2024-11-14 07:24 م

“سماسرة الحج”.. سبوبة التلاعب بمشاعر المصريين وحياتهم

2024-06-23

لا تزال أصداء وفاة 672 مصريًا (هناك 25 آخرين في عداد المفقودين) في أثناء أدائهم لمناسك الحج هذا العام، جراء الظروف الجوية الصعبة حيث تجاوزت درجة الحرارة في مكة 51 درجة مئوية، تلقي بظلالها القاتمة على الشارع المصري، حيث الحزن الممزوج بالغضب إزاء الأسباب والأجواء التي قادت إلى تلك الكارثة غير المسبوقة التي تثير عشرات التساؤلات عن منظومة السياحة الدينية في مصر.

ودفعت تلك الكارثة السلطات المصرية لتشكيل خلية أزمة لمتابعة ظروف الوفاة وملابساتها، فيما أمر رئيس الحكومة مصطفى مدبولي بسحب رخص 16 شركة سياحية بدعوى التحايل لتسفير الحجاج بصورة غير نظامية وإحالة مسؤوليها للنيابة العامة.

ويمثل المصريون أكثر من 50% من إجمالي الوفيات بين الحجيج هذا العام والبالغ عددهم 1301 بحسب وزارة الصحة السعودية، الأمر الذي دفع لإعادة فتح ملف “سماسرة الحج” مرة أخرى، والمتورط فيه جهات عدة، رسمية وغير رسمية، ليدفع المواطن قليل الحيلة ثمن هذا الفساد والتحايل والهرولة نحو تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية على حساب أرواح وحياة المئات من المصريين الحالمين بأداء فريضة الحج.

مشاهد مؤلمة
“ما حدث لن يُنسى، ولا يمكن أن يفارق الذاكرة مهما مر عليه الزمن، فما أصعب أن يتساقط الحجيج من حولك كما يتساقط ورق الشجر، تساقط مهين دون أدنى إنسانية، لا إسعافات ولا إنقاذ ولا حتى تعامل آدمي..” بكلمات تخنقها الدموع استدعى “شحاتة” تجربته المريرة في الحج هذا العام، كشاهد عيان على واحد من أصعب المواقف التي مر بها في حياته على حد قوله.

يحكي شحاتة (أربعيني مصري يعمل محاسبًا) تجربته في الحج هذا العام قائلًا “حلمت أكثر من مرة أني أزور قبر النبي عليه السلام وأحج بيت الله الحرام، فهممت على ذلك، لكن ظروفي المادية لا تسمح فكلفة الحج وصلت إلى مستويات من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن أقدر عليها، خاصة وأنا موظف ليس لي مصدر دخل آخر سوى راتبي الذي لم يتجاوز 8 آلاف جنيه (168 دولارًا) “.

وتابع في حديثه لـ”نون بوست”: “أخبرني جاري أنه يمكنني الحج بكلفة أقل من ذلك عن طريق إحدى شركات السياحة التي يتعامل معها، مقابل 50 ألف جنيه فقط، بحيث يكون السفر عن طريق تأشيرة زيارة وليست حجًا، فوافقت على الفور فتلك فرصة لا يمكن تضييعها مطلقًا، وبالفعل دفعت المبلغ وحصلت على التأشيرة وسافرت إلى مكة في مايو الماضي”.

ثم يشير شحاتة إلى أنه أقام في شقة بمكة، انتظارًا لموعد الحج وأداء المناسك، لكنه فوجئ بالشرطة تداهم الشقق في الأيام الأولى من الحج، فاضطر هو ومعه عدد من الحجيج القادمين بنفس الطريقة، لمغادرة الشقة، والذهاب مباشرة إلى أداء المناسك سيرًا على الأقدام، في مشهد غير آدمي بالمرة، حيث الاعتماد على تبرعات فاعلي الخير في المأكل والمشرب بعدما نفد ما لديهم، لافتًا إلى أنه قطع مسافة تزيد عن 7 كيلومترات من مكان الشقة التي كان يسكن بها إلى جبل عرفات، وهنا كانت الكارثة.

حيث تجاوزت درجات الحرارة 50 درجة مئوية، وكان معهم كبار سن ونساء، وفجأة ودون سابق إنذار وفي ظل تلك الأجواء الملتهبة، بدأ البعض يتساقطون، كان الظن ابتداء أنه إرهاق عابر ثم يعاودون السير، لكنه فوجئ بأحدهم يفارق الحياة، وهم لا يستطيعون إنقاذه، حيث لا إسعافات ولا نجدة في تلك الطرق التي يسيرون بها بعيدًا عن الطرق الرئيسية التي توجد بها الشرطة والإسعاف، هذا بخلاف الخوف من طلب الشرطة فيتم إلقاء القبض عليهم وترحيلهم إلى مصر دون أداء الفريضة.

أما “عبيد” وهو باحث بالحكومة المصرية، فيقول إنه اشترى تأشيرة زيارة للسعودية عن طريق إحدى شركات الحج والعمرة بمبلغ 40 ألف جنيه، رغم أن الدعوة تتكلف من الغرفة التجارية السعودية نحو 35 ريالًا فقط (500 جنيه مصري)، فإنه قبل لأجل أداء الفريضة التي كان يُمني النفس بها، ويضيف أنه اضطر لقطع مسافات كبيرة سيرًا على الأقدام من طرق غير شرعية تفاديًا لكمائن الشرطة بعد التهديد بترحيل وتغريم المخالفين.

وأكد الباحث المصري أن الأزمة بدأت صباح يوم عرفة، حيث كانت الحرارة مرتفعة للغاية، والمكان مكشوف ولا ملجأ فيه للهرب أو الاحتماء من تلك الأجواء الملتهبة، فسقط العشرات من النساء وكبار السن بسبب الحر وغياب الإسعافات وهربًا من ملاحقات الأمن، لافتًا إلى أن بعض ممن ماتوا لم يتم التعرف عليهم، حيث كانوا دون مرافقين، وتم نقلهم إلى بعض المخيمات في عرفات تمهيدًا لنقلهم للمشرحة والتعرف عليهم.

وفي شهادته عن تجربته في الحج هذا العام يقول الكاتب المصري ورئيس تحرير جريدة “الشروق”، عماد الدين حسين: “في جبل عرفة والمزدلفة ومنى والمسجد الحرام ‎شاهدت بعينى آلاف المصريين والأجانب يفترشون الشوارع لأداء فريضة الحج تحت شمس حارقة وصلت فى اليوم الثالث من الحج إلى 51.8 درجة مئوية”، وتابع في مقال له: “خلال ذهابى لرمى الجمرات فى منى قد رأيت حجاجًا مصريين ومن جنسيات مختلفة متوفيين على جوانب الطرق قبل أن تنقلهم سيارات الإسعاف السعودية للمستشفيات”.

سماسرة الحج
في ظل كلفة الحج المرتفعة التي لا تتناسب ومستوى غالبية المصريين، حيث تتراوح كلفة الحج السياحي بين 191 ألف جنيه (4 آلاف دولار) و450 ألف جنيه (9500 دولار) حسب الفئة، فإن البحث عن البدائل الرخيصة كان الحل الوحيد، وهو المدخل الذي دخلت منه شركات السياحة الدينية للعب على مشاعر المصريين الحالمين بالحج والعمرة.

ومن هنا بدأت الشركات تتفنن في التحايل على تلك الأرقام الفلكية للحج باستحداث نظام جديد، يقوم على استخراج تأشيرة زيارة مدتها 90 يومًا، وتقوم بتسفير الراغب في الحج قبل الموعد المحدد لغلق مكة بفترة كافية، تتراوح بين 15 يومًا وشهر كامل، يتحمل فيها المسافر كل نفقات الحياة هناك، من مسكن ومأكل وخلافه، وما إن يأتي موعد الحج يبدأ كل فرد في التعامل بطريقته الخاصة، يكون فيها الاعتماد على الأساليب غير القانونية، كالعبور من المناطق الجبلية البعيدة عن أعين الأمن، والاكتفاء بالإقامة في الشوارع والمساجد بدلًا من الخيام.

يقول الحاج محمد (صاحب إحدى شركات السياحة الدينية في محافظة الدقهلية) إنه يوفر دعوات وتأشيرات زيارة للراغبين في أداء الحج والعمرة، وإنه يخبر المسافرين بأن حجهم سيكون بطرق غير شرعية وغير قانونية، والشركة غير مسؤولة عن أي شيء، لافتًا إلى أن دور الشركة فقط هو توفير تأشيرة السفر والباركود الخاص بها، ووصولهم إلى مكة أو جدة أو المدينة قبل أن تغلق السلطات السعودية منطقة المشاعر، ما دون ذلك هو مسؤولية المسافر ولا دور للشركة في ذلك، منوهًا بأن بعض الشركات توفر طوافين ومرافقين للمسافرين، لكن ليس كل الشركات تقوم بذلك لأنها كلفة إضافية قد لا يرغب المسافر في تحملها.

ويوضح الحاج محمد في حديثه لـ”نون بوست” أن كلفة الحج تتراوح بين 50 إلى 130 ألف جنيه، أي ما يقارب ثلث كلفة الحج السياحي بالطرق القانونية، وهو ما يغري الراغبين في أداء الفريضة، مضيفًا أن مئات الشركات في مصر تتعامل بتلك الطريقة منذ سنوات طويلة، وأن الجهات المسؤولة على علم بذلك، وأنه لولا حجم الوفيات الكبير هذا العام، والضجة التي صاحبته، لما تطرق أحد لهذا الملف من الأساس.

مسؤولية مشتركة
تثير كارثة وفاة الحجيج المصريين الكثير من التساؤلات عن المسؤول الحقيقي عنها، في ظل استراتيجية إلقاء المسؤولية التي يتبعها الجميع، دفعًا للمحاسبة والعقاب، ومن ثم فالمسؤولية هنا مشتركة بين الجهات الرسمية وغير الرسمية، كالتالي:

أولًا: السلطات المصرية.. فالدولة هي المسؤول الأول إزاء تلك الكارثة، إذ تجرى تلك الممارسات على مرأى ومسمع من مسؤوليها على مدار عشرات السنوات دون أي تحرك من شأنه وقف مثل تلك الأخطاء الفادحة، ولولا عدد الوفيات الكبير هذا العام لما تحرك أحد حسبما أشارت الكثير من المصادر لـ”نون بوست”.

مع الوضع في الاعتبار أن الأزمة لم تكن تشريعية ولا قانونية في المقام الأول كما يردد البعض، فهناك بنية قانونية كفيلة بتقنين العملية إذا ما توافرت الرقابة والتطبيق الجيد من الجهات المنوطة، إذ تضمن قانون تنظيم الحج رقم 84 لسنة 2022 العديد من البنود التي تقنن عملية أداء الفريضة وتغلظ عقوبة المخالفين، أبرزها المادة (19) التي تشدد على ضرورة وجود الكود التعريفى الصادر من البوابة على جواز السفر وفى حالة عدم صحته تُتخذ الاجراءات القانونية أو الإدارية.

كما نصت المادة (21) على المعاقبة بغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز 3 ملايين جنيه على كل من نفذ رحلات أداء مناسك الحج دون الالتزام بالتعليمات الواردة، ووفقًا لنص المادة (18) تلتزم الشركات الناقلة بمطابقة بيانات الحجاج مع البيانات المسجلة لديها قبل مغادرتهم منافذ الجمهورية، فيما أقرت المادة (22) بمعاقبة كل من يخالف أحكام تلك المادة بغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز 5 ملايين جنيه.

ويمنح القانون في مادته الـ(24) وزير السياحة صلاحية إصدار قرارات بوقف النشاط السياحي للشركات المخالفة، كليًا أو جزئيًا، لمدة لا تتجاوز سنة إذا ثبت مخالفتها لأحكام هذا القانون، وفى حال تكرار المخالفة يُلغى ترخيص الشركة السياحية.

ثانيًا: شركات السياحة والمواطن معًا.. استغلت الشركات العاملة في مجال السياحة الدينية، لا سيما غير المرخصة، حالة غياب الرقابة الرسمية، للعزف على وتر مشاعر المصريين الراغبين في أداء الحج والعمرة وغير القادرين على تحمل الكلفة الرسمية، فطرقت على أبواب الكلفة الرخيصة نظير التمتع بالفريضة، وهو ما أسال لُعاب الكثيرين ممن تتوق أنفسهم لزيارة بيت الله الحرام.

وتلاقت أهداف أصحاب تلك الشركات في الكسب السريع مع أحلام المصريين في أداء الحج بسعر رخيص، الأمر الذي أسفر في النهاية عما يشبه “المقامرة”، حيث السفر غير الآدمي، محفوف المخاطر، لا خيام مجهزة، ولا ضمانات غذائية، ولا خدمات صحية وعلاجية، ولا وسائل تنقل مؤهلة، لتجتمع كل تلك العوامل مع درجات حرارة مرتفعة للغاية أدت إلى سقوط هذا العدد الكبير من الوفيات.

ويدفع أصحاب تلك الشركات المسؤولية عن أنفسهم بإلقائها في ملعب الدولة، لافتين إلى أن الارتفاع الكبير في كلفة الحج سببه الرئيسي ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه، مشددين على أن سياسات الحكومة هي السبب في هذا الارتفاع، الأمر الذي انعكس على أسعار كل السلع والخدمات، ومن بينها الحج الذي كان قبل عام 2016 لا يتجاوز 55-60 ألف جنيه حين كان الدولار بـ8 جنيهات، ليقفز اليوم إلى ما يقرب 400 ألف جنيه بعدما وصل الدولار إلى 48 جنيهًا مصريًا.

وبين فشل سياسات الدولة وغياب الرقابة من جانب، وطمع سماسرة الحج الباحثين عن الكسب السريع من جانب آخر، ثم إفراط السلطات السعودية في كلفة الحج من جانب ثالث، يسقط التواقون لزيارة بيت الله الحرام فريسة سهلة، لتتحول الرحلة الدينية الأكثر قداسة في حياة الإنسان إلى مغامرة قد تكلفه حياته.

المصدر: نون بوست