيلة الكتابة، فانخرطوا في الثورات البعيدة، مثل روزا لوكسمبورغ في ألمانيا، وبايرون مع الثورة اليونانية حتى مصرعه هناك، وجون كيتس مع ثورة بوليفار في أميركا اللاتينية، وهمنغواي مع الجمهوريين في إسبانيا، حتى هزيمتهم على أيدي المرتزقة بقيادة فرانكو.

وهناك من اختار القتال خلف المتاريس في وطنه المستباح، مثل فكتور هوغو في ساحة باريس، والشاعر الإيطالي دانو نزيو، الذي أعلن الجمهورية في مدينة فيومي وقاتل دونها 15 شهراً، ومثل بوليتزر صاحب الموسوعة الفلسفية الاشتراكية، والذي انخرط مع المقاومة الفرنسية ضد النازية حتى اعتقاله وإعدامه.

إلى ذلك، وبقدر ما كان المشهد العربي مثقلاً بالغلمانية الثقافية القديمة – الجديدة عند سلاطين زمان وعند سلاطين النفط والغاز المسال، سال دم المثقفين حيثما سال حبر العصيان، وتماهى الكلام في فلسطين مع السلاح.

هنا قانون التناقضات في عليائه، الأساسي مع المتروبولات الرأسمالية، فالثورة في كل مكان، الصين، فيتنام، الأوراس، حي كرتير، وروح غيفارا من أعالي الأنديز إلى كل السفوح والأعالي، ظلال القرى والطلاب وخطوط الإنتاج ومطارق العمال.

وهنا قانون التناقض الرئيس مع الصهيونية الفاجرة التي خرجت من قرني الشيطان وفاض قيحها من الإنكليز والأمريكان.

هنا المثقف العضوي الغرامشي، من آيرلندا والباسك وكوبا وفنزويلا والبرازيل، مع مثقف كربلاء في لبنان و اليمن والعراق، مع إخوة الدم والتراب، وسورة الفتح والأناجيل، من المحيط إلى الخليج.

هنا وردة النار التي تزهر مع كل فجر وشهيد، القلب الأممي حيناً، والقلب العربي حيناً آخر، والقلب الفلسفي على مدار الأيام. عبد الرحيم محمود، غسان كنفاني ، ناجي العلي، كمال ناصر، كمال خير بك، حنا ميخائيل، وماجد أبو شرار.
المصدر: بوابة الهدف