2024-11-27 04:30 م

ضجيج المدن.. ومحاكاتها.. (غزة) حاضرة

2024-07-17

بقلم: عدنان نصار
من تقاليد يومي التي لا أكل منها ولا أمل، أن اصحو باكرا، وأخرج نحو معانقة طرقات المدينة ..اتبختر ؛ لأستمد العزم أكثر، وأحاكي العزيمة لأبعد عن مخيلتي بؤس الهزيمة ..اتبختر، فأنا من المشائين البارعين في طرق المدن العتيقة، ألقي تحية الصبح الباكر على البائعين ..أتأمل عرباتهم الخشبية المزركشة بألوان الطيف وقوس قزح ..تنتابني الرغبة ان اتحدث معهم بصوت عال مسموع ومسموح وبكلام قابل للنشر، دون أن يسألني صاحب شأن، أو تلاحقني الجرائم الإلكترونية.. بصدق، أرغب في سماع ما يخبئونه ولا يتحدثون به الا في بيوتهم المغلقة ..!!
المكان :(عمان، شارع السلط)
الزمان : 15 تموز ..الساعة السابعة صباحا بالتوقيت المحلي، الخامسة بتوقيت “غرينتش” ..حتى اللحظة المدينة هادئة، وحركة إعتيادية لجأر عجلات الحافلات والسيارات ..والمشاة هنا، في محيط سوق المسجد الحسيني الكبير، يذرعون الطرقات بهدوء يحيطه الأمل، فيما تسمع “صكصكة” أبواب المحال التجارية وهي تستهل نهارها :يا صباح يا فتاح يا عليم ..يا رزاق يا كريم ..هنا الأمزجة تختلف، لكنها تلتقي في الصبح على فنجان قهوة،يسبقه رش رذاذ الماء على بوابات المحال، ثم صوت للقاريء الشيح الراحل عبد الباسط عبد الصمد ما تيسر من القرآن الكريم ..، فيما تذهب محال آخرى إلى :”حبيتك تا نسيت النوم” تعقبها “عيوننا إليك ترحل كل يوم ..” هنا، يفترش باعة ممرات على جانب الطريق .. بسطات لا تؤذي المارة، انهم يطلبون الرزق.. فهناك امعدة اطفال بإنتظار عودة الأب..او الأخ يتأبط ربطة خبز وما تيسر من خضار..هنا، الأمزجة مختلفة ..والناس طيبة ..يختلفون في الرأي،لكنهم بتوحدون في صب اللعنة على الصهاينة الغزاة ..هنا لكل آدمي محرابه يصلي من أجل نصرة غزة .
(الزرقاء..شارع السعادة)
الزمان :16 تموز ..الساعة الثامنة صباحا ..شمس الصبح تلسع بنعومة تتوائم مع طبيعة الصحراء ..شمس لاسعة غير مؤذية، فالصبح على اية حال له طقوسه، وله اشتراطاته أيضا، بما يتفق مع الإحساس ب”السعادة” وانت تتبختر في شارع السعادة وسط الزرقاء..، سألت أحدهم:لماذا سمي بشارع “السعادة” .؟ ابتسم قبل أن يجيب : لأنه يصنع السعادة ” ..!! قلت : ربما ..، فكل شيء ممكن، فالسعادة لها أيضا شروطها الخاصة .!
هنا، تشعر بعفوية الناس العابرة، وتلمس طيبتهم، ثم تقرأ بسهولة خارطة احلامهم المرسومة على تضاريس الوجوه ..فثمة وجوه هنا تضحك رغم المرار ..وآخرى تتسلح ببكاء الصابرين الشاكرين..
ننعطف قليلا نحو الجنوب، وندخل شارع “الأمير شاكر ” الذي يحكي عن الزرقاء في سيرتها ومسيرتها..سمك، وبهارات وجرجير ..ومستلزمات للتجميل، بأسعار منافسة..يأخذني التعب إلى مقهى الروشة، اجلس على شرفتها، قبالة سكة الحديد والمخيم المجاور لها ..”سي حسنين” يحضر الشاي المعتق كما اريد، بذوق رفيع غادر “سي حسنين” ليتركني أمارس طقوسي..فهو خبير في إحتياجاتي، بحكم صحبتنا التي نشأت بحكم ترددي إلى “مجلس” الروشة.
لفافة تبغ صناعة محلية، نفثت دخانها ليتصاعد على شكل حلقات، ثم تتلاشى، تعقبتها ورحت بنظري الى هناك، وسط شارع شاكر ..أعادني المشهد إلى اغنية للراحل المقدر سيد مكاوي في اغنيته :”الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة” ..، فهنا يبحث العابرين عن احتياجاتهم، على جانبي ممرات المشاة “البنكيت” بسطات على مد البصر تبيع :” سبع جاجات سوبرات بخمس لبرات.. مشمش الكيلو بدينار ..وفراولة ..
ومنجا يقسم البائع انها مصرية المنتج وليس صهيونية ..هنا تفهم الجميع لجدوى المقاطعة لكل منتجات الدول الداعمة للعدو الصهيوني .”
ما زال دخان التبغ بتصاعد ..هذه المرة بخط لولبي ..وعلى وقع أصوات الباعة بشكل موسيقي ..يخرج صوت رجراج في عز خاتمة الصباح قبل الظهير بقليل ..صوت رجراج ينادي :”ان تنصروا غزة ينصركم الله ..كيف تاكلون المنجا وغزة لا خبز فيها .!!
إربد، شارع الهاشمي ..17 تموز ..الجو حار ورطب قليلا ..فالمدينة عموما قريبة إلى المتوسط من جهة الغرب، وهي أيضا لا تبعد عن القدس سوى مسير ساعة ونصف بالسيارة بسرعة معتدلة .!
صعدت إلى درج ضيق وسط المدينة العتيقة، لآخذ حصتي من التأمل، على شرفة مقهى “الكمال” ..اقدم مقهى في اربد القديمة ..فمن شرفاته كانت تنطلق خطابات الراحلين في الخمسينيات والستينيات : يعقوب زيادين ..شفيق ارشيدات ..فضل الدلقموني..ومن قبل ذلك علي خلقي ..وسلطان باشا الأطرش.. وآخرين رحمهم الله ..كان المقهى نقطة اللقاء السري الذي يجمع المناضلين القدامى ..تعصف الذاكرة بكل الماضي الأنيق للمناضلين وقوة حضورهم ..تستحضرهم بقوة ..غزة الآن تباد على يد الرعاع ..او كما تقول الفاضلة المقدسية (سعاد راعية المعيز) على يد اللقيطة “اسرائيل” .
انت تفضلها وسط ..قال صاحبي في المقهى هذه قهوتك، شكرته ومضى ..انظر من شرفة الكمال، بدأت المدينة العتيقة بالتململ وتخرج من عباءة الصبح الباكر ..محلات تفتح، وبسطات تأخذ مكانتها، وصوت للشيخ عبدالرحمن السديس لسورة يوسف ..وهناااك ثمة إمرأة أظن أنها سبعينية تلملم علب معدن فارغة عن جانب الطريق بقصد بيعها ..اللعنة أين ابناؤك يا امرأة، وأين وزارة التنمية الإجتماعية لترمي على الفقراء ثوب “الستيرة “..؟!
في الصبح الباكر يتملكني شعور بأني ملك الوقت وجنرال اللحظة ..وحين يتلاشى الصبح اصير عبدا طائعا لضجيج المدن..!
ازدحام بشري بدأ يسيطر على شارع الهاشمي وسط اربد ..جأر عجلات السيارات لا يتوقف ..وباعة يلحنون المنادة على بضاعتهم بصوت فيه إهتزازات لطيفة ..وصوت السيدة فيروز يجيء من المحل المقابل :”يااااا جبل يبعييييد خلفك حبايبناااا..” هذه الأغنية تغنيها (سلمى) لأقرانها في صف “الكي جي تو” ..نعم تغنيها (سلمى) بشغف يمنحنا الدفء والشعور بأمل عظيم ..!
(غزة) لا تغيب ..ووجعها مقيم على وسائدنا..وهي اي (غزة العظيمة) لا تفارق نهارنا ولا ليلنا ..وحاضر الدم الفلسطيني في كل الوجوه الأردنية كما العربية ..حاضرة غزة في كل مسارات الشرفاء، في المجالس والمدارس والمضافات والطرقات والمساجد والكنائس ..حاضرة غزة في ضمير المدينة والريف والبادية والمخيم ..يا الله، كم نحتاج من الوقت لنخرج من اوضاعنا واوجاعنا..كم من الوقت نحتاج لنمد اليد إلى غزة .؟!
انتصف النهار ..الشمس رفعت منسوب حرارتها، وأخذت حصتي من محاكاة المدينة ..يا اربد، يا مدينة الشاكرين والصابرين ..!!
كاتب وصحفي اردني..