2024-11-26 01:19 م

الكذب بوقاحة مضاعَفة إذ تَدّعي البراءة

2024-08-16

بقلم: نهلة الشهال
... وكأن "إسماعيل هنية" توفي فجأة بذبحة قلبية أو بحادث سير، فإذا بحركة "حماس" تختار "يحيى السنوار"، قائدها العسكري الأشهر، والأشد بأساً، رئيساً لمكتبها السياسي! والله، ليحتار المرء في تصنيف تلك القدرة على التزوير والكذب، سواء أكان الإسرائيلي منه أو الغربي بكل أبواقه!

حسناً فعل الكاتب الإسرائيلي "جدعون ليفي"، حين ذكَّر بأن إسرائيل "اغتالت الشخص الذي كانت تتفاوض معه". وقبل الإعلان عن اختيار "السنوار" كخليفة له، كان القوم يُقرون بأن "إسماعيل هنية" كان رجلاً هادئاً ومعتدلاً... مما لا يُنقص من صلابة مواقفه شيئاً بالطبع. ولكن موضوع اغتيال "هنية" اختفى تماماً، وصاروا يبدأون أحاديثهم من مترتبات ترؤس "السنوار"!

واليوم يتصرف هؤلاء جميعاً كما لو أن اختيار "السنوار" جاء من عدم، بل وكدليل على جنوح الحركة إلى التشدد، وإلى المنحى العسكري والقتالي، مع أن "حماس" نفسها قالت إنه ردّها على اغتيال "هنية". ويقولون إن هذا الاختيار يقضي على فرص التفاوض للوصول إلى حلول، ويصعِّب المباحثات لإطلاق سراح أسراهم! وكأن الإبادة الوحشية لم يمض عليها عشرة أشهر متواصلة، وكأن المفاوضات والمباحثات بمختلف صيغها لم تُفشَّل جميعها بقرارات من "نتنياهو" وحكومته، وكأن إسرائيل لم تتجاهل القرارات الأممية كلها، بما فيها تلك التي تخص تجويع السكان حد الموت، وبخاصة منهم الأطفال، وقصف خيام النزوح ومآوي النازحين، وانتهاك المعتقلين حد القتل تحت التعذيب، واغتصاب الرجال والنساء، مع وجود 9 آلاف معتقل في ما وُصف بأنها أماكن أفظع من "غوانتانامو".

بل أن الصحف الكبرى، سواء منها الأمريكية أو الإنجليزية أو الفرنسية، تسير وفق هذا المنطق نفسه، وتكتب في عناوينها ونصوصها عن "معاني" اختيار "السنوار" وكأن ما سبقه لم يوجد قط. وهذا حرفياً ما فعلته - ولا تزال - بخصوص عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في غلاف غزة، وكأنه يوم القيامة، الذي فاجأ إسرائيل الوادعة، وكأنه لم يسبقه تاريخ طويل وممتد إلى 76 عاماً، من المذابح الإسرائيلية الفظيعة غير المنقطعة، في غزة وفي عموم فلسطين.

يستحضر هذا السلوك أسس الموقف الاستعماري، الذي قام على تبرير إبادة شعوب بأكملها بكل الوسائل: السكان الأصليون للقارتين الأمريكيتين، الذين قُتلوا بالسلاح ومعه بالقضاء على كل ركائز حياتهم التي كانت قائمة لآلاف السنين، قبل وصول "المتحضرين" الأوروبيين إلى تلك البلاد: تدمير مواشيهم ومحاصيلهم وتسميم مياههم، وإزالة مؤسساتهم ومعابدهم (وحتى أمس قريب، كان يُمنع على المجموعات المتبقية ممن أسموهم "هنوداً حمراً" ممارسة طقوسهم تحت طائلة القانون)، ثم نقل الأوبئة القاتلة إليهم بشكل متعمَّد ومخطط له عبر "هدايا" ملوثة، ثم التنافس على تجميع فروات رؤوس الأطفال والنساء منهم مقابل دراهم ينالها القاتل حين يسلّم "دليله" على القتل. إبادة منظمة ل52 مليون إنسان في الأمريكيتين، كانت لديهم حضاراتهم، المتقدمة في كثير من الأحيان، وأنظمة عيشهم. ولكن ماذا نرى في "أفلام الكاوبوي"، التي انتجتها "هوليوود"، وتربَّت عليها أجيال متتابعة لعقود؟ "هنوداً حمراً" بدائيين وشرسين وغدّارين وقتلة! وقد ارتكب السادة المتحضرون الفظائع نفسها، في أطراف من "آسيا" حيث كان يكفي لـ"مستكشِف" هولندي أو إنجليزي، وقبلهما برتغالي، أن تروق له جزيرة أو يطمع في محاصيل بعينها، ليقنع أميره بتزويده بجيش جرار، و"بابا روما" بمباركة رحلته، ثم يعود إلى تلك الأصقاع عبر البحار، ليأمر سكانها بمغادرتها بكل صلف، ثم ليقتلهم حصاراً وحرقاً، ويستولي على أراضيهم. ويفعل باسم العقلانية، فهم لا يجيدون استثمار الإمكانات المتاحة أمامهم، أو باسم الدين باعتبارهم برابرة لا يعرفون الله الحق! وأما الأفارقة، فليسوا أصلاً بشراً، ولذا فحقّ استعبادهم للسخرة. وهذا كله كان هو نفسه موقف الحداثيين والتنويريين من "فولتير" و"مونتسكيو"، الى "عمانوئيل كانط".. بحيث لا يكاد يشذ عن هذه القاعدة أحدٌ من هؤلاء "العظماء"، في عموم بلدان أوروبا المتنافسة فيما بينها، الذين كانوا، علاوة على التفلسف التنظيري / التبريري لهذه السلوكيات، يملكون هم أنفسهم عبيداً، يعملون في مزارع قصب السكر والقطن، التي يحوزون عليها في المستعمرات.

لذا يشيح السادة البيض اليوم بأنظارهم عما يجري في فلسطين من فظائع لا يَحدّها عقل، وهي تستجيب لمخططات الإبادة المنظَّمة عبر تدمير علامات حضور السكان الأصليين، أجسادهم ومؤسساتهم، محواً لشرعية وجودهم، ولاستبدالها تزويراً بأساطير وأكاذيب. وهم يعرفون ذلك، وقد خبره أجدادهم ومارسوه. كما يتجاهلون ما يجري في عموم منطقتنا، حيث نحن في مرتبة أدنى من البشر بنظرهم، باعتبارنا سمراً وأغلبيتنا مسلمون... وأما الإسرائيليون فهم من الملة نفسها، ومن تلك الثقافة نفسها... فلا عجب!
المصدر: السفير اللبنانية