من نتائج عملية «طوفان الأقصى» والصمود الفلسطيني في قطاع غزة، تغيير المفاهيم الإستراتيجية في المنطقة، بحيث لم يعد التطبيع مع إسرائيل، كمعبر للعلاقات مع الولايات المتحدة يفضي إلى حماية نظام ما، بالنسبة إلى مريديه، بالجدوى نفسها التي كان عليها قبل «الطوفان»، الذي وجّه، بهذا المعنى، ضربة قد تكون مميتة إلى مشروع التطبيع. وإذا أُخذت العلاقات السعودية - اليمنية نموذجاً، يتّضح أن مملكة محمد بن سلمان تحسب خطواتها بدقة، ولا سيّما أن السيد عبد الملك الحوثي كرّر التحذير في خطبه في الأسابيع الماضية، من أن «التطبيع السعودي الأمني» سيُعدّ تهديداً للأمن القومي اليمني، وربما يترتّب عليه وضع السعودية مجدداً ضمن أهداف المسيّرات والصواريخ اليمنية التي دخلت الآن عصر الفرط صوتي، فضلاً عن تطوّرات كثيرة أظهرتها معركة البحر الأحمر على مستوى فاعلية السلاح اليمني ودقته. ولعلّ مأزق الرياض يتمثّل في كونها متأرجحة، ولم تستطع أن تحدّد مساراً واضحاً حول ما تنوي فعله في موضوع التطبيع. ورغم أن الإعلام السعودي ما زال يعكس رهاناً على نصر إسرائيلي في قطاع غزة ظهر في بدايات الحرب، إلا أن المستوى الرسمي صار أكثر حذراً، واختفت الأحاديث والتلميحات السعودية، بما في ذلك من ابن سلمان نفسه، حول اقتراب التطبيع. وفي ما يتصل بالعلاقة مع اليمن، تتعرّض الرياض لضغوط مزدوجة، بعضها من واشنطن التي تستخدم وكلاء المملكة في عدن للضغط مالياً واقتصادياً على صنعاء، وبعضها الثاني من الأخيرة نفسها التي تطالب السعودية بحسم خياراتها، ولا سيما أن وقتاً طويلاً مضى على التوصل إلى اتفاق الهدنة، ثم اتفاق السلام نفسه، بين الجانبين اليمني والسعودي، والذي وصل قبل «طوفان الأقصى» إلى مرحلة تحديد المواعيد للتوقيع. وعليه، فالآن على المملكة أن تختار بين إدارة الظهر للولايات المتحدة، وبين أن تعود إلى دائرة الحرب مع اليمن، مع كل ما في هذا من مخاطر على المملكة ومشاريعها المستقبلية العمرانية والاقتصادية المتعثّرة أصلاً.
على أن مأزق السعودية في موضوع التطبيع، لا يتوقّف عند الملف اليمني، رغم أنه الأهم بالنسبة إليها. إذ إن الرياض لم تستطع، قبل أيام، أن تتجاهل قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي تشريع 5 مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، واضطرت إلى إصدار بيان إدانة، كون ذلك ينسف أحد الشروط السعودية للتطبيع، أو على وجه أدق تلك التي تمكّن المملكة من تمرير التطبيع، عبر إنهاء حرب غزة ضمن مسار «لا رجعة فيه» يفضي في النهاية إلى دولة فلسطينية. ومع أن الرياض ليست في موقع يمكّنها من فرض الشروط على تل أبيب وواشنطن، إلا أنها لا تستطيع المضيّ في التطبيع من دون حفظ ماء وجهها أمام الشعب السعودي، وليكن ما يكون بعد ذلك. لكن حكومة المتطرفين في إسرائيل التي أظهرت عدم اكتراث باتفاق تطبيع مع المملكة، لا تساعد الأخيرة على المضيّ في هذا الطريق، لا لأنها خائفة من أن تفرض عليها المملكة دولة فلسطينية يرفض الإسرائيليون حتى الآن القبول بها، حتى لو كانت مجرد اسم، بل فقط لأنها لا تريد إنهاء الحرب.
الاحتمال الوحيد لكي يسير التطبيع إلى الأمام، هو انتصار إسرائيلي في قطاع غزة، ما زال بعيد المنال، ولا يظهر أن الوقت يعمل لمصلحة العدو في الوصول إليه. وهذا ما يفسّر أن كل الدول الخليجية والعربية التي تعتمد على الولايات المتحدة في أمنها، تحوّلت فعلياً إلى جبهات مساندة لإسرائيل بالمعنى السياسي والاقتصادي وحتى العسكري، ولو من دون إطلاق نار، وإلا ما معنى العداء لحركة «حماس» ولكل من يساندها في حرب غزة؟ وما معنى حتى مجرد الضغط على الحركة، للقبول بصفقة لا تفي بالمطلوب من قبلها، وما يؤهلها لطلبه وضع جبهات القتال الحالي. هنا، تكمن أهمية جبهات المساندة لقطاع غزة، ولا سيما في لبنان واليمن، إذ إن هذه الجبهات صارت حروباً قائمة بذاتها، لها مساهمة كبيرة في الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة عسكرياً، بما يدفعهما إما إلى حرب واسعة غير معلومة النتائج بالنسبة إليهما، وإما إلى التسليم بالواقع.
هنا، يحضر السؤال: ما سيكون مصير التطبيع في ما لو حقق معارضو أميركا وإسرائيل انتصاراً لا لبس فيه على الأخيرتين؟ لن تستطيع السعودية في هذه الحالة تمرير التطبيع شعبياً، ولن تكون ثمة مصلحة لنظامها في استمرار استعداء المقاومة المنتصرة، لأنه سيظهر بوضوح عندها أن إسرائيل وأميركا لن تستطيعا حماية المملكة وغيرها من الدول الخليجية وغير الخليجية، ممّن فشلتا في حماية نفسيهما منهم. وعليه، مثله مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ينتظر ابن سلمان فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأميركية للعودة إلى التحالف معه ومع إسرائيل، كما كان الوضع قبل سقوط الأخير في انتخابات 2020.
المصدر: الاخبار اللبنانية