أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مقابلة مع “قناة 14” العبرية التابعة للمستوطنين وغلاة المتطرفين، نهاية يونيو/ حزيران الماضي، عن نهاية قريبة لمرحلة القتال المكثف من حرب غزة، مع التأكيد على أن الحرب ستستمر بوتيرة مختلفة أقل كثافة.
تحاشى نتنياهو في حديثه لقناة المستوطنين الحديث حرفيًا ورسميًا عن الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، وهو ما فعله وزير دفاعه يوآف غالانت من العاصمة الأمريكية واشنطن، مع إشارة لافتة إلى تأثير هذا الانتقال على الوضع في لبنان والمنطقة والإقليم بشكل عام.
بداية وللتذكير، تحدث يوآف غالانت وبالتفصيل في الكنيست عن مراحل الحرب الثلاث، وذلك في وقت مبكر من الحرب، تحديدًا في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
مراحل الحرب
حسب وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف غالانت، فإن المرحلة الأولى تشمل العمل الجوي المكثّف مع تأمين أو إعادة احتلال المستوطنات بغلاف غزة، حيث قاتل المقاومون هناك بثبات حتى بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، بينما استعادت “إسرائيل” السيطرة الكاملة عليها بعد أيام وحتى أسابيع.
وكان هذا سبب أو أحد أسباب تأخر العمل البري، ناهيك عن الاستعداد وتجنيد أعداد كبيرة من الاحتياط -300 ألف جندي تقريبًا-، والافتقاد إلى بعض المعدّات والتجهيزات المطلوبة لعمل برّي لم يستعد له جيش الاحتلال مسبقًا، لكن أُخذ القرار به بعد الدقائق وحتى الثواني الأولى لـ”طوفان الأقصى”، وإخراج خطط من الدرج كانت معدّة نظريًا قبل سنوات طويلة، ومنذ كان غالانت نفسه قائدًا للمنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال قبل عقد ونصف تقريبًا.
المرحلة الثانية من العدوان-الحرب أسماها غالانت وجنرالاته المناورة البرية الواسعة، وتلحظ قتالًا مكثفًا بعمق قطاع غزة، وبدأت في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي باجتياح شمال قطاع غزة بعد عزله تمامًا عن الوسط والجنوب، مع إعادة احتلال محور نتساريم في الأيام الأولى للحرب.
أما المرحلة الثالثة فتتمثل بسحب القوات من عمق قطاع غزة، مع قتال أقل حدّة وكثافة وغارات موضعية محدودة زمنيًا -أيام وأسابيع- بعدد جنود أقل، والقيام بما تسمّيه “إسرائيل” القضاء على جيوب المقاومة، في ضوء استحالة القضاء على عشرات آلاف المقاومين بعملية برية واحدة، مع خطورة بقاء جيش الاحتلال بقواعد ثابتة بغزة ما يحوّله إلى أهداف سهلة للمقاومين، خاصة إثر لجوئهم للابتعاد عن المواجهات المباشرة والانتقال إلى نمط أقرب لحرب العصابات.
يمكن الحديث بالسياق نفسه عمّا يمكن تسميته بالمرحلة الثالثة، وهي مرحلة جزّ العشب بالمصطلح العبري الدموي والعنصري المتداول، والمتضمنة قتل وتصفية الشباب الفلسطيني بدم بارد، مع القيام بتوغلات محدودة وقصيرة زمنيًا وأقل كثافة وفق النمط الجاري الآن بالضفة الغربية.
بمعنى تطبيق نموذج-جريمة جنين ونابلس وطولكرم في الشجاعية وخان يونس وجباليا، حسب التعبير الحرفي لوزير الدفاع السابق وعضو مجلس الحرب المستقيل الجنرال بيني غانتس.
حسب روزنامة وجدول أعمال غالانت وجيش الاحتلال، استغرقت المرحلة الأولى 3 أسابيع تقريبًا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول وحتى 27 منه، مع قصف جوي مكثف، والبحث عن الانتقام والضرر لا الدقة، حيث كان معدل الشهداء بتلك الفترة ما بين 400و500 شهيد يوميًا.
المرحلة الثانية استمرت على وقع القصف الجوي المضرّ لإيقاع نكبة جديدة بالفلسطينيين، وجعل غزة غير قابلة للحياة وهو أحد أهداف الحرب غير المعلنة، بينما تم توبيخ وزير الزراعة الجنرال آفي ديختر عندما تحدث عن ذلك.
تضمنت المرحلة الثانية بالطبع المناورة البرية في 27 أكتوبر/ تشرين الأول، في عمق القطاع والشمال تحديدًا، وبعد تدخل أمريكي لاتّباع سيناريو أو نموذج الموصل-الرقة لا الفالوجة الذي اتبعه الاحتلال الأمريكي في قتال “داعش” وفصائل المقاومة العراقية، بمعنى محاصرة منطقة محددة والتوغل بها بدلًا من احتلال القطاع كله مرة واحدة.
علمًا أن الشمال يمثل ثلث المساحة لكن مع نصف السكان (1.1 مليون)، ويعتبر العاصمة الإدارية الحكومية لحماس، ومنه انطلقت كذلك معظم عمليات “طوفان الأقصى” باتجاه المستوطنات في غلاف غزة.
يضمّ شمال القطاع مدينة غزة وبلدات جباليا ومخيمها وبيت لاهيا وبيت حانون، بعد احتلال محور الشهداء نتساريم وتقسيم القطاع، واستمرار القصف في الوسط والجنوب (خان يونس ورفح). ثم امتدت المناورة العملية البرية جنوبًا إلى خان يونس أوائل ديسمبر/ كانون الأول، بعد انتهاء الهدنة الأولى بالأسبوع الأخير من نوفمبر/ تشرين الثاني.
خلال الفترة نفسها شهدت الوسطى توغلات محدود، علمًا أنها منطقة صغيرة أصلًا، تحديدًا شمال مخيم النصيرات الجديد ومحيط محور نتساريم، ما يفسّر النسف المبكر لأبراج الزاهرة منذ بداية الحرب.
مماطلة
انتهت العملية والمناورة البرية عمليًا في خان يونس منتصف يناير/ كانون الثاني، وكانت مماطلة بعد المرحلة الثانية للعدوان التي كان يفترض أن تنتهي أوائل يناير / كانون الثاني أو منتصفه ، ما يعني أن العملية في خان يونس انتهت بعد شهر ونصف تقريبًا.
أما العملية-العدوان في رفح فجرى تحويلها إلى علنية وإعلامية لأقصى درجة خدمةً لنتنياهو وأجندته السياسية، وجعلها عنوان الانتصار المطلق الوهمي حسب تعبيره مع تحدٍّ دعائي للجهات الإقليمية والدولية المتحفظة على العملية، والأهم إطالة الحرب لأبعد مدى زمني ممكن كي لا يتعرض نتنياهو للمساءلة أو السقوط، ما يعني أن المرحلة الثانية برمّتها كان يفترض أن تنتهي في نهاية فبراير/ شباط الماضي.
إذًا، بدأت عملية رفح أوائل مايو/ أيار متأخرة 4 شهور تقريبًا عن موعدها المفترض، والآن نشهد تثاقلًا ومماطلة في الإعلان رسميًا عن الانتقال للمرحلة الثالثة لأهداف سياسية وحزبية بحتة، حيث جاء الإعلان العسكري الصريح من الجيش ووزير الدفاع مقابل تلعثم سياسي وإعلامي لنتنياهو.
يتحدث الاحتلال عن مرحلة أخرى من الحرب والقتال أقل كثافة وحدّة، ويربط ذلك بالتوجّه شمالًا نحو الجبهة اللبنانية، بينما يتجسد المشهد السوريالي هنا في حقيقة أن حرب المشاغلة هناك لم توقف حرب غزة، بل بدت هذه الأخيرة بعد الانتهاء من المرحلة الثانية للعدوان وتدميرها وإيقاع نكبة جديدة بها وكأنها تمهّد الطريق إلى حرب واسعة محتملة بالشمال، وربما استغلال نهاية الحرب في غزة لتطبيق الوثيقة التي توصّل إليها الوسيط الأمريكي بين “حزب الله” و”إسرائيل”، وهو للمفارقة يحمل الجنسية الإسرائيلية أيضًا وضابط احتياط بجيش الاحتلال.
إذًا كان الجنرال غالانت دائمًا أكثر دقة وصراحة بل فظاظة في الإعلان عن الحرب ومراحلها وأهدافها، بما في ذلك ما يعرف بمصطلح “اليوم التالي” الذي يملك رؤية خاصة به ترفض بقاء الاحتلال والسيطرة العسكرية، باعتبار ذلك وصفة لحرب استنزاف طويلة قد تستمر سنوات ولن تتحمل الدولة العبرية كلفتها، وعلى عدة مستويات سياسية واقتصادية وأمنية واستراتيجية.
المرحلة الثالثة لا تحاكي نموذج الضفة الغربية تمامًا رغم الشبه العام، إنما تلحظ القضاء على جيوب المقاومة العنيدة مع وجود آلاف المقاتلين بغزة مقابل مئات وحتى عشرات بالضفة، وتحاشي بقاء جيش الاحتلال بالمنطقة نفسها لأسابيع وشهور طويلة كي لا يتحول إلى هدف سهل.
تشهد المرحلة كذلك الانسحاب “الانكفاء”، وإعادة انتشار نحو محور نتساريم وفيلادلفيا الحدودي مع مصر بعد تدمير معبر رفح، ووضع مخطط لنقله إلى مثلث كرم أبو سالم، حيث المثلث الحدودي بين مصر وفلسطين والأراضي المحتلة عام 48.
تلحظ المرحلة الثالثة كذلك الانكفاء إلى المنطقة العازلة الحدودية التي ابتلعت سدس مساحة القطاع، بما في ذلك سلّة غذائه -الخضار الفاكهة والثورة الحيوانية-، وتمتد من بيت لاهيا شمال غرب القطاع، ثم بيت حانون شمال شرق، والنزول جنوبًا نحو خان يونس ورفح.
وعليه يمكن الاستنتاج أن التوغل بالأسابيع والأيام والساعات الأخيرة بجباليا والشجاعية والزيتون ومدينة غزة بأحيائها العريقة (الدرج التفاح والرمال) 3 مرات، وهي معاقل المقاومة والكثافة السكانية، لتدميرها وإجبار أهلها على النزوح أكثر من مرة، يمثل تطبيقًا فعليًا للمرحلة الثالثة وفق مخططات الاحتلال.
أما المرحلة الرابعة أو للدقة الثالثة “ب” فتتضمن المصطلح الدموي والعنصري “جزّ العشب”، والقيام بتوغلات محددة وضيقة أكثر زمنيًا وجغرافيًا لساعات أو أيام قليلة، كما هو حاصل الآن بالضفة الغربية في مدن جنين وطولكرم بعد الانتهاء أو التوهُّم بالنجاح في المهمة بحيّ القصبة في نابلس.
هروب
هذا كله يتطابق مع حديث مستشار الأمن القومي المقرب من نتنياهو، إسحاق هنغبي، عن استمرار الحرب لـ 6 شهور أخرى، أي حتى نهاية العام، وتقدير جيش الاحتلال القاضي باعتبار العام الجاري 2024 كله عام قتال حسب تعبيره، وحديث الناطق باسم الاحتلال دانيال هاغاري عن بقاء حماس واستمرار الحرب ضدها لـ 5 سنوات قادمة.
بالعموم، لا شك أننا أمام هروب إسرائيلي موصوف من مواجهة اليوم التالي للحرب، والاستلاب والتذاكي في وضع سيناريوهات لبقاء الاحتلال والسيطرة العسكرية العملياتية وأكل الكعكة وتسويقها للعالم على الطريقة الصهيونية، مع تجميله أو إخفائه عبر مصطلحات وكلمات براقة، مثل هيئة مدنية محلية ونشر قوات عربية ودولية ورفض سيطرة حكومة وسلطة فلسطينية موحدة لبقاء الانقسام مع الضفة الغربية.
إلى ذلك، تؤكد المعطيات السابقة مأزق الاحتلال الاستراتيجي والهروب المنهجي إلى الأمام من الجذر والأصل السياسي للقضية الفلسطينية، باعتبارها قضية تحرر وطني، حيث الشعب الصامد العنيد الذي لا يخضع أو يستسلم في سعيه نحو تحقيق أماله المشروعة في الاستقلال والسيادة وتقرير المصير.
المصدر: نون بوست