بقلم: د. جمال زحالقة
عادت، هذا الأسبوع، أطراف «رباعية صفقة التبادل» إلى الاجتماع على مائدة المفاوضات في الدوحة. ووُصف الاجتماع بأنه «لقاء قمة»، يجمع رؤساء أجهزة المخابرات: رئيس سي.آي.إيه وليام بيرنز، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل، ورئيس الموساد دافيد بارنيع، إضافة إلى رئيس وزراء البلد المضيف محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. وتنشر بعض الأطراف المرتبطة بهذه المفاوضات أنباء عن تقدم ملحوظ وجسر للهوة وحتى عن قرب التوصل إلى اتفاق. وفي المقابل تدعو جهات أخرى إلى عدم الإفراط في التفاؤل، وتشير إلى أن هناك خلافات جدية وقضايا عالقة وأن المفاوضات ستكون صعبة وشائكة وسوف تمتد لأسابيع طويلة.
شروط نتنياهو
يبدو أن العائق الأكبر أمام التوصل إلى صفقة تبادل، هو إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي على ألا يشمل الاتفاق وقفا دائما لإطلاق النار، وانسحابا كاملا للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة. وكلما لاحت في الأفق إمكانية للتوصل إلى صفقة تبادل، يسارع نتنياهو إلى إطلاق تصريحات تهدف إلى نسف هذه الإمكانية من أساسها. فعل ذلك في الماضي عدة مرات، وفعلها مرة أخرى هذا الأسبوع، حين أصدر بيانا طرح فيه شروطه لعرقلة التوصل إلى صفقة، ويبدو ذلك واضحا من مضمون البيان وتوقيته عشية تجديد المفاوضات. لقد وضع نتنياهو في بيانه أربعة شروط، لا يمكن معها إنهاء الحرب:
الأول: أن أي صفقة يجب أن «تسمح لإسرائيل بالعودة للقتال حتى تحقيق جميع أهداف الحرب». ما يعني أنه يعارض المبدأ الأهم في خطة بايدن وفي قرار مجلس الأمن وهو وقف الحرب. نتنياهو يقول ويكرر ويؤكّد أنه يعارض وقف إطلاق النار، وهو يوجّه بهذا رسالة لحماس لإقناعها برفض الصفقة ليستطيع بعدها الادعاء بأنها هي سبب الفشل. كما أن نتنياهو يرد في تكراره على موقف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، التي تُجمع على ضرورة استغلال الفرصة، والتوصل إلى صفقة، وتبدي استعدادا لوقف إطلاق النار. لكن هذه الأجهزة ومن يدعم موقفها، تقول بشكل شبه علني بأنه بعد الالتزام بوقف إطلاق النار الدائم، بإمكان إسرائيل إيجاد التبريرات الكافية للعودة للقتال بعد إتمام الصفقة وإطلاق سراح المحتجزين. نتنياهو ومن حوله يردّون على ذلك بأنه في اللحظة التي تتعهد فيها إسرائيل بوقف دائم لإطلاق النار، لن يسمح لها العالم بالعودة إلى القتال. بالنسبة لنتنياهو نهاية الحرب تعني انتخابات ولجان تحقيق وتهديد مباشر لبقائه في السلطة. والأهم من ذلك هو يسعى فعلا إلى تحقيق نصر ما، أو على الأقل «صورة نصر»، تمكنه من ترميم مكانته في الشارع وفي التاريخ.
الحرب هي الميل الطبيعي للدولة الصهيونية، ولن يردعها عنها سوى ميل قسري وجهد عربي شامل لوقف حمام الدم، ليس بشكل مؤقت فقط بل بشكل دائم
الثاني: إسرائيل «لن تسمح بتهريب أسلحة من مصر إلى غزة»، وهذا يعني عمليا أن إسرائيل ستواصل السيطرة على محور فيلادلفيا، إذا لم يوجد حل لهذه «المشكلة». ووفق وسائل الإعلام الإسرائيلية، كان هذا الموضوع محور لقاء ثلاثي أمريكي مصري إسرائيلي، في القاهرة هذا الأسبوع. وما تريده إسرائيل هو إنشاء جدار تحت الأرض يمنع شق الأنفاق، على غرار الحاجز في باطن الأرض، الذي أقامته على حدود غزة. وحتى لو جرى الاتفاق على إنشاء «الحاجز العميق»، فإن نصبه يستغرق سنوات. ويبدو من كلام نتنياهو أن إسرائيل لن تترك محور فيلادلفيا، حتى تحصل على حل يرضيها.
الثالث: إسرائيل «لن تسمح بعودة آلاف المسلحين إلى شمال القطاع»، ومعنى «لن تسمح» هو أن إسرائيل تريد مواصلة السيطرة على المنطقة التي تفصل شمال القطاع عن جنوبه. ولكن ما يحدث اليوم هو أسوأ من ذلك بكثير، حيث عاد جيش الاحتلال الإسرائيلي وطلب من سكان غزة مغادرة المدينة إلى الجنوب، في محاولة لفرض معادلة قوامها، أنه حتى لا يكون مسلحون في شمال القطاع، يجب ألا يكون فيه أحد من سكّانه. وجاء في المنشور الذي نشره الجيش الإسرائيلي أن «مدينة غزّة ستبقى منطقة قتال خطيرة» وأن على الموجودين فيها أن يرحلوا جنوبا إلى دير البلح.
الرابع: إسرائيل «سترفع إلى الحد الأقصى عدد المخطوفين الأحياء، الذين سيعادون من أسر حماس». هنا لأول مرة يذكر نتنياهو كلمة «أحياء» في سياق إعادة المحتجزين، لكنّه لا يلتزم بالعمل على إعادتهم جميعا، بل إلى رفع العدد إلى الحد الأقصى المتاح. وبكلمات أخرى هو لا يريد بأي حال صفقة شاملة، بل المرحلة الأولى من الصفقة فقط، وفيها ستجري إعادة «الحد الأقصى من المخطوفين الأحياء»، وهذه صياغة أخرى لما قاله نتنياهو في مقابلة مع القناة 14 الإسرائيلية، وأوضح حينها بانه يوافق على المرحلة الأولى ليتجدد القتال بعدها.
مواعيد نتنياهو
يستعد نتنياهو لإلقاء خطابه في الكونغرس الأمريكي بعد أسبوعين من اليوم، ومن المقرر أيضا أن يلتقي حينها الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض. وعلى «شرف» زيارته لواشنطن لا يريد نتنياهو الدخول في مواجهة مع الإدارة الأمريكية، وعليه وافق على إرسال وفد للمشاركة في مباحثات الدوحة، وحرص في توجيهاته للوفد الإسرائيلي وفي اتصالاته مع المسؤولين الأمريكيين على الظهور بمظهر المستعد للتوصل إلى صفقة. فهو لا يريد أن تفشل المفاوضات قبل خطابه في الكونغرس، لذا يسعى إلى كسب الوقت والمماطلة إلى هذا الموعد. ماذا سيفعل نتنياهو بعدها؟ هذا ليس واضحا، لكن ما رشح إلى الآن هو أنه يقول من جهة أنه يريد صفقة وفي الوقت ذاته يضع شروطا تجعلها مستحيلة. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى تسريبات متكررة من جهات أمنية إسرائيلية عليا، بأنه سيكون من الصعب جدا على نتنياهو إفشال الصفقة هذه المرة. موعد آخر مهم في السياسة الإسرائيلية، هو خروج الكنيست إلى العطلة الصيفية حتى تشرين الأول/أكتوبر المقبل، ما يضعف إمكانية إسقاط الحكومة لمدة أشهر، ويخفف الضغط على نتنياهو، إن هو أراد التوصل إلى صفقة، لكن لا يبدو إلى الآن أنه يريد ذلك.
قضية أخرى مرتبطة بالتوقيت هي مسألة عودة سكان المستوطنات الحدودية الشمالية. وحين سئل نتنياهو عن عودة الطلاب إلى مدارسهم مع افتتاح السنة الدراسية في الأول من أيلول/سبتمبر، أجاب بأن ذلك سيحدث بعدها بشهرين على الأقل، أي بعد تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. علامَ بنى نتنياهو هذا الكلام؟ هناك ادعاء بأن الحرب الشرسة في غزة قد تنتهي في ذلك الموعد وعندها من الممكن أن يكون وقف لإطلاق النار على الحدود اللبنانية. نتنياهو تحدث عن نوفمبر قبل أشهر، ومن الممكن ألا تهدأ الأمور على الحدود اللبنانية قبل ذلك. الموعد المثير جدا، الذي يتعلق بنتنياهو هو قرار المحكمة برفض طلبه تأجيل شهادته إلى آذار/مارس المقبل، وتحديد موعد الثاني من كانون الأول/ديسمبر لبدء الإدلاء بشهادته في قضايا الفساد المتهم بها. ويرى عدد من الإعلاميين الإسرائيليين أن نتنياهو لن يمثل أمام المحكمة، وسيسعى للتوصل إلى صفقة مع النيابة العامة، ما يعني بالضرورة تخلّيه عن منصبه. هذا احتمال وارد. لكن هناك احتمال آخر وهو أن نتنياهو ينوي أصلا توسيع الحرب، ما سيعرقل جلسات المحكمة. في كل الأحوال مواعيد نتنياهو ليست هي التي تحسم موقفه، ولكنها السياق الذي يعمل خلاله هذا الشخص، الذي يحمل مفاتيح مواقف الدولة الصهيونية.
في ظل الحديث والتفاوض حول التوصل إلى صفقة تبادل أسرى تشمل وقفا لإطلاق النار، تواصل قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي جرائمها المروعة في جميع أنحاء قطاع غزة. ويستدل من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنّها حرب لسنوات طويلة. وحتى الذين ينادون بالتوصل إلى صفقة فورية مع وقف للحرب، يعلنون سلفا أن الحرب سوف تستأنف في مرحلة لاحقة. هذا يعني أن الخلاف في إسرائيل تكتيكي ويتعلق أساسا بإعادة المحتجزين، وليس بتوجه لإنهاء الحرب. المفاوضات مهمة جدا، والجهود المصرية والقطرية هي الآن أهم ما تقوم به الأمة العربية لوقف سفك الدم الفلسطيني في غزة، ولكن حتى لو تكللت هذه الجهود بالنجاح، فسيكون ذلك للمدى القصير فقط، وتبقى الحرب هي الميل الطبيعي للدولة الصهيونية، ولن يردعها عنها سوى ميل قسري وجهد عربي شامل لوقف حمام الدم، ليس بشكل مؤقت فقط، بل بشكل دائم وصولا إلى محاصرة نظام الأبرتهايد الإسرائيلي وتفكيكه. ومن نافل القول إنه لن يكون جهد عربي جدّي إلا بعد ترميم البيت الفلسطيني على أساس الوحدة الوطنية، وعنوان واحد يتحدث باسم الشعب الفلسطيني كله.