بقلم: مايا نشأت زيداوي
انقسمت المواقف العربية من الاعترافات الدولية المتتالية بالدولة الفلسطينية بين من يرى الاعتراف "نصراً لنهج المقاومة"، وبين من يراه "إنجازاً معنوياً لا يمكن أن يكتمل لأسباب تتعلق بالبنية التحتية للسيادة و/أو لغياب أيديولوجية تستطيع القيام بالدولة ضمن البنية العالمية الحاضرة ورغماً عنها".
بعيداً عن هذين الموقفين وتشعباتهما التنظيرية، لا بد وأن نُسلّط الضوء على المخاطر المحيطة بهذا النوع من الاعترافات فيما لو تمخّضت عن اعتراف بشرعية دولة فلسطينية في هذه المرحلة بالذات من تاريخ شعبنا. هكذا اعترافات حتماً ستكون لها تداعيات سلبية على الكثير من القررات الأممية التي تُقّر بحقوق الفلسطينيين ولا سيما حق العودة وإقامة دولة كاملة السيادة على أرضهم. أضف إلى ذلك ما يمكن أن يحمل هذا الاعتراف الدولي من آثار سلبية على العمل المقاوم للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال؛ فالدول التي آثرت الدفع قدماً بهذا الاقتراح تمثل جزءاً من أزمة الإتحاد الأوروبي أمام رأي عام متبدّل وتدهور الخدمات المؤسسية والصحية والتعليمية في مختلف دول الاتحاد. أي أن القضية الفلسطينية وضعت الإتحاد الأوروبي أمام خطر تلوح ذروته في الافق ألا وهو التقاطع بين تفاقم الأزمات الإقتصادية من جهة ورأي عام شعبي متعلق بسؤال الاستعمار الحديث واقتصاداته من جهة ثانية. وأي قراءة سريعة لتاريخ الضبط الجماهيري في مرحلة النيوليبرالية الأوروبية ستدفع بنا نحو النظر إلى “فعل الإعتراف” هذا كأداة ضبط وتقويض لامتداد آثار هذا الامتعاض الشعبي من فضاء حَنَقٍ أخلاقَوي إلى تمرُّدٍ شعبيّ موجّه ضدّ الدّولة الأوروبيّة وسياستها الداخليّة. بمعنى آخر، إن هذا الاعتراف هو أداة ثورة مضادّة استباقيّة ضمن فضاء شعبيّ لم يعرف الانتظام السياسيّ القاعديّ منذ سبعينيات القرن الماضي، أي منذ الانقلابات الكبرى داخل البنى التمثيلية العمالية في مختلف الدول الأوروبيّة. لذا نرى أن الدول التي تضمّ (بالمجمل) قاعدة شعبيّة مؤيّدة لحقوق الشعب الفلسطيني، هي من تولّت خطّ المناورة هذا ضمن معركة السلطات الأوروبية ضدّ احتماليّة التقاطع الاخلاقي الطبقي ذاك، الذي ما زال غائباً لأسباب تتجاوز مساحة المقالة، لكن احتماليته ما زالت حاضرة.
إن أطر الدّعم (للشعب الفلسطيني) تلك لا ترافقها أي سياسات اقتصادية جديّة وخطوات سياسية فعلية يمكن من خلالها مؤازرة الحصار الاقتصادي المرتجى ضد آلة الحرب الصهيونية أو مساندة العمل الفدائي الفلسطيني. أي أن اعتراف الدول الأوروبية بدولة فلسطينية ليس بداية فعليّة لمواجهة الاستعمار الصهيوني ومشروعه القائم على الأرض الفلسطينية، بل هو بمثابة ضربة استباقية تُجهز على أي مسعى (قائم أو مستقبلي) نحو إسناد الجبهة التحررية على المستوى القاعدي والمادي من داخل البنية التحتية الأوروبية.
ومن المؤكد أن هذا الاعتراف غير مرحب به من الفلسطينيين المحاصرين منذ عشرة أشهر والذين يواجهون الموت بما تبقى لهم من إرادة الحياة، فالشعب الفلسطيني اليوم ليس بحاجة إلى اعترافات وألقاب وتسميات، وبالطبع غير مستعد للرزوح تحت سلطة فلسطينية بحلّة جديدة تترجم إرادة الترويض الجماعيّ الأوروبية والخليجية والأمريكية من خلال مؤسسات بيروقراطية وأمنية ومالية تابعة، تغتال أفق التطور السياسي التحرري الحقيقي للشعب الفلسطيني. إنّ إيقاف حملة الإبادة وادخال المساعدات هو قرار سياسي لا يمكن تحقيقه من دون انتظام قاعدي وحركات عصيان مدني واضرابات للتجار والعمال الممثلين رسمياً داخل الدول الأوروبية التي هاجروا إليها. الإبادة لا تنتهي بضغط شعبي رمزي واعتراف دبلوماسيّ فارغ؛ الإبادة تنتهي بإزاحة المعركة من أرضنا إلى الجبهة الأوروبية الداخلية. أما إذا كانت تلك الاعترافات تُشكّل تجسيداً لرؤية تلك الدول حول ارساء السلام في المنطقة فهذا يتطلب أن تستند تلك الاعترافات إلى قرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن، وهي كثيرة، ومن شأنها أن توضح جغرافية هذه الدولة وبالتالي حدودها وعاصمتها، عدا ذلك، فإن أي حديث عن دولة فلسطينية اليوم في ظل المحرقة المستمرة ليس إلا حديثاً بلا معنى ومحاولة لصياغة قضايا الحل النهائي على شاكلة الحلول لدى السلطة منذ ثلاثين عاماً ومعها تصبح الأراضي المتنازع عليها هي الشغل الشاغل للدولة المنشود! نضيف، أن الاعتراف بالدولة في هذا التوقيت من شأنه أن ينعكس سلباً على مقاومتنا الفلسطينية بأطيافها المختلفة، فليس من قبيل الصدفة أن تأتي سلسلة الاعترافات بالدولة الفلسطينية غداة الاستخدام الاستثنائي لمحكمة الجنايات الدولية للفظة “دولة فلسطين” وللمختصين في هذا الشأن أن يشرحوا لنا أن البدء في استخدام ألفاظ تحمل إطاراً قانونياً يدل على نية مفادها أن يُعامل الفلسطينيون في ظل كيانية هذه الدولة كمواطنين مثلهم مثل باقي شعوب العالم مع الابقاء على آلة الحرب التي نشأت من أيديولوجيا تنظر لوجوب إبادتهم. كل ذلك يمهد الطريق في المدى المنظور أمام إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق المقاومين الفلسطينين بالتعاون مع مؤسسات الدولة الفلسطينية التي تم الإعتراف بها. إقرأ على موقع 180 الغرب و"تأطير" جرائم إسرائيل.. تبرئة بمفعول رجعي! إذاً، الحاجة لوجود دولة قومية معترف بها دولياً هي حاجة لوجود مشبَكٍ قانوني يؤسَر هذا الشعب المستعمَر تحت أحكامه التي تصقلها قواعد لعبة “الحرب على الإرهاب”. فكما هو معلوم أن الدولة المعاصرة هي عبارة عن جملة مؤسسات تقبع ضمن فضاء القانون الدولي، وذلك بعيداً عن مفهومنا للدولة كأداة أمنية اقتصادية تُستخدم لضبط العلاقات البشرية داخل جغرافيا معينة وترويض التمرّدات التي قد تنشأ ضمن أطوار تقلبات تناقضاتها الداخلية. عليه، إنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية اليوم لن يُوظّف إلا في خدمة القوى الاستعمارية التي تعمل جاهدة لحل الأزمة على المستوى الاستراتيجي من خلال تأطير الشعب الفلسطيني خارج هويته القانونية بإعتباره مجرد شعب لاجئ، وهو الشعب الوحيد الذي استطاع أن يُحوّل اللجوء من مرتبة قانونية زبائنية خدماتية إلى هوية سياسية لها بعد جغرافي ومحصنة بصكوك دولية دفاعاً عن حقها في المقاومة والعودة والتعويض وفق قرارات الشرعية الدولية، فمن أجل الغاء ذلك الإرث واستبعاد تحويله إلى بنود تنفيذية، يتم العمل بشكل حثيث على إرجاع الفلسطيني إلى موقع الزبائنية الدولية والمحلية من خلال تحويله من لاجئ له هوية سياسية مقاومة إلى “مواطن – أو جاليَة” تحت مظلة حكم القانون الدولي. عالم الشمال يدرك تماماً أن الشعب الفلسطيني يحق له استخدام القانون الدولي بطرق لا تستطيع الدولة الاسرائيلية استخدامها، وعليه فالشعب الفلسطيني صاحب اليد العليا على المستوى القانوني كشعب مستعمَر وله كل أبعاد “الحق” في مقاومة الاحتلال. أما التسرع في الاستنتاج بوجود انقسامات في العالم الغربي إزاء القضية الفلسطينية فقد بدأت ملامحه بالظهور من خلال بعض الاعترافات أحادية الجانب بالدولة الفلسطينية وهو استنتاج متسرع وفي غير مكانه بل هو يُشكّل عقبة في امكانية البدء بتحليل جديّ للتطورات على الساحة الأوروبية اليوم فالغرب، شعوباً وحكومات، ما زال متمسكاً بإسرائيل ولن يتخلى عنها. وعلى الرغم من التعاطف مع الشعب الفلسطيني والتباكي عليه، وعلى الرغم من استياء بعض الدول الغربية من سياسات إسرائيل وسلوكياتها الـ”مفرطة” إلا أن الجميع يجمع على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، فمعالجة الأزمات بالأزمات أو ما نسميه “الإدارة بالأزمات”، هو فعل ملازم لسياسة الدول الغازيَة في رسم علاقتها مع الشعوب المغزُوَّة. خلاصة القول، إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو بمثابة فخ دولي يسعى إلى تقويض استباقي لنهوض حركة التحرر الوطني الفلسطيني من جديد خارج سياق الانعزالية الهوياتية القُطرية منها و/أو الدينية في مرحلة ما بعد انفكاك قيادات المقاومة العسكرية عن قواعد اللعبة السياسية التبعيّة في المنطقة. أما الاحتفاء بمشهديات التضامن والصحوات الأكاديمية والاعترافات الدبلوماسية والمحاكم الدولية فليس إلا مجرد تشويش مشهديّ يختزل مضامين المعركة ويزيد من ضبابيّتها.. لا بد من إزاحة جغرافيا المعركة بأي ثمن.
المصدر: 180Post