نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقال رأي للمعلق ديفيد فرينتش قال فيه إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يرتكب في غزة نفس أخطاء الولايات المتحدة في العراق. وأضاف: “مع مرور ستة أشهر على الحرب في غزة، ينتابني الشعور المزعج بالديجافو [تعبير فرنسي يعني الشعور بأنك عشت الحاضر من قبل]، وأن إسرائيل تواجه العديد من التحديات التي واجهتْها أمريكا في العراق، وترتكب العديد من الأخطاء”.
وأشار إلى جملة وردت في تقرير نشرته الصحيفة، الأسبوع الماضي، وأعدّه أرون بوكسرمان وإياد أبو حويلة حول مداهمة إسرائيل مستشفى “الشفاء”، وبعدما داهمته في العام الماضي، وهذه الجملة هي: “لكن مع استمرار الحرب، واقتراب القوات الإسرائيلية من المستشفى مرة أخرى، منتصف شهر آذار/مارس، في محاولة لاقتلاع ما يقولون إنه تمرد متجدد من قبل الجماعات الفلسطينية في شمال غزة… “.
وعلّق قائلاً إن “التمرد المتجدد” يعني أن إسرائيل تفعل بالضبط “ما فعلناه في حرب العراق، والقتال على أرض سيطرنا عليها بالفعل. وذكّرني الواقع المحزن لهذه المعارك الرهيبة بالحقيقة المضادة: فعندما تقاتل الإرهابيين فإن تقديم الدعم الإنساني ليس واجباً إنسانياً فقط، ولكنه ضرورة عسكرية”.
وأضاف أن الحصيلة الرهيبة من القتلى، والمجاعة التي تلوح بالأفق في غزة، هما مأساة إنسانية يجب تثير حزننا جميعاً. فهما نتاجٌ مباشر للحرب.
فجيش حديث مثل الجيش الإسرائيلي يمكنه هزيمة “حماس” في مواجهة مباشرة. وبعيداً عن تقديمه الدعم للمدنيين، و”كما تعلمنا من حروبنا في الخارج لن يستطيع [الجيش الإسرائيلي] الانتصار حتى يوفر الاحتياجات الأساسية للغزيين”.
ويرى الكاتب أن الانتباه الدولي تَرَكَّزَ حتى الآن على سلوك إسرائيل في الحرب. وتسيد الخطاب مسألة متعلقة بإسرائيل، وإن كانت قد التزمت في معركتها مع “حماس” بقوانين الحرب وقيمها الأخلاقية الخاصة. وهذه مسألة يمكن الإجابة عليها عندما ينجلي غبار الحرب. إلا أن مصير الحرب تَقَرَّرَ بعد نهاية المرحلة القتالية الأولى، التي تواجه فيها إسرائيل مجموعة من الالتزامات القانونية والأخلاقية، التزاماتها كقوة احتلال.
ويوضح الكاتب، ويحاول أن يكون دقيقاً في أن مصطلح “القوة المحتلة” لا يعني الاحتلال الدائم، أو الاستيطان في أراضي غزة، لكن الجيش الإسرائيلي، كجيشٍ غاز يغزو منطقة، حيث قوانين الحرب تطبق في المرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية فهي التي تدير فيها القوة المهاجمة المنطقة قبل أن ترتب لنقلها إلى سلطة مدنية.
وقال إن العملية العسكرية الفعالة والحاسمة لا تؤدي إلى خسائر فادحة ضد الأعداء، ولكنها تؤدي إلى خلق فراغ. فإخراج “حماس” من السلطة يشبه كما يقول فكرة “اجتثاث البعث”، فهي تؤدي إلى دمار الخدمات المدنية، وتزيل كل الوسائل للحفاظ على النظام المدني. ولحين ملء الجيش الفراغ الناشئ، إما من خلال إدارته الفعالة، أو بتحالف إداري، فسيجد العدو فتحة لمواصلة الإدارة.
ولهذا السبب تشير عبارات “تجدد التمرد”، أو “اختراق العدو” إلى أن الفراغ لم يُملأ، وأن هناك فرصة لـ “حماس” كي تعود مرة أخرى.
ومع ذلك، الفراغ يجب أن يُملأ بطريقة محددة، وبعين على سلامة وأمن المدنيين، فالأمر لا علاقة له بالسيطرة، وهو متعلق بالعدل والاستدامة. وكتاب الجيش الأمريكي حول قوانين الحروب البرية واضح: لو كانت الولايات المتحدة هي القوة المحتلة، فيجب عليها أن تقدم الطعام والمياه النظيفة، وعليها أن تحافظ على النظام والقانون، ولا يمكنها ترك المدنيين للاعتماد على أنفسهم.
وفي الحقيقة، كان هذا هو الفشل الرئيسي في العراق، فقد أثبتت القوات الأمريكية، كما الإسرائيلية، قدرة مثيرة وفتاكة في حروب المدن، لكنهما فشلتا في الحفاظ على المجتمع أو النظام والقانون، فالجوع والعطش في العراق لم يكن في عناوين الأخبار مثل غزة.
ولكن القوات الأمريكية واجهت فوضى، وهي التي كانت سبب خسارتها الحرب، و”مضينا من نصرٍ سريع للتورط في واحد أطول النزاعات”.
وكانت الفوضى تعبيراً عن خرق الأمريكيين قانون الحرب طوال النزاع. وفي وقت شنت فيه غارات بالخطأ، وارتكبت حوادث مأساوية، وظهرت فضيحة تعذيب السجناء في أبو غريب، أدارت القوات الأمريكية حربها بدقة، وأحياناً بطريقة تفوقت على قوانين الحرب.
وقال إن الاحتلال، في البداية، كان كارثة، ولم يعبد الطريق لسنوات الحرب القادمة، وكان فاشلاً بتحمّل الواجبات القانونية تجاه الناس الذين خضعوا، ولو مؤقتاً، لاختصاص الجيش الأمريكي وسيطرته.
وغيّرَ الجيش الأمريكي الموجة أثناء مرحلة تدفّق القوات، وتبنّى شعار “حماية السكان”، فلم يضرب فقط، ولكنه بقي في المكان، وتأكد من توفر الطعام والمياه وفتح الأسواق للسكان وحمايتهم، وزرع نفسه في المدن والبلدات في عملية كانت صعبة وخطيرة وبطيئة، ولكنها نجحت في النهاية.
وقال الكاتب إن الحديث عن واجبات القوة المحتلة يعيدنا إلى ملامح الحرب في غزة، والتي لا يريد أحدٌ أن يتبنّاها، ففي معسكر اليمين الأمريكي، هناك اعتقاد واهم، وهو أن الحرب يجب أن تكون سريعة وحاسمة.
وفي مقابلة أجراها هيو هويت مع الرئيس السابق دونالد ترامب قال إن “إسرائيل تخسر حرب العلاقات العامة”، وقدم حلّه للوضع بالقول إن على إسرائيل “إنهاء ما بدأتْه، وعليها إنهاؤه سريعاً، وعندها نعود إلى حياتنا”.
ويعلق فرينتش بأن الجمهوريين الذين كانوا يصفّقون لهذا الكلام لم يتعلّموا أي شيء من “إنهائها سريعاً”. عندما لا تنهيها بالكامل فإنك تترك خلفك جثثاً وجبالاً من الأنفاق وعدواً يحتفل. وعندما تنهي هذا النصر “السريع” فإنك تترك انطباعاً لدى السكان المحليين بأنك لا تحترم حياتهم، وأنك بدون إرادة لتهزم أعداءك. وستزحف “حماس” من الأنفاق، وتعود للحكم مرة أخرى.
ويشير الكاتب إلى أن الحديث عن واجبات المحتل يفتح الباب أمام مجموعة من الأهداف. أليس الاحتلال هو مصدر النزاع؟ ألن تؤدي السيطرة الإسرائيلية المباشرة لفتح الجروح التي تسبّب بها النزاع بالمقام الأول؟
ويجيب الكاتب أن ما يشير إليه هو تقديم المساعدات وحماية المدنيين بناء على قوانين الحرب، وليس الاحتلال الذي يتجاوز قوانين الحرب عبر الغزو والاستيطان.
ولهذا السبب فإن نهج بايدن يتفوق على نهج ترامب، فنهج الأخير مضرّ لأنه يؤكد على الحرب السريعة ونهاية سريعة. كما أنه وصفة للمعاناة الإنسانة الضخمة والهزيمة النهائية.
ورغم خلاف الكاتب مع نهج بايدن، إلا أن مساره من ناحية مواصلة الدعم العسكري والضغط لتوفير المساعدات الإنسانية متفوق على مقترحات ترامب، فهو قريب من المزاوجة بين العسكري والقانون والأخلاقي في لحظة الحرب.
ويعتقد الكاتب أن نهج بايدن أثمر، من ناحية تهديده إسرائيل باتخاذ خطوات عملية، حيث ردت بفتح المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية، وفي الوقت نفسه واصل عملية إمدادها بالسلاح الذي تحتاجه لهزيمة “حماس” وردع “حزب الله” في الشمال.
وبعد ستة أشهر، يقول الكاتب إن سبب الحرب هو هجوم “حماس” في تشرين الأول/أكتوبر والأسرى لديها، ومن هنا فإن الواجب الأخلاقي لتدميرها كقوة عسكرية وإدارية باق، ولكن يجب ألا يتناقض الواجب الأخلاقي والقانوني لتوفير الحماية والمساعدات الإنسانية للغزيين. والفشل في عمل أيّ منهما يعني مواجهة إسرائيل هزيمتها الأكبر.
المصدر: تيويورك تايمز+القدس العربي