بقلم:د. جمال زحالقة
بعد أن أكّدت الأذرع الأمنية الإسرائيلية الثلاث، الجيش والشاباك والموساد، أنّه لا يوجد أي عائق أمني أمام التوصّل إلى صفقة تبادل، تشمل وقفا لإطلاق النار، وبعد أن سلّمت حركة حماس ردّها بالموافقة على الصفقة، صار الموضوع برمّته رهنا بقرار المستوى السياسي الإسرائيلي وعلى رأسه، بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي. وفي بداية ونهاية المطاف، هذا القرار مرهون بالمنطلقات الذاتية لأعضاء الحكومة الإسرائيلية من جهة، وبالضغط عليها من الولايات المتحدة والمؤسسة الأمنية والشارع الإسرائيلي وعائلات المحتجزين من جهة أخرى. هناك أيضا وزن كبير جدا لثقل العالمين العربي والإسلامي والدول الحليفة لفلسطين، إذا رُمي بهذا الثقل دفعة واحدة وموحّدة في الساحة الدولية، مقابل حكومة الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
المشكلة هي أنّ هذا هو المسار الوحيد لأي وقف لإطلاق النار، سواء كان مؤقتا أم دائما، ولا يلوح على الساحة الدولية، أي بديل أو مسعى جدّي لوقف الحرب، لا من خلال منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولا من خلال موقف أمريكي ـ أوروبي. أمّا الضغط القائم داخل إسرائيل لوقف إطلاق النار، فيأتي نتيجة لمسعى إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، أي في إطار مسار الصفقة وهو لا يتجاوزها بأي حال. ويبقى طرح البديل مهمة فلسطينية عربية من الدرجة الأولى.
رأي غالانت
قد يكون هناك نقاش حول دوافعه، إلا أن المحللين يجمعون على أن سياسة نتنياهو الفعلية هي تعطيل الصفقة، وكلما لاحت إمكانية للتوصل إلى اتفاق، يخرج نتنياهو بتصريحات ومطالب جديدة تهدف إلى إفشالها، وعوضا عن كل عقبة يجري تذليلها يختلق عقبات جديدة. وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، أوضح الأمر حين قال لعائلات المحتجزين في لقاء عقده معها ثلاثة أمور:
الأول، أنه من الناحية الأمنية يوجد إجماع بين الجيش والشاباك والموساد، بدعم إبرام الصفقة فورا وبأنه «لا يوجد أي عائق أمني بشأنها لا يمكن التغلّب عليه».
الثاني: أن عليهم التوجه لنتنياهو والضغط عليه، في إشارة واضحة أنه يرى فيه العقبة الكأداء.
الثالث: أن وقت الضغط الأنجع هو قبل زيارة نتنياهو لواشنطن في الرابع والعشرين من شهر يوليو الحالي، وخلال تلك الزيارة، مضيفا أنه بعد ذلك ستكون الأمور أصعب من ذلك بكثير، وأضاف لاحقا بأنه إذا لم تحصل صفقة خلال أسبوعين فقد حسم مصير المحتجزين.
زيارة واشنطن
يذهب البعض إلى التحليل بأن زيارة نتنياهو لواشنطن ستكون محطة مهمة ونقطة فارقة بالنسبة للصفقة. فالأرجح أن نتنياهو لن يفشلها قبل زيارة واشنطن، حتى لا يثير عليه الغضب الأمريكي، خاصة أنّه سيلتقي الرئيس جو بايدن. وقد تمنّى الكثيرون أن يقوم نتنياهو بإهداء موافقته على الصفقة للرئيس بايدن خلال لقائهما، لكن هذه الآمال تضاءلت كثيرا بعد صعود نجم ترامب، وتعويل نتنياهو على فوزه في الانتخابات الرئاسية ومساعيه المتكررة لكسب رضا ترامب الغاضب عليه منذ سنوات، ومن المستبعد أن يقدم نتنياهو على أي خطوة تزيد من غضب «المرشح الجريح». وقد طالب رئيس المعارضة الإسرائيلية، يئير لابيد، نتنياهو بأن يعلن موافقته على الصفقة خلال خطابه في الكونغرس، لكن يبدو أن نتنياهو غير مقتنع بذلك. لماذا قال غالانت إن المرحلة بعد زيارة واشنطن ستكون أصعب بكثير بالنسبة للصفقة؟ ربما لأنّه يعلم أن الضغط الأمريكي بشأن الصفقة سيبلغ ذروته عند وجود نتنياهو في واشنطن، مع إدراكه بأن ذلك قد لا يؤدي إلى تغيير موقف نتنياهو. في الحقيقة هناك إصرار أمريكي فعلي على التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فقد نُشر عن رئيس سي. آي. إي وليام بيرنز أنّه قال: «نحن نتقدم والاتجاه إيجابي.. أنا مصرّ على إتمام هذه الصفقة وإنهاء هذه الحرب، التي يجب أن تنتهي فورا.. من واجب إسرائيل وحماس استغلال الفرصة، والموافقة على اقتراح وقف إطلاق النار». لكن الآمال ضئيلة بأن يكون هناك تفاهم أمريكي ـ إسرائيلي في واشنطن لإنهاء الحرب، ولو من باب عدم إغضاب ترامب.
ما الذي من الممكن أن يحدث بعد عودة نتنياهو من زيارته للكونغرس والبيت الأبيض؟ هناك احتمالان، الأول أن يقبل نتنياهو بالصفقة وبموقف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وهذا احتمال ضعيف. وهنا من المهم الإشارة إلى أن نتنياهو، هذه الأيام، يعارض موقف مؤسسته الأمنية، وليس فقط موقف حماس. الاحتمال الثاني هو أن يواصل المماطلة ومساعي تعطيل الصفقة، وعندها من الممكن جدا أن يخرج غالانت كاشفا عن أن نتنياهو هو الذي يعطل الصفقة، ما سيخلق أزمة حكومية قد تؤدي بنتنياهو إلى إقالة غالانت. باعتقادي أن نتنياهو لن ينتظر حتى يقوم غالانت بمهاجمته علنا وباتهامه بمنع إطلاق سراح المحتجزين، وقد يقوم بإقالته قبلها. فحين سئل عن ذلك، في مؤتمر صحافي هذا الأسبوع، أجاب «ما دامت هناك ثقة، أنا لا أقيل الوزراء»، ومن المعروف أن الثقة بينهما معدومة. في الواقع أن نتنياهو (ومن حوله) معني جدا بإقالة يوآف غالانت، لكنّه يخشى ردّة فعل الشارع الإسرائيلي، الذي خرج بمئات الآلاف، قبل حوالي السنة، حين حاول نتنياهو إقالة وزير الأمن لأنه تحدّاه في مؤتمر صحافي علني.
ورقة ساعار
في البحث عن طريقة «سلسة» للتخلّص من غالانت وتثبيت حكومته، يفحص نتنياهو إمكانية ضم جدعون ساعر رئيس حزب «اليمين الرسمي» إلى الحكومة. لهذا الحزب أربعة أعضاء في الكنيست وفي حالة انضمامه يصبح عند الائتلاف الحكومي 68 عضوا، وحينها يفقد بن غفير، وله خمسة أعضاء كنيست قدرته على الابتزاز وتعطيل تمرير قوانين وفرض شروط على نتنياهو. كما أن ضم ساعار إلى الحكومة يعني تولّيه منصب وزير الأمن بدلا عن غالانت، وهكذا يستطيع نتنياهو أن يعرض الأمر على أنّه تقوية للائتلاف الحكومي، وليس انتقاما من غالانت لمواقفه المستقلة المنسجمة مع قيادة المؤسسة الأمنية التي يحاربها نتنياهو، ويسعى لتحميلها وحدها مسؤولية السابع من أكتوبر.
يتخذ ساعار مواقف يمينية تنسجم مع خط نتنياهو وتتخطّاه، وقد صرّح هذا الأسبوع: «أعتقد أن مسار الصفقة غير جيّد. عدد المختطفين الأحياء ينخفض باستمرار ومن جهة أخرى تزداد تنازلاتنا. يجب التمسّك بالخطوط الحمر التي وضعناها لأنفسنا». ظاهريا يبدو ضم ساعار مفيدا لنتنياهو، لكن الأخير لا يثق بالأول على خلفية صراعات مريرة بينهما، على مدى سنوات طويلة. كذلك يعرف نتنياهو جيّدا أن الميل الطبيعي لوزراء الأمن هو الانسجام مع مواقف الجيش، وهم يتأثرون بها أكثر من تأثّرهم بموقف رئيس الوزراء كان من كان. ويخشى نتنياهو أن يضم ساعار ليقف معه ضد الجيش ليجده بعدها وقف مع الجيش ضده. ومع ذلك تبقى ورقة ساعار في جيب نتنياهو، يستطيع أن يسحبها إن هو احتاج إليها في مراوغاته ومناوراته السياسية، ليشفي غليله بإقالة غالانت ويرضي حلفاءه من شاس وسائر الأحزاب الحريدية بتمرير القوانين التي يريدونها، ويزيد من استقرار ائتلافه ويطيل عمر حكومته.
بين الخفة والثقل
في المحطة التي نحن فيها هذه الأيام، هناك مفارقة مذهلة وفظيعة في آن واحد، بين خفّة التجاذبات في الحلبة السياسية الإسرائيلية، وثقل القضية المطروحة وهي وقف حمام الدم في غزة والتخفيف من معاناة الناس وانتشالهم من الحالة اللا-إنسانية التي يعيشونها.
لكن الأدهى من ذلك أن سبب اتجاه الأنظار شبه الكامل نحو الساحة السياسية الإسرائيلية، هو نتيجة مباشرة للشلل السياسي الفلسطيني، المتمثّل في بقاء الانقسام كما هو حتى في ظل حرب الإبادة واستشهاد ما يقارب خمسين ألف فلسطيني في غزة. يجب أن لا نكل ولا نمل من المناشدة بتشكّيل عنوان فلسطيني واحد وموحَّد وموحِّد، يخاطب العالم ويخاطبه العالم ويسد الطريق على المؤامرات التي تحاك في تل أبيب وواشنطن وحتى في بعض العواصم العربية. وما يزيد من صعوبة الوضع أيضا، حالة الزمن العربي الرديء، ما يصحبه من «قلة حيلة» قاتلة.
يبدو أن مسار المفاوضات الحالية للتوصل إلى صفقة لن يؤدّي إلى وقف الحرب. وهناك حاجة حياتية – أخلاقية – وطنية – قومية – دينية – إنسانية ماسة للبحث عن بديل ولطرح بديل. أنا على ثقة أن العالم العربي يستطيع، إن أراد ووحّد الإرادة. فهل يريد؟.