2024-11-26 10:24 ص

اكتب لكم من غزة..

2024-07-24

بقلم: د. فايز ابو شمالة
نسيت أنني كنت يوماً رئيساً لبلدية خان يونس، ونسيت أنني كنت يوماً مديراً عاماً في وزارة التخطيط والتعاون الدولي، ونسيت أنني كنت يوماً عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، ونسيت أنني عضو مجلس وطني فلسطيني، ونسيت أنني أسير محرر، وتذكرت فقط، أنني ما زلت لاجئاً فلسطينياً، يصّر على البقاء، ولديه أسرة ممتدة، وهم بحاجة إلى رغيف الخبز، ويتوجب عليّ الوقوف أمام بوابة الأونروا، والحرص على تسلم حصتي من الطحين الذي توزعه الأونروا على سكان قطاع غزة.
الوقوف أمام مراكز الأونروا ليس مهيناً، ولا هو مذلٌ للفلسطيني الذي لا يجد سبيلاً للوصول إلى كيس الطحين إلا من خلال مراكز الأونروا للتوزيع، والوقوف أمام هذه المراكز أمر يحاكي الوجود على هذه الأرض، فالناس في قطاع غزة كلها ـ سواء كان موظفاً أو عاطلاً ـ كلهم بحاجة إلى كيس الطحين، الذي لا يجدونه في الأسواق، وقد ارتفع سعره ـ قبل فترة ـ إلى سبعة أضعاف سعره الحقيقي، ومع انعدام البدائل الغذائية، وافتقار السوق إلى الكثير من مواد التغذية الضرورية الأخرى، والتي تمثل تعويضاً لرغيف الخبز، يظل كيس الطحين هو مصدر البقاء الهام جداً في ظروف الحرب.
أمام مراكز الأونروا لتوزيع المساعدات ترى الوجه الآخر للحرب الوحشية، فلا خوف هنا من الصواريخ الإسرائيلية، ولا رهبة للموت الذي يفر منه الناس، لينصب تفكير البشر أمام مراكز التوزيع على كيس الطحين، ويتوقف الدماغ عن التفكير بالمجازر، فمجزرة الجوع لا تقل وحشية عن شلال الدم النازف، وأمام مراكز التوزيع لا رهبة لأي سلطة، فسلطان، فالجوع هو المحفز للحضور، وأعين الناس كلها شاخصة لمن أمسك بيديه حصته من الطحين، وكأنها شهادة ميلاد جديدة، فهو يحمل أكسير الحياة، وبين يديه مقومات البقاء، وقد يلتف من حول هذا المحظوظ تجار الحروب، يساومونه على البيع، ويقدمون له الإغراءات المالية، في الوقت الذي يحتضن الرجل كنوزه، ليبدأ في مساومة صاحب العربة التي يجرها حمار على سعر توصيل أكياس الطحين إلى الخيمة.
لقد صار كيس الطحين في غزة أغلى من السيارة الواقفة على جانب الطريق بلا وقود، وصار أغلى من العمارة التي تقصفها الطائرات الإسرائيلية بالصواريخِ، فتصير قبراً لساكنيها، وصار كيس الطحين أغلى من الشقق الفاخرة، التي فرت من أصحابها وقت الحرب، وصار كيس الطحين أثمن من تلك الملابس الفاخرة، والأثاث الراقي، والمقتنيات الغالية، التي لم تعد تنفع صاحبها وقت الحرب، ولا يقتات عليها، ولا تُشبع من جوعٍ.
أمام مراكز التوزيع تجد كل أصناف البشر، وكل الأعمار والأجناس، وكل المستويات الوظيفية، وكأننا في يوم الحشر، وقد تساوى الجميع أمام رهبة الجوع، وكلهم يطلب الحياة لأفراد أسرته، وكلهم مطالب بإسكات عواء الجوع الذي يختطف الأمن، فالوقوف أمام مراكز توزيع المساعدات إحدى مقومات الحياة في غزة، والناس كلها بحاجة إلى كيس الطحين، والناس كلها في وضع معيشي صعب، ولاسيما بعد اغلاق البنوك، وبعد أن خصم وزير المالية الإسرائيلي نصيب قطاع غزة.
لقد نجم عن إغلاق البنوك ظهور تجار الحروب، الذين يشاركون الموظف في راتبه، ويخصمون ما نسبته 20% من الراتب، فإذا أضيف لكل ما سبق من مصائب معيشية، مصيبة عدم مقدرة حكومة غزة على الانتظام في صرف رواتب موظفيها، تكون غزة قد صعدت إلى قمة المأساة بالنسبة لقطاع كبير من الموظفين الذين لا دخل له إلا الراتب.
امام مراكز التوزيع يقف سكان جنوب قطاع غزة، ويقف سكان شمال قطاع غزة، أولئك الذين أجبرهم العدو الإسرائيلي على ترك بيوتهم، وممتلكاتهم، ومقتنياتهم، ووجدوا أنفسهم يخرجون تحت القصف بملابسهم الخفيفة، فإذا بهم تحت وطأة الجوع والبرد، ينتظرون حصتهم من الطحين الذي توزعه الأونروا، ليحملوها إلى خيمتهم الجائعة.
ومن المفارقات العجيبة، أن أبي وأجدادي وقفوا سنة النكبة 1948، أمام مراكز الأونروا لتوزيع المساعدات، وقفوا ينتظرون حصتهم، وهم منكسرون، في بداية مشوار الهجرة كما صورتها التغريبة الفلسطينية، ولكننا اليوم ـ أهل غزة ـ نقف أمام مراكز الأونروا لتوزيع المساعدات، ونحن شامخون، فنحن على طريق العودة، نقف فخورين بأنفسنا، وبمقاومة أبطالنا، وبقدرتنا على الصمود والانتصار، وبقدرتنا على مواجهة الجوع، بعد أن أدركنا أن الجوع الذي يضرب أحشاءنا، هو جوع العودة إلى الوطن، وإذا اضطر آباؤنا وأجدادنا في ذات نكبة على الوقوف أمام مراكز الأونروا كلاجئين سنة 1948، فإننا نقف اليوم أمام مراكز الأونروا لتوزيع المساعدات كعائدين، نعم، نقف اليوم جائعين، ولكننا واثقون بأننا نعبد طريق العودة، وإننا عائدون، ولا عودة دون مشقة، وطريق المشقة طويل، ولكنه يفضي إلى الحرية، إلى أرض  فلسطين.
كاتب فلسطيني / غزة