2024-11-26 06:24 م

"طوفان الأقصى"… مركز العالم وفرصة الإحياء

بقلم: أحمد الدرزي
اختلفت سلوكيات الصراع الدولي بعد عملية "طوفان الأقصى" عن بقية الساحات الملتهبة والمتنقلة من سوريا إلى أوكرانيا، ثم منطقة الساحل الغربي في أفريقيا، فطبيعة ردود أفعال النظام الغربي المهيمن على مسارات السياسة الدولية خلال القرون الماضية اختلفت بشكل واضح بعد هذه العملية.

كان من الواضح كيفية السلوك الأميركي منذ بداية الكارثة السورية المزمنة، إذ لجأ إلى الإدارة من الخلف متخفياً بدعم ما يسمى ثورات الربيع العربي بعناوين مكافحة الديكتاتوريات ونشر الديمقراطيات ارتكازاً على قوانين حقوق الإنسان، وترك للحرب الأهلية في سوريا العنان اعتماداً على الدول الإقليمية المحيطة بسوريا والدول الأبعد بالمال والسلاح بإشراف فرنسا وبريطانيا استخباراتياً، ونجح إلى حد كبير في تحطيم سوريا وإنهاكها حتى الآن وجعلها ساحة استنزاف لإيران في الدرجة الأولى، وروسيا في الدرجة الثانية.

تحولت الإدارة الخلفية الخفية للحرب في سوريا إلى الإدارة المباشرة بعد انفجار الحرب في أوكرانيا، فقد أظهر الأميركيون أنهم يقفون بشكل مباشر خلف الجيش الأوكراني تمويلاً وتسليحاً واستخبارات، واصطفت خلفها دول الاتحاد الأوروبي بشكل شبه كامل، ولم يشذ عنها سوى هنغاريا التي رفضت بشكل واضح مجمل الحرب. وما يهم في السلوك الأميركي أنه انتقل إلى مرحلة جديدة من إبراز نفسه كمسؤول غير مباشر في الحروب المتنقلة في الساحات المختلفة بعنوان الحفاظ على قواعد النظام الدولي غير المدونة.

اختلف السلوك الأميركي كلياً بعد عملية "طوفان الأقصى" ونجاح المقاومة في فلسطين في عمليتها العسكرية الأسطورية. وهنا، تحوّل الموقف الأميركي إلى الإدارة المباشرة للحرب، وتعاطى معها باعتبارها أكبر تهديد لبنية النظام الدولي الحالي، ولا يُقبل فيها الهزيمة إطلاقاً، فجمَّد الحرب في أوكرانيا إلى حد كبير، وخفف تسليحها وتمويلها، وانتقل إلى أكبر عملية نقل أسلحة في تاريخة بعد الحرب العالمية الثانية، كما نقلت صحيفة "إسرائيل اليوم"، إذ وصلت أوزان الذخائر والأسلحة المسلمة للكيان إلى 35 ألف طن، غالبيتها من مخازن الولايات المتحدة، استخدم في نقلها 300 طائرة شحن و50 سفينة.

أظهرت الإدارة الأميركية من جديد أهمية منطقة غرب التي تُعتبر مصر جزءاً منها، وفقاً لتعبير جمال حمدان الباحث المصري، وأن كل السياسات التي روجتها في العقدين الماضيين بعد تجربة احتلال العراق المُرَّة بالانسحاب من هذه المنطقة، ونقل اهتمامها الكلي إلى جنوب شرق آسيا لمواجهة الصين الصاعدة التي تعتبر التهديد الأكبر للولايات المتحدة، وهي لجأت إلى كشف ورقة التين عن بنيتها السياسية اللاأخلاقية الحقيقية، بتبنيها الدفاع الكامل عن جرائم الكيان وقيادة حرب الإبادة والتجويع وانتهاك أعراض النساء الفلسطينيات وقتلهن مع أطفالهن في أوضح جريمة في التاريخ البشري على مرأى من العالم، ولم تكن وحدها في ذلك، بل مجمل دول النظام الغربي الصامت عن حجم الجرائم والداعم لها.

ينبع السلوك الغربي الواضح بتعاطيه مع الحرب الإسرائيلية على غزة بهذا الإجرام من إدراكه العميق للمخاطر المترتبة على الهزيمة في الحرب الواسعة التي يخوضها دفاعاً عن استمراره بالهيمنة على مسارات التاريخ العالمي سياسياً واقتصادياً.

ومن هنا نشهد أهمية الخطوات الأميركية والأوروبية في هذه المنطقة، والزيارات المكوكية لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي زار الكيان وبعض الدول العربية 6 مرات، عدا عن زيارات مستشار الأمن القومي جايك ساليفان ورئيس الاستخبارات وليم بيرنز، مع الإصرار على عدم وقف إطلاق النار حتى يستطيع الكيان الخروج من حالة الهزيمة وتحقيق انتصار يُصرف في الصراع على النظام الدولي لمصلحة النظام الغربي.

يتعامل النظام الغربي مع المنطقة باعتبارها ضرورة قصوى في مواجهة التهديدات المحتملة عالمياً، وهو منذ بداية القرن التاسع عشر بدأ العمل على تحطيمها، ونجح بذلك بعد الحرب العالمية الأولى، فعدا عن أهميتها الجيوسياسية الأخطر بإشرافها على أهم ممرات التجارة البحرية من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر وبحر العرب والخليج  والمحيط الهندي، إضافة إلى احتوائها على المضائق البحرية في باب المندب وهرمز وقناة السويس، فهي تمنح المتحكم فيها القدرة على تهديد الاقتصاد العالمي والتحكم فيه، إضافة إلى عودة الاهتمام بالممرات البرية في المشروع الصيني "مبادرة الحزام والطريق" والمشروع "الأوراسي"، وكلا المشروعين لا يمكن لهما النجاح بدون تغيير المشهد السياسي في منطقة غرب آسيا بإزاحة الهيمنة الأميركية منه.

الخطر الآخر الذي يستشعره النظام الغربي لا ينبع فقط من أهمية مركز العالم جيوسياسياً الذي يمتد من الهضبة الإيرانية إلى هضبة الأناضول ووادي النيل والجزيرة العربية ودوره في تحديد مسارات السياسة العالمية القادمة، إنما من عمق دراسته لتاريخ هذه المنطقة الذي يعود إلى لحظة نشوء الدول والإمبراطوريات منذ 3200 عام قبل الميلاد.

وقد بقيت مسيطرة على مجمل التحولات التاريخية العالمية، وظلّت مصدراً أساسياً لكل الحضارات المتراكمة والمتتابعة فيها وانتشارها إلى بقية أنحاء العالم، والغرب بطبيعته الخاصة لا يستطيع تحمل عودة هذه المنطقة كي تعود إلى سياقها التاريخيّ الحضاري والبعد الإمبراطوري الذي استمرّ قرابة 5000 آلاف عام.

أوضحت عملية "طوفان الأقصى" أن هالفارد ماكندر الذي وضع نظريته في الجغرافيا السياسية 1904، وهي النظرية التي ما زالت تؤثر في راسمي السياسات الدولية، باعتبار أوراسيا هي مركز الأرض، ورغم التعديلات التي طرأت عليها باعتبار أوروبا الشرقية هي مركزها، ومن يسيطر عليها يسيطر على العالم، لم يكن محقاً بذلك، فقد انطلق بنظريته من واقع الصراع البريطاني الروسي في مجمل آسيا، ولم ينظر إلى العمق التاريخي لمركز العالم الذي كان منطلقاً لأعظم الإمبراطوريات حضارياً.

تشكل عملية "طوفان الأقصى" الفرصة الأهم لمركز العالم القديم كي يعود للتأثير في السياسات الدولية بإعادة قراءته لواقعه التاريخي والحالي وتحديد أعدائه وأصدقائه وحلفائه، وتستطيع دوله وشعوبه إذا ما أدركت مصالحها الحقيقية العودة إلى التناغم فيما بينها ومنع إسقاط المقاومة في غزة. 

هذه الفرصة لا يمكن أن أن تتحقق إلا إذا استطاع محور المقاومة كسر ستاتيكو الحرب المستمرة في غزة وبقية الساحات، وهو الوحيد القادر على تحويل مسارات منطقة غرب آسيا إلى هدف مشترك لمصلحة الجميع بإعادة إحياء مركز العالم القديم من بوابة تهشيم المشروع الغربي في فلسطين المحتلة وإخراج الأميركيين من منطقة غرب آسيا، فهل يفعلها أم أننا أمام سنوات طويلة من الصراع والحروب التي تتخللها هدن قد تكون بعضها طويلة؟