2024-11-30 03:56 ص

بداية التغيير في القيادة الأمنية الإسرائيلية

بقلم: جمال زحالقة
فتحت استقالة رئيس شعبة المخابرات في الجيش الإسرائيلي الجنرال أهارون حاليفا، مطلع الأسبوع الحالي، الباب أمام سلسلة استقالات للقيادات العسكرية والأمنية في الدولة الصهيونية. ويبدو أن مجموعة من كبار الضباط ستعلن استقالتها في الأسابيع القريبة. وجاء في رسالة الاستقالة، التي سطّرها حاليفا ووجهها إلى رئيس الأركان الإسرائيلي الميجر جنرال هرتسي هليفي: «شعبة المخابرات العسكرية بقيادتي، لم تف بالمهمة المنوطة بها.. وسوف أحمل معي للأبد الألم الفظيع لما حدث». وكانت الاستقالة ومسوّغاتها متوقّعة، فقد جاء في الرسالة التي وجهها لجنوده، عشرة أيام بعد السابع من أكتوبر: «فشلنا في أهم مهامنا، وكرئيس لشعبة المخابرات العسكرية أتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الفشل». وأبلغ حليفا بأنّه سيبقى في منصبه إلى حين الانتهاء من التحقيقات الداخلية الجارية حاليا في الجيش، وحتى يجري تعيين جنرال آخر مكانه. وقد فتحت الاستقالة نقاشا حادا حول من يتحمل مسؤولية الإخفاق في السابع من أكتوبر، ومن سيجري تعيينه في منصب رئيس شعبة المخابرات العسكرية الحساس جدا؟ ومن الذي سيعيّن؟ وهل يحق للقيادة المسؤولة عن الفشل أن تعين ضبّاطا جددا؟

معنى المسؤولية

بعد السابع من أكتوبر، دار نقاش حاد في الدولة الصهيونية حول من المسؤول عن الإخفاق، وتمحور الحديث حول عدم الالتزام بالتقنيات والاستراتيجيات الأمنية والعسكرية، وحول التناقضات في التوجهات السياسية تجاه «مشكلة غزة». ولم يجرؤ أحد (سوى أصوات منفردة من اليسار الجذري) بأن السياسات الإسرائيلية هي السبب، وهي التي صنعت التراكم الذي ادّى إلى الانفجار الكبير في غلاف غزة. وما زال العمى الفكري والسياسي والأمني طاغيا على وجهة النظر الإسرائيلية، هكذا كان قبل السابع ومن أكتوبر وهكذا بعده. لقد كانت الدولة الصهيونية ونخبها في حالة عمى وطرش تامّين عن أثر وتبعات ما يفعلون: تنكّر متواصل لقضية اللاجئين وللمسؤولية عنها وعن استمرارها، احتلال للضفة وغزة لأكثر من نصف قرن، استيطان يلتهم الأرض الفلسطينية، استباحة للقدس وللمقدسات وللمسجد الأقصى، حصار مستمر لقطاع غزة، استهتار وإذلال وإهانة بلا توقّف لشعب له عزّة وكبرياء أهل البلاد الأصليين، رفض عنيد للاستجابة للمقترح الفلسطيني والعربي للتوصل إلى تسوية تاريخية، قدّم الفلسطينيون فيها تنازلات أليمة وصعبة. القائمة طويلة، لكن ليس هناك أحد في إسرائيل يقف ليتحمّل التبعة الفعلية لأفعال دولته، وهي أن كل الدماء (بما فيها اليهود الإسرائيليين) التي تسيل تتحمل مسؤوليتها حكومة الاحتلال بجرائمها وبتنكّرها للحقوق الفلسطينية المشروعة. كل ما يدور في إسرائيل هو نقاش حول رفع مستوى نجاعة آلة القمع والاضطهاد الإسرائيلية. ويتم ذلك على خلفية شيطنة الفلسطيني حرفيا، بمعنى أنهم «أشرار بلا دوافع بشرية»، بالضبط كما أن الشيطان هو تجسيد لشر لأجل الشر بلا دافع خارج الشر ذاته. ويأتي الاستنتاج، وفق المنطق الإسرائيلي، بضرورة اللجوء إلى العنف والمزيد من العنف، والقتل والمزيد من القتل، وحدود القوّة لا يحكمها سوى مصلحة الدولة الصهيونية والدماء الفلسطينية، بما فيها دماء أطفال فلسطين، مباحة تماما لأنّ سفكها يخدم المصلحة. ويغيب عن النقاش الإسرائيلي الحديث عن البحث في الأسباب الفعلية عمّا حدث ويحدث، وعن التفكير في معالجة الأسباب عوضا عن تكرار العمل على مواجهة نتائجها، ويحصر الخطاب الإسرائيلي ما يحدث بأنه «عداء لليهود وللحضارة الغربية».

التوقيت

تشير استقالة الجنرال أهارون حاليفا في هذا التوقيت بالذات إلى أن الحرب ستطول كثيرا، فقد ساد اعتقاد أن قيادة الجيش سوف تستقيل بعد انتهاء الحرب، وتكرر تعبير «هم سيسلمون المفاتيح بعد نهاية المعركة»، وإقدام حليفا على الاستقالة هو دليل بأنه لا يرى نهاية قريبة للحرب. كما أن الحديث عن عدد من كبار القادة والضباط سوف يستقيلون عشية «يوم استقلال إسرائيل» في الشهر المقبل، مؤشّر آخر على أنهم لا يتوقّعون ختاما للمعارك. والسبب الآخر لموعد الاستقالة هو أن الجيش الإسرائيلي يعتبر أن الحرب «انتهت» من حيث هي معارك ضارية واصطدام وارتطام واشتباك شديد، وبأن ما يجري هذه الأيام هو خفض لشدّة المعارك وحرب استنزاف واشتباكات محدودة وقصف من بعيد بالطائرات والمدفعية، وعليه لا تكون الاستقالة بنظر صاحبها والجمهور الإسرائيلي عموما هروبا من الواجب العسكري، بل تحمّلا مطلوبا للمسؤولية عن الفشل.

معاني الاستقالات

يُقال إن شعبة المخابرات العسكرية الإسرائيلية أصبحت بعد السابع من أكتوبر «منطقة كوارث»، فهي المتهمة الأولى بالمسؤولية عن الفشل. وبعد أن كانت على مدى عقود طويلة من أهم فروع الجيش الإسرائيلي ومن أكثرها نخبوية، كثرت الشكوك وعلامة الاستفهام حول القيمة المبالغ فيها التي حظيت بها، وارتفعت أصوات تدعو إلى تهميش دورها في مقاربة مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وإعطاء الأولوية لبناء القوّة وللوحدات القتالية من حيث الميزانيات والموارد. وصار هجاء التكنولوجيا وفرط الاعتماد عليها خطابا سائدا، يرافقه اتهام شعبة المخابرات وقادتها بحرف مسار القطار العسكري الإسرائيلي. قبل حليفا، قدم مسؤول قسم الأبحاث في شعبة المخابرات العسكرية البريغاردير جنرال عميت ساعار، طلب إعفائه من منصبه لأسباب صحية. هذا القسم هو الأهم، وهو المسؤول عن تقييم قدرات ومخططات ونوايا «الطرف الآخر»، وكان من الواضح أن ساعار سيقدم استقالته في مرحلة ما، وبأنه سيقال إن لم يستقل. قائمة المرشحين للاستقالة والإقالة طويلة وتشمل أعلى قمة الهرم العسكري والأمني في الدولة الصهيونية، ومنهم: 1. رئيس الأركان الميجر جنرال هرتسي هليفي، 2. قائد المنطقة الجنوبية، الجنرال يرون فينكلمان، 3. قائد شعبة الاستراتيجية حاليا والمنطقة الجنوبية سابقا الجنرال إليعزر طوليدانو، 4. رئيس قسم العمليات، الجنرال عوديد بسيوك، 5. قائد سلاح الجو، الجنرال تومير بار، 6. رئيس الشاباك، تومير بار، 7. رئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنيغبي، 8. وزير الأمن، الجنرال احتياط يوآف غالانت. إضافة لكل هؤلاء هناك توقعات بأن يستقيل أو يقال عشرات من كبار ضباط الجيش ومن المسؤولين في جهاز المخابرات العامة وربما الموساد أيضا. لكن النقاش الأكثر إثارة للجدل هو دعوة نتنياهو للاستقالة، أو إجراء انتخابات سريعة. لقد أوضح نتنياهو مرات عديدة أنه لا يعتزم الاستقالة، ولا ينوي تبكير موعد الانتخابات بحجة أن «الدولة تخوض حربا طويلة» ولا يصح الدخول في مماحكات ومنافسات سياسية في معمعان المعارك العسكرية.
المؤسسة العسكرية مقبلة على انقلاب في قيادتها، وخروج الصف القيادي الأول منها، ودخول قيادات جديدة لإدارة الجيش والشاباك. هذا التغيير له أهمية بالغة لأن الاتجاه العام هو اختيار ضبّاط أكثر اندفاعا للفعل العسكري المباشر، وسيكون لهم دور كبير وأحيانا حاسم في الأعمال العسكرية على كل الجبهات. ومن دلائل هذا الاتجاه هو استقالة قائد المنطقة الوسطى المسؤول عن الضفة الغربية يهودا فوكس، بضغط من المستوطنين وممثليهم في الحكومة، وبلا علاقة مباشرة بالسابع من أكتوبر. وكان فوكس مرشحا لمنصب نائب رئيس الأركان وربما أكثر. المرشح الأوفر حظا لتولي منصب رئيس الأركان هو مدير عام وزارة الأمن، الجنرال زمير، الذي حظي بدعم من نتنياهو حين كان منافسا لرئيس الأركان الحالي هرتسي هليفي. والمرشحون لتولي المناصب العسكرية الشاغرة والتي ستشغر قريبا في غالبيتهم من «الصقور» العسكرية، ما يشير إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يمارس الإبادة الجماعية والدمار الشامل، سيتحوّل نحو المزيد من الوحشية والهمجية والعدوانية. وكل من يفكّر في التطبيع مع إسرائيل يجب أن يعي وقبل أن يرمي نفسه في أحضانها، بأنها تتجه نحو المزيد من التطرف والعداء للعرب، حتى لو طبّعوا.