2024-11-26 09:54 م

فلسطين.. والدور الوظيفي للبرجوازيات العربية

بقلم: راجي مهدي

نشأت البرجوازيات العربية في مرحلة تاريخية كانت الرأسمالية الأوروبية قد أتمت فيها السيطرة على أسواقها، وبدأت في سلسلة طويلة من حروب الغزو ضد بلدان الجنوب من أجل الاستيلاء على أسواقها وموادها الخام وأيديها العاملة الرخيصة.

نشأت هذه البرجوازيات العربية في حضن الاستعمار، وكان منوطاً بها تسيير وإدارة المصالح الاستعمارية، فقد اعتمد الاحتلال في البداية على وجوده العسكري، هذا الوجود الذي استلزم بالضرورة تأسيس جهاز إدارة محلية، الذي بدوره اعتمد أو تشكل حول نفوذ كبار ملاك الأراضي الذين لعبوا نواة الطبقة التي تولت بالنيابة عن الاستعمار إدارة مصالحه. لم تنشأ البرجوازية العربية من تطور تاريخي حر، فالمنطقة العربية شهدت خليطاً مزركشاً من أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، وأياً كانت تسمية هذا النمط “الخراجي” فإنه ما أن أتم الاستعمار الأوروبي سيطرته على البلاد العربية، كانت طبقة من كبار الملاك الزراعيين قد تشكلت في ظل وجود هذا الاستعمار، وغُزلت مصالحها في النول الاستعماري بحيث صار فصلهما يُهدّد بتقويض وضع كلا الجانبين في تلك المستعمرات. دشّنت البرجوازيات العربية مجالات حياتها في ظل هيمنة استعمارية تامة على السوق المحلية. وبسبب من هذه النشأة، لم تصارع القطاعات العليا من تلك البرجوازية على الانفراد بسوقها، فهي لم ترَ لوجودها معنى إلا في حضن الاستعمار، وبينما ناضلت البرجوازية الصغيرة والمتوسطة لتحرير السوق من قبضة الاستعمار، أي إنجاز الاستقلال الوطني، كانت كل محاولة لتصعيد هذا النضال تُقابَل بتواطؤ من البرجوازية العربية الكبرى. شطب انجازات حركات التحرر ورثت ثورات التحرر الوطني العربية غداة الحرب العالمية الثانية، هياكل اقتصادية متمحورة حول القطاع الزراعي الذي نشأت حوله صناعات مرتبطة به؛ صناعات أولية كصناعة الغزل والنسيج في مصر، وكان الطابع الغالب على البرجوازيات العربية التي مارست شيئاً من التصنيع هو انخراطها في الصناعات ذات الطابع الاستهلاكي، والمعالجة الأولية للمواد الخام، أي كل ما لا يمثل منافسة للصناعات الغربية المتطورة، لأنها كانت منافسة سوف تستدعي فرض إجراءات حمائية ضد الاستيراد، ولأنها كانت تعني مزاحمة المنتج الأجنبي في أسواق هو في أمس الحاجة إليها في مواجهة الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي العالمي الذي صار يواجه ركوداً مرتبطاً بفائض رأس المال وبفائض الإنتاج. وهكذا، على سبيل المثال، قابلت البرجوازية المصرية حوافز جمال عبد الناصر لانخراطها في الخطة الخمسية وخطط التصنيع الثقيل بلا مبالاة مردها ما ذكرنا أعلاه بالإضافة إلى تفضيل تلك البرجوازيات مشروعات الربح السريع التي تُحقّق أعلى معدل لدورة رأس المال بصرف النظر عن القيمة الحقيقية المضافة للاقتصادات القومية، أو الاقتصادات التي كانت تناضل من أجل أن تصير قومية، أي أن تتخلص من قيود تبعيتها لضرورات النمو الرأسمالي. إن البرجوازيات العربية، تلك الناشئة في حضن الاستعمار، قد رُسِم لها دور وظيفي شديد الحساسية لمقتضيات نمو الاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ هذا الدور الاقتصادي الوظيفي تضاعفت أهميته برحيل الجيوش الاستعمارية، إذ صار على تلك الطبقات تأمين احتياجات الاقتصاد الإمبريالي ومطامحه ومطامعه، ولأجل الحفاظ على هذا الوضع الاقتصادي غير المتكافئ بكلفة أقل مما يتطلبه الوجود العسكري وبشكل أقل صدامية مع الجماهير العربية، هيمنت تلك البرجوازيات على السياسة والدولة في بلدانها، فصارت مسؤولة عن توفير الشروط الملائمة لديمومة الهيكل الاقتصادي للتبعية، بانخراط مباشر من المؤسسات النقدية الدولية التي لعبت دوراً رئيسياً اعتماداً على البرجوازيات العربية في شطب كل ما أدخلته ثورات التحرر الوطني على هياكل بلدانها الاقتصادية؛ الاقتصاد القائم على التخطيط المركزي والادخار والتصنيع، صار اقتصاداً تحكمه الفوضى والاقتراض والاستهلاك، والاستهلاك ليس فقط استهلاك البضائع بل استهلاك الفوائض المالية الرأسمالية، وهكذا صارت بلداننا تلقى صدمة الأزمات الدورية والخضوع لفخاخ الركود التضخمي وفقاعات الديون؛ هذا المانيفستو لكي يمر كان يستلزم هيمنة سياسية في مجال الدولة التي صارت حصراً أداة البرجوازيات العربية لأداء دورها الوظيفي في النظام العالمي، وفي مجال الأيديولوجيا التي بُنيت على أوهام نيوليبرالية متطرفة. اسرائيل والبرجوازية العربية الكبرى.. تخادم متبادل

ولأن الهيمنة على الشرق الأوسط ركن مؤسس في بقاء الإمبريالية كنظام استعمار احتكاري، باعتباره عقدة مواصلات جيواستراتيجية شديدة الحساسية، وباعتباره منبعاً بترولياً رئيسياً، فقد خُلقت إسرائيل كلاعب وظيفي آخر، وصارت بطبيعة الأمور في تناقض رئيسي مع حركة الجماهير العربية الساعية للتحرر، وفي خضم إدارة هذا التناقض، جاهرت البرجوازيات العربية بدورها الوظيفي، أي تقاسم الأدوار مع الكيان الصهيوني لسحق حركة التحرر الوطني العربية، وفي القلب منها المقاومة الفلسطينية. لقد تأسست إسرائيل كشرطي إمبريالي، مهمته صيانة مصالح الإمبريالية، عبر ضرب كل محاولات الصعود الجماهيري العربي، وعبر حماية البرجوازيات العربية التي ما كان بالإمكان الركون إلى قدرتها علي تأمين مصالح الاستعمار في المنطقة؛ إنها برجوازيات هشة، صُنعت صنعاً، هذا يجعلها بلا جذور شعبية، وقد خانت النضالات الوطنية بشكل عمّق الهوة بينها وبين جماهير تقف تلك البرجوازيات تحديداً وراء إفقارها، لذا فإن إسرائيل ضرورية لبقاء تلك البرجوازيات، بقدر ما أنها تدين ببقائها لتلك البرجوازيات. ولما كانت طبيعة هذا الشرطي وطبيعة دوره تقوم على الردع، فإن ضربة 7 أكتوبر الماضية قد مزقت ركناً رئيسياً في نظرية التأسيس الإسرائيلية، في هذا الإطار يمكننا فهم الدور الذي تلعبه البرجوازيات العربية في المعركة الحالية. لكن هذا الدور ليس بجديد، فهو دور وظيفي تاريخي، يجعل البرجوازيات العربية تُشكّل مع إسرائيل فريق عمل إمبريالي تختلف بداخله المهام والأدوار، وتتنوع بتنوع الظروف التاريخية. أما مهمة هذا الفريق، فهي الحفاظ على الهيمنة الإمبريالية، ضد كل من يُهدّدها راديكالياً، وضد كل من يسعى للخضوع بشروط أقل إجحافاً مما تتطلبه الإمبريالية في أزمتها الهيكلية العميقة التي تجعلها تضيق ذرعاً بكل شبرٍ من الكوكب لا تمتد إليه أذرع أخطبوطها الاحتكاري والعسكري.

مسار واحد من 67 إلى أوسلو هذا الدور الوظيفي للبرجوازيات العربية، اتخذ طابعاً جديداً مع انطلاق الثورة الفلسطينية في كانون الثاني/يناير 1965؛ صحيح أن أقساماً كبيرة من النظام العربي قد ساهمت في تلك الإنطلاقة، إلا أنها كانت حتى ذلك الحين الطبعة المناسبة للأنظمة العربية “التقدمية” إن جاز التفريق بين رجعي وتقدمي في النظام الرسمي العربي، لكن هزيمة يونيو/حزيران 1967 قد خلقت ظروفاً أنتجت فرزاً في صفوف الثورة الفلسطينية جعلها مشدودة بين يمين ويسار، أخرجهما معاً عن سيطرة هذا القسم أو ذاك من النظام العربي.

بحلول أيلول/سبتمبر 1970، كانت البرجوازيات العربية قد تهيأت تماماً لممارسة دورها الوظيفي في الساحة الفلسطينية بسفور، وبتنسيق مع الإمبريالية وإسرائيل، وبتواطؤ أوركسترالي غير مسبوق من أركان البرجوازية العربية خلف “مايسترو أيلول الأسود”، ملك الأردن السابق. وعلى مدار عامين، طوردت المنظمات الفلسطينية من عمّان إلى جرش وعجلون، وضُربت المخيمات وذُبح الآلاف من الفلسطينيين على مرأى من 40 ألف جندي عراقي مرابطين في الأردن، وعلى مرمى حجر من الجيش السوري، وفي الخلفية يتأخر عبد الناصر عن الاستجابة قليلاً ريثما يتم تأديب من هاجموه بعد روجرز، وتأتي مقررات مؤتمر القمة في القاهرة كمقدمة للمرحلة الثانية من “أيلول الأسود” والتي انتهت بطرد المنظمات الفلسطينية وإنهاء العمل الفدائي الفلسطيني في الساحة الأردنية. هذا الدور الوظيفي تقاسمته في لبنان البرجوازية السورية مع البرجوازية اللبنانية، وبحلول 1975، اندلعت الحرب اللبنانية، التي اختلطت فيها العوامل الإجتماعية والطائفية الداخلية مع قضية الوجود الفلسطيني وموقع لبنان الإقليمي، وكان أحد أهدافها استعادة شيء ما من التوازن الديموغرافي والأهم التوازن السياسي الذي انكسر بتحالف اليسار اللبناني مع المنظمات الفلسطينية. وبحلول 1976 كان جلياً عدم قدرة الأحزاب المارونية على الحسم العسكري في ظل اندفاعة “الحركة الوطنية اللبنانية” حليفة الثورة الفلسطينية في لبنان، وعندما استشعرت “الجبهة اللبنانية” (المارونية) أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، تدخلت سوريا ضد تحالف الثورة الفلسطينية – اليسار اللبناني بشكل عسكري مباشر، وهي العملية التي مهّدت لعملية جنوب الليطاني حين اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان في ربيع العام 1978 لدفع الصواريخ الفلسطينية إلى ما وراء الليطاني حيث تخرج عن مداها المؤثر. حظي التدخل السوري بضوء أخضر من الولايات المتحدة وإسرائيل وبرفض لفظي من البرجوازية المصرية، لكن تلك الأخيرة ممثلة بالرئيس أنور السادات كانت على إطلاع تام على عملية الليطاني قبل أن تبدأ. في تلك المرحلة المفصلية، كان التنسيق بين الكيانات الوظيفية مدفوعاً بوحدة الهدف، لتأتي كامب ديفيد كنقلة نوعية في تدشين تحالف وظيفي على أسس عميقة ولتعلن براءة البرجوازية المصرية من الطموحات التحررية لبعض قطاعاتها التي مثّلتها الناصرية، ولتدشن لمرحلة أكثر عمقاً من التنسيق والتحالف على أساس تسوية سياسية تُصفّي القضية الفلسطينية من دون أن تعلن ذلك، وتُدمّر منظمة التحرير الفلسطينية ليس فقط بإخراجها من بيروت، بل بجذب قطاعاتها البرجوازية للانخراط في تسويات تكللت بأوسلو، لذا يمكن القول إن اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة لم تكن سوى اتفاقات تدشين وإعلان التحالف الوظيفي والتكامل بين البرجوازيات العربية الوظيفية والكيان الصهيوني الوظيفي. المقاومة من 1982 إلى 7 أكتوبر

إن المقاومة الفلسطينية، في حصار بيروت (1982)، الذي امتد لثمانين يوماً، والمقاومة الفلسطينية في معركتها الحالية التي تجاوزت المائتي يوم، إنما عملت وتعمل في بيئة غير مؤاتية، لأنها بيئة البرجوازيات العربية الوظيفية التي تُهدّد المقاومة الفلسطينية أساس وجودها الذي هو الاستعمار؛ هذا الاستعمار الذي يُعدُ خسارته للموقع الإسرائيلي، مقدمة لخسارة نفوذه في المنطقة ونفوذه في المنطقة هو شرط وجود البرجوازيات العربية والبرجوازيات العربية هي أحد دعائم وجوده، أي أن وجود تلك البرجوازيات يرتكز على وظيفتها، ووظيفتها هي ما تُقدمه خدمة لبقاء الهيمنة الاستعمارية، وبالتالي زوال تلك الهيمنة هو زوال للمبرر الوظيفي لتلك البرجوازيات. وزوال تلك الهيمنة مرهون بانتصار تحالف جماهيري يستعيد السيطرة على الأسواق الوطنية والاقتصادات التابعة، وبينما يتبدى الطابع الوطني للمقاومة الفلسطينية، فإنها تحمل مضموناً أكثر عمقاً من تحقيق استقلال وطني على المستوى السياسي. إن انتصارها يعني مباشرة إطلاق سلسلة طويلة من المعارك المحلية ضد الرأسمال الاحتكاري في بلدان المنطقة. إن إدراك تلك الحقيقة، يجعلنا نتفهم الدور الذي تلعبه البرجوازيات العربية في المعركة الحالية، وهو دور يتكامل مع أدوار الاستعمار والاحتلال والاستبداد. إن ما جرى ترتيبه في المنطقة هو نظام أمن إمبريالي يقوم على تقاسم الأدوار الوظيفية بين البرجوازيات العربية وإسرائيل، يعمل كل طرف منها لحماية أمن الآخر، على قاعدة تأمين طويل المدى لكل ما يتهدد المصالح الإمبريالية؛ ضرب الحركات الجماهيرية العربية تأميناً للقواعد الإمبريالية ومصافي النفط الإمبريالية، تأميناً لدوران عجلة التسليف من الشمال إلى الجنوب. إن هذا النظام الأمني الإقليمي يتهدده دائماً ويستنفره وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة، وتتهدده حركة الجماهير العربية، وهذا هو التناقض الرئيسي.