2024-11-26 05:38 م

اكتب لكم من طهران..

2024-05-26

بقلم: كمال خلف

حطت الطائرة في العاصمة الإيرانية وهي تتشح بالحزن والاعلام السود حدادا على رحيل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين امير عبد اللهيان ورفاقهم في حادثة سقوط الطائرة الرئاسية على الحدود بين ايران وأذربيجان.
العاصمة او “بايتخت” كما في اللغة الفارسية تغيرت كثيرا عن اخر مرة زرتها، حجم التطور في البناء والعمران والبنى التحتية في العاصمة لافت للنظر، مدينة يجري تحديثها باستمرار لتضاهي في روعتها افضل مدن الشرق والغرب، مع التأكيد باننا نتحدث عن دولة محاصرة بشكل خانق منذ العام 1979 ورغم عصريتها يُبقي الإيرانيون نوعا من روح حضارتهم وارثهم التاريخي خاضرا في طابعها. فانت في بلاد فارس حتما وان علا العمران واتسعت الطرق وبنيت الجسور وانشأت الحدائق. للحضارة الإيرانية حضور عصري مستمر مع تبدل الحقب والعصور، لها روح ملازم للجسد العمراني تماما مثل حضارات الشرق العريقة.
وان كانت ايران قد جلست يوما ما على عرش التاريخ قرونا سابقة، الا انها مازالت تعتبر ان التاريخ ليس “نوستالوجيا”، بل تحدي لبناء مستقبل يعطي للامة مكانها الذي تستحقه بين أمم وشعوب الأرض.
“بايتخت” بالنسبة للايرانيين اليوم هو معنى يجب ان يجسد في عالم السياسة والصراع على النفوذ والمكانة الدولية، وبالنسبة لصناع القرار في الجمهورية الإسلامية ليس هذا المعنى أحلام يقظة، انما يمكن حياكته على طريقة صانع السجاد التبريزي، بكثير من الصبر والدقة والنفس الطويل. اسرار هذه الدولة وخطوط اتجاه سياستها في الاستراتيجيات وعلى المسرحين الإقليمي والدولي تكمن في هذه الوصفة.
اعتقد ان النخبة السياسية العربية رغم الاتصال الجغرافي بينها وبين ايران، والتاريخ المشترك والمتداخل، لم تتمكن حتى اليوم من فك شيفرة ايران المعاصرة، وتحديدا بعد الثورة الإسلامية عام 1979. وظلت العلاقات بين معظم الدول العربية وايران تتراوح بين القلق والخوف منها، او الحوار الحذر معها. وبنيت اغلب السياسيات على أسس عرقلة توجهات ايران والوقوف في وجهها، دون ان نفهم موقع مصالحنا العربية من ذلك. فتماهت النظرة العربية مع الأهداف الامريكية والغربية في مواجهة ايران، دون ادراك للفرق بين ما يريده الغرب من ايران وما نريده نحن كعرب.
 وللمفارقة فان تركية الاتاتوركية والتي انضمت الى فضاء الغرب بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وأصبحت احد اركان حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة، بنت علاقة ثابتة مع ايران، وتعد الحدود بين تركية وايران واحدة من اقدم الحدود في العالم وبقيت ثابتة منذ معركة جالديران عام 1514 وتوقيع معاهدة قصر شيرين. لكلا الدولتين مشروعات للنهوض واحتلال مكانة دولية متقدمة، ولكن لم تتصادم المشاريع، واذا تباينت الرؤى الإقليمية في بعض المحطات يجري حلها عبر الحوار الثنائي، لم يتمكن الغرب من استعمال تركية ضد ايران، عندما تكون المصلحة التركية تعارض ذلك.
لذلك كان علينا كعرب التركيز على مشروع نهضوي عربي، بدلا من الانخراط في معركة ذات اهداف أمريكية تستهدف اضعاف ايران ومنعها من التطور بشعارات مذهبية وطائفية وقومية. ونظريات روجتها الاستخبارات الامريكية الإسرائيلية من قبيل الاطماع الإيرانية في الدول العربية.
التركيز على بناء الدول وبعث مشروع نهضوي عربي وفق مصالح عربية صرفة هو ما يمنع اية أطماع ويفتح باب التعاون والتكامل مع الدول المحيطة.
المحنة التي حلت بايران برحيل الرئيس ووزير الخارجية، حولتها ايران الى فرصة، فكانت المناسبة الحزينة منصة لبعث الرسائل بأكثر من اتجاه، اول تلك الرسائل عنوانها الاستقرار الداخلي، وقوة النظام، وفعالية المؤسسات. قالت ايران من خلال ذلك ان نظام الحكم ذا التركيبة الخاصة بالجمهورية الإسلامية، القائم على ديموقراطية من صناعة محلية، “لا نخسة مستوردة من النظم الغربية ” تنسجم مع حكم الشرعية الإسلامية. قادر على تخطي اصعب محنة دستورية ومواجهة فراغ مفاجئ في هرم السلطة.
ومن بين الرسائل الهامة خلال التشييع، تلك التي قالت فيها ايران ” نحن مع فلسطين أيا كانت الظروف ومهما كانت المحنة مؤلمة ” وتبدى ذلك من خلال رفع اعلام فلسطين بكثافة في كل مواكب تشييع الجثامين وفي كل المدن الإيرانية، وإعطاء قادة المقاومة الفلسطينية موقع الصدارة خلال استقبال وفود الدول المعزية، واعطاء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية” فرصة القاء كلمة كانت الوحيدة قبيل إقامة صلاة الجنازة على الجثامين وهذا له رمزية ودلالة كبيرة. ومن ثم الاجتماع المعلن مع قادة حركات المقاومة من اجل بحث اسناد غزة، فضلا عن التصريحات للمرشد السيد على خامنئي ووزير الخارجية بالوكالة علي باقري كني التي اكدت على موقف ايران الثابت في دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته. باختصار نجحت ايران في اثبات انها دولة مؤسسات لا تعتمد على الأشخاص بقدر اعتمادها على السياسات التي ترسم في مراكز صنع القرار.
وفي اجواء الحزن الشعبي والرسمي الذي عم البلاد، جاءت التصريحات الامريكية الصادرة عن وزير الخارجية “بلينكن ” ومستشار الامن القومي “جون كيربي” لتشكل حالة من الاستياء الإيراني العام. فقد كانت إساءة إدارة بايدن للرئيس بعد موته بهذا الشكل الغير أخلاقي والغير انساني، خطأ كبيرا، لان تلك التصريحات اصابت الامة الإيرانية بكاملها في لحظة حزن، ولم تكن فقط محل استياء القيادة في طهران. تلك التصريحات الوقحة تجاوزت السياسة الى البعد الحضاري، ونفذت نحو الوجدان الشعبي في ايران، وهذا ليس خطأ سياسيا بقدر ما يمكن اعتباره اثما تاريخيا يحمل مفاهيم عنصرية متعجرفة وعدم فهم لطبيعة الشعب الإيراني و سيكون له تأثيره في سياسيات ايران ونهجها في التعامل مع الولايات المتحدة، وسيدفع ايران نحو مزيد من التشدد والصرامة في الملفات الإقليمية.
الحشود الكبيرة التي شيعت الرئيس الإيراني ورفاقه، لا يمكن اعتبارها الا استفتاء شعبيا لصالح نظام وسياسيات الجمهورية الإسلامية، وسيكون لهذا الزخم بلا شك تأثيره في حجم المشاركة في الانتخابات الرئاسية في 28 من حزيران المقبل.
“بايتخت” طهران، ليست عاصمة عادية، لها فردتها، في نموذج الحكم والسياسة و مسار صناعة مستقبل الإقليم، ولها مشروعها الذي ظهر من خلال المحنة الراهنة بانه اكبر من الأشخاص مهما كان موقعهم في الدولة. والمشروع واضح المعالم، ملخصه لسنا امة هامشية، نستطيع بناء بلادنا بأحدث طراز ومن دون الاعتماد على الاخرين، وقادرون على صناعة موقعنا بين الأمم بما تستحق حضارة شعبنا وتاريخ بلادنا، ونقارع اقوى الدول لانتزاع ذلك.
كاتب واعلامي فلسطيني