2024-09-10 07:31 م

بين نارَين.. الأردن يحمل رسائل التهدئة والتهديد

2024-08-10

لم يكن من اليسير تجاوز قراءة ملامح وجه وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في الصورة المنشورة للقائه مع وزير الخارجية الإيراني بالإنابة، علي باقري، في زيارته المهرولة إلى طهران التي تزامنت مع تصريح مسؤول إيراني لقناة “الجزيرة” بأن الصفدي جاء إلى طهران حاملًا 3 رسائل من ملك الأردن، عبد الله الثاني، وقادة الولايات المتحدة و”إسرائيل”.

أعلن الصفدي أن زيارته تهدف إلى “تجاوز الخلافات بين البلدين بصراحة وشفافية وبما يخدم مصالحهما الثنائية”، مضيفًا: “لا أحمل لطهران رسالة من إسرائيل أو إليها”، منسجمًا مع السياسة الأردنية طوال معركة “طوفان الأقصى” المواربة في كل الملفات المفصلية، حفاظًا على توازنات العديد من المعادلات الداخلية والإقليمية والدولية.

كانت الخلافات، التي أعلن وزير الخارجية الأردني السعي إلى تجاوزها بين بلده وإيران، قد تصاعدت تصاعدًا كبيرًا في أبريل/ نيسان الماضي، إثر الدور الأردني في التصدي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي أطلقتها إيران على أهداف إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ردًّا على الاستهداف الإسرائيلي لقنصليتها في دمشق.

لطالما انسجم دور المملكة الأردنية في الإقليم مع الضرورات الأمنية الأمريكية في المنطقة، وقد أهّلها موقعها الجغرافي لأن تكون محطة عمليات أساسية للجيش الأمريكي، ارتباطًا بوجودها في قلب المثلث الأكثر التهابًا في الشرق الأوسط في العقود الماضية، بحدودها المشتركة مع الأراضي الفلسطينية المحتلة وسوريا والعراق.

منذ “طوفان الأقصى”، اتخذ الأردن سياسة المواقف المزدوجة الساعية إلى الموازنة ما بين التزامات المملكة الأمنية ضمن المحدّدات الأمريكية في الشرق الأوسط، بما يشمل ألّا يسمح بتحول الحدود الأردنية مع الأراضي الفلسطينية إلى حدود مشتعلة، أو نقاط لمهاجمة الأهداف الإسرائيلية، أو خط إمداد سلس للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، والأمر سواء مع ألّا يسمح بتحول أجوائها إلى ممر للهجوم على المستوطنات والمواقع الإسرائيلية.

إلا أنها على المقلب الآخر حرصت على اتخاذ مواقف علنية رافضة لسياسة حكومة بنيامين نتنياهو في حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، بل حرصت على خلق بروباغندا كبيرة حول دورها الإغاثي في القطاع، مدشّنة سياسة إسقاط المساعدات من الجو التي حذت حذوها دول العالم، سعيًا إلى تجنّب المسؤولية الأخلاقية عن قتل أهالي غزة بالتجويع، بعد أن تمكنوا من النجاة من القتل بالصواريخ والقذائف الأمريكية.

يعدّ الاضطلاع الأردني بعملية نقل الرسائل ما بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” وإيران، بمثابة استكمال لسياسة الأردن في استثمار أزمات المنطقة في اكتساب دور محوري في الملف الأسخن، مستفيدًا من الخصائص الجيوسياسية لموقع المملكة الذي يشكّل عمقًا عازلًا لـ”إسرائيل” عن الإقليم.

وفي الوقت ذاته، يعدّ بمثابة سعي إلى تجنب أن يتعرض الأردن للامتحان الكبير الذي قد يمسّ مساعيها على مدار 10 شهور من الحرب، لتجنُّب إثارة الرأي العام الأردني المحكوم بتركيبة ديموغرافية منحازة للشعب الفلسطيني ومقاومته وحقه في الدفاع عن نفسه.

الاستثمار التاريخي في الملفات المشتعلة في المنطقة
على مدار عقود، لعب الأردن أدوارًا محورية في الملفات الأكثر اشتعالًا في المنطقة، وقدّم مساهمات جلية سهّلت على الولايات المتحدة إدارة عملياتها في مناطق النزاع، بداية من الحرب على العراق وليس انتهاءً بالأزمة السورية، وما بينهما الدور الأردني في الضفة الغربية إبّان “انتفاضة الأقصى”، وتدعيم بنى السلطة الفلسطينية في مواجهة تصاعد الفعل المقاوم.

رغم حجم الضغط الذي من المفترض أن يسبّبه وجود هذه الأزمات على حدود الأردن مباشرة، خصوصًا بسبب الضغط الذي سبّبته موجات النزوح الكبيرة وتكدُّس اللاجئين في الأردن، فإن المنح الأمريكية والأوروبية كانت حاضرة دائمًا للأردن، والتي تصاعدت بعد توقيع الولايات المتحدة والأردن اتفاقية مساعدات سنوية بقيمة 1.45 مليار دولار تستمر لمدة قياسية أمدها 7 سنوات، ما يجعل عمّان ثاني أكبر متلقٍّ للمساعدات الأمريكية على الصعيد العالمي (ومعظمها اقتصادية) بعد “إسرائيل”.

ومع أن دور الأردن شهد تراجعًا كبيرًا في فترة وجود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في البيت الأبيض، إذ شكّل انطلاق قطار التطبيع قطعًا لدور لعبه الأردن كثيرًا بوصفه قناة التواصل بين العديد من الدول العربية و”إسرائيل”، ناهيك عن انعدام تشجّعه للانخراط في خطة ترامب للحل في المنطقة “صفقة القرن”.

إلا أنه سرعان ما عادت هذه الأسهم إلى الصعود مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، خصوصًا بعد جولة “سيف القدس” في مايو/ أيار من العام 2021 بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، والتي انطلقت ارتباطًا بالتصعيد الإسرائيلي في القدس، ما أعاد تأكيد أهمية الدور الأردني والولاية الهاشمية في تخفيف حدّة التوتر في الأراضي الفلسطينية.

على المنوال ذاته كان الدور الأردني منذ بداية “طوفان الأقصى”، إذ حرص الأردن على أن يكون ضامنًا لمنع تحول الأراضي الأردنية إلى ساحة من ساحات الضغط العسكري على “إسرائيل”، كما ضمن تحييد الحدود الأردنية -وهي الأطول عربيًّا مع الأراضي الفلسطينية المحتلة- عن أي دور مفترض في إسناد قطاع غزة، وهو الدور ذاته في تحييد السماء الأردنية من أن تكون ممرًّا للصواريخ والمسيّرات الموجّهة لأهداف إسرائيلية في الأراضي المحتلة.

التوازن العلني ممرًّا للانسجام الديموغرافي
تفرض تركيبة الأردن الديموغرافية الفريدة ضغطًا كبيرًا على النظام الأردني، إذ تنقسم تركيبة الأردن السكانية ما بين العشائر الأردنية والأردنيين من ذوي أصول فلسطينية، وهما تركيبتان منحازتان إلى فكرة مقاومة دولة الاحتلال الإسرائيلي، ورافضتان للانخراط الأردني في معاهدات السلام مع ذلك الكيان، وهو ما أكد أن السلام الإسرائيلي-الأردني تركّز في المستوى الرسمي، ولم ينجح عبر سنوات طويلة في تحقيق قبول شعبي لفكرة التعايش مع “إسرائيل” كجارة طبيعية.

مع اندلاع “طوفان الأقصى” كان الشارع الأردني من أكثر الشوارع العربية نشاطًا، وهو ما استدعى من النظام الأردني التعامل وفق منطق الشدة واللين، والقمع والاحتواء، لضمان عدم تفجُّر الشارع، في الوقت الذي قدّم فيه النظام الأردني مادة دعائية ضخمة حول دوره في تخفيف الأزمة الإنسانية في قطاع غزة ورفضه السلوك الإجرامي الإسرائيلي.

في الإطار ذاته، يرى الأردن في سياسات حكومة نتنياهو اليمينية، وخصوصًا أطروحات شركائه من قادة الصهيونية الدينية خطرًا كبيرًا، لا سيما مع إعادة استدعاء خطط التهجير و”الترانسفير”، والتي سيكون الأردن محطتها الأولى لمواطني الضفة الغربية، الأمر الذي يعني أن تركيبة الأردن الديموغرافية ستحسم بما يهدّد النظام الملكي الهاشمي، الذي نجح عبر العقود الماضية في صياغة تحالف وتوافق مع المكونات الديموغرافية في المملكة نجحا في تجنيب النظام أية هزات مؤثرة.

وعليه، لم تتّسم العلاقة بين النظام الأردني ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالإيجابية، خصوصًا مع إصرار الأخير على استمرار السياسيات التهويدية للمسجد الأقصى، وهو ما يضع النظام الملكي الأردني في إحراج كبير، ويفتح بوابات من التشكيك في قدرة الأردن على الإيفاء بمتطلبات ولاياته الهاشمية على المسجد الأقصى.

في ملف الاشتباك الإيراني الإسرائيلي، يحاول الأردن أن يصوّر قراره بالتصدي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية بأنه يأتي في إطار حفاظه على “سيادته” و”حيادية” أجوائه، وألّا يسمح بتحولها إلى “رقعة شطرنج” في إطار الصراع الإقليمي، فيما يرتبط الواقع بالالتزامات الأمنية الأردنية ضمن التحالف الدفاعي الأمريكي في المنطقة، ما يجعل من احتمالات تطور الصراع إلى حرب إقليمية مهدّدًا يضع الأردن أمام خيارات صعبة في حال تحولت إلى معادلة مواجهة ما بين المقاومة والاحتلال، لأن الاصطفاف الأردني في التحالف الأمريكي في هذه الحالة سيساهم في تأليب التركيبة المجتمعية في الأردن وتثوريها.

السعي الفعّال إلى تجاوز الاختبار الكبير
يرى الأردن نفسه مكونًا رئيسيًّا في التحالف الأمني الأمريكي في الشرق الأوسط، بل يسعى إلى المراكمة على قرار حلف شمال الأطلسي “الناتو” إنشاء مكتب تواصل في الأردن هو الأول من نوعه، بوصف ذلك تعبيرًا عمليًّا عمّا أُقرّ في قمة “الناتو” للعام 2024 في واشنطن، ضمن خطة عمل لتعزيز نهج التعاون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمواكبة تطورات المشهد الأمني الإقليمي والعالمي، وهو مكتب يفترض أن يلعب دورًا في “تسهيل التواصل وزيادة وتيرة الاتصالات وتوفير الدعم اللوجستي للناتو على المستوى العسكري والإداري”.

واقعيًّا، لا يمكن الفصل ما بين مكتب تواصل حلف شمال الأطلسي من جهة، ومن جهة أخرى مشروع إدارة بايدن الطموح الهادف إلى ترتيب نموذج شرق أوسطي مصغّر عن حلف “الناتو” لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تقوده “إسرائيل”، وينطلق أولًا من إنشاء شبكة دفاع جوي مشتركة متعددة الطبقات تهدف -حسب المعلن- إلى مواجهة خطر الصواريخ والمسيّرات الإيرانية في المنطقة.

تهدف الإدارة الأمريكية الحالية في خطتها الأمنية إلى إنجاز ترتيبات إعادة تموضعها خارج الشرق الأوسط بهدوء، وضمان منع ترك فراغ وتخبُّط في صفوف حلفائها في المنطقة تعمل إيران على استثمارها، خصوصًا مع الانسجام الإيراني مع الجهود الصينية لتعزيز نفوذ الصين في الشرق الأوسط، والتي أنجزت مصالحة سعودية-إيرانية لتمهيد الطريق لتعزيز هذا الحضور.

ومن المنطلق ذاته، تبحث الولايات المتحدة عن الحفاظ على مصالح “إسرائيل” الأمنية بإنجاز هذا المشروع الطموح، الذي يقع في قلبه إنجاز اتفاقية التطبيع المنتظرة بين السعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

يرى الأردن في نفسه لاعبًا رئيسيًّا في هذا التحالف، وقد قدّم خطوات بناء ثقة كبيرة في إطار الحفاظ على الموقع المتقدم ضمن الخطط الأمريكية للمنطقة، وقد كان اختبار أبريل/ نيسان بمثابة دليل حي على مدى جدّية الأردن في الإيفاء بالتزاماته الأمنية، إلا أنه أيضًا يقارب الأوضاع بواقعية.

فما بين التصدي لهجوم عابر والانخراط في أتون حرب إقليمية حسابات مختلفة تمامًا، تأخذ في الحسبان أهمية حفاظ النظام الأردني على مصالحه الداخلية ومراعاة تركيبته الديموغرافية وشرعيته، إلى جانب انعدام الرغبة في التورُّط المباشر في اشتباك مع إيران التي تضع العديد من الفصائل الحليفة لها على الحدود الأردنية مع العراق وسوريا، وتمتلك القدرة على إرباك المشهد الأمني الأردني بأدوات متعددة.

تحاول المملكة الأردنية جاهدة أن تلعب دورًا لتلافي إمكانات تحول أراضيها أو سمائها إلى ساحة اشتباك، وفي إطار ذلك تتجنّب أن توضع في اختبار جديد لالتزاماتها الأمنية ضمن المنظومة الدفاعية الأمريكية، والمخاطرة باستجلاب متاعب أمنية خارجية مع القوى المتحالفة مع إيران، أو نزع للشرعية الوطنية بانخراطها في حماية “إسرائيل” والدفاع عنها في وجه هجوم واسع، خصوصًا مع استمرار حرب الإبادة في قطاع غزة والإمعان الإسرائيلي في الجرائم والقتل المستمر في القطاع.

يعمل الأردن جاهدًا على نقل رسائل التهدئة التي تجنّبه الامتحان الكبير، وفي إطار ذلك يحاول أن يخرج بربح صافٍ دون أن يضطر إلى دفع ثمن تحالفاته وانحيازاته في المنطقة، في وقت يمرّ فيه الشرق الأوسط بأحداث مؤسِّسة متعددة ستعيد تشكيل مستقبله من جديد، وستعصف بما ستحمله من ارتدادات “طوفان الأقصى” بالعديد من أنظمة المنطقة والمخططات المعدّة لها.

المصدر: نون بوست