2024-11-27 01:55 م

رؤية واشنطن الشرق أوسطية مُهدّدة بالغرق في رمال.. رفح!

بقلم: سميح صعب
نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في جعل نفسه، وبلا منازع، الشخصية المحورية التي تتخذ القرار في إسرائيل، مُهمشاً مجلس الحرب ومجلس الوزراء المصغر والحكومة الموسعة، مستفيداً من وجود شبه اجماع إسرائيلي على أن الحملة العسكرية على غزة لم تصل بعد إلى غايتها. لا نتنياهو ولا غيره من القادة الإسرائيليين يتمعنون كثيراً، في التحذيرات الغربية من الأثمان الاستراتيجية التي قد تنجم عن مثل هذه السياسة، على غرار تآكل شرعية إسرائيل دولياً، من جراء تكريس نفسها قوة محتلة لخمسة ملايين فلسطيني في غزة والضفة الغربية إلى أمد غير معلوم، ناهيك عما سيفرزه هذا الاحتلال مُستقبلاً من مقاومة أشد جذرية وأكثر راديكالية. وعندما يُحذّر المسؤولون الأميركيون والأوروبيون إسرائيل من مغبة الاعتماد فقط على الخيار العسكري، هم في واقع الأمر لا يفعلون ذلك بدافع التعاطف مع الفلسطينيين، أكثر منه بدافع محاولة انقاذ إسرائيل من نفسها، أو بكلام أدق، انقاذ الكيان من نتنياهو ومصالحه الشخصية التي تُملي عليه الذهاب في سياسات محفوفة بالمخاطر. يذهب نتنياهو في الاتجاه المعاكس لشد عصب قاعدته اليمينية وحلفائه من القوميين والمتدينيين المتشددين، مُصراً على أنه يخوض “حرب الاستقلال الثاني” لإسرائيل، بعدما سقط الاستقلال الأول بحسب اعتقاده في 7 تشرين الأول/أكتوبر في “غلاف غزة”. على هذا، يرى نتنياهو أنه تجاوز ديفيد بن غوريون وغيره من مؤسسي الكيان.

وبإزاء تلمس الانزعاج الذي يبديه المسؤولون الأميركيون حيال الاصرار على مهاجمة رفح، بمعزل عن وجود هدنة من عدمه، وفي سيناريو مُعادْ، نقل نتنياهو المعركة إلى قلب الولايات المتحدة، فخاطب السناتورات الجمهوريين في مجلس الشيوخ، الأربعاء الماضي، بعدما رفض الديموقراطيون الاستماع إليه بناء على قرار من زعيم الغالبية الديموقراطية في المجلس تشاك شومر. ووجه رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون الدعوة إلى نتنياهو ليتحدث أمام جلسة مشتركة للكونغرس على غرار ما فعل عام 2015 عندما خاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي المجلسين، مهاجماً الاتفاق النووي الذي وقّعه الرئيس الأميركي عامذاك باراك أوباما مع إيران. وللمفارقة، فإن أوباما وبرغم الحملة التي شنّها نتنياهو ضده، أنهى ولايته الثانية بمنح إسرائيل مساعدات عسكرية بـ38 مليار دولار، وهي الأضخم في تاريخ الرؤساء الأميركيين! والآن، يُقدّم بايدن تنازلاً جديداً لإسرائيل عندما هاتف نتنياهو في وقت سابق من الأسبوع طالباً إليه ارسال وفد إلى واشنطن للتحدث في عملية رفح والاستماع إلى وجهة النظر الأميركية عن كثب. واشنطن لا تعارض الهجوم على رفح من الناحية المبدئية أو الأخلاقية، وإنما تضع شرط اجلاء أكثر من 1.4 مليون نازح مدني تؤويهم المدينة ومحيطها بعدما فرّوا من الاجتياح الإسرائيلي لشمال القطاع ووسطه.

الغاية من ارسال الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن هذا الأسبوع، هو البحث في بدائل أميركية للهجوم، على ما قال وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في إسرائيل. وتخشى ادارة بايدن أن يطيح هجوم رفح بكل جهودها للتوصل إلى هدنة الأسابيع الستة وبرؤيتها الأوسع لتشكيل شرق أوسط جديد، “تُدمج” إسرائيل به، ويحد من النفوذ الإيراني، ويضع القيود أمام الاندفاعة الصينية نحو المنطقة. ولا يمكن وضع هذه الرؤية الأميركية موضع التنفيذ من دون وقف الحرب في غزة، ولو بهدنة موقتة قابلة للتجديد إذا أمكن، ومعالجة ملف رفح بطريقة تتفادى سقوط المزيد من الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، وتؤمن دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع بكميات أكبر تفادياً لانتشار الجوع والأمراض على نطاق واسع. ما يراه البيت الأبيض، لا يراه نتنياهو. وكما بات معلوماً أن الأخير ما يزال يعتقد أن أي وقف للحرب قد يُفجّر في وجهه لوماً وانتقادات واتهامات لا نهاية لها تُعرّضه للسقوط في نهاية المطاف. ولذا يتسلح بالدخول إلى رفح ويُصوّر الحرب على أنها حرباً وجودية بالنسبة لإسرائيل وليست حرباً من أجل استعادة الردع. وهو يفتش عن حلول لقطاع غزة تُرضي قاعدته المتشددة ولو كان ذلك من طريق الاحتلال الدائم واعادة الاستيطان إلى القطاع. في المقابل، تمارس الإدارة الأميركية بعض الضغوط وتوجه الانتقادات العلنية للحكومة الإسرائيلية. لكن ذلك لا يرقى إلى تغيير جوهري في السياسة التي ينتهجها بايدن منذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. صحيح أن عبارة “وقف اطلاق النار” وردت في مشروع القرار الأميركي الذي طرحته واشنطن على مجلس الأمن الأسبوع الفائت وسقط بـ”فيتو” روسي – صيني مشترك، لأنه اشترط وقف النار المستدام بإطلاق “حماس” الأسرى الإسرائيليين لديها، لكن النص لم يرفع الحماية الديبلوماسية عن إسرائيل.

وربما تأخر بايدن في استخدام الوسيلة الأنجع التي يملكها كي لا يُقال عنه أنه خذل إسرائيل في وقت الحاجة إلى الدعم الأميركي، علماً أن أربعة رؤساء أميركيين من جيرالد فورد إلى جورج بوش الأب، حجبوا بعض أنواع المساعدات عن إسرائيل أو اختلفوا معها ديبلوماسياً أو هدّدوا بذلك، وفق ما يقول المبعوث الأميركي السابق للسلام إلى الشرق الأوسط مارتن أنديك لصحيفة “النيويورك تايمز”. وقال جوش بول المسؤول السابق في المكتب العسكري لوزارة الخارجية الذي يُشرف على نقل المساعدات العسكرية، إنه لو اتخذ بايدن مثل هذا الإجراء، لكان تحتم على إسرائيل مواجهة خيار بين الاستمرار في حملتها على غزة أو ادخار الذخائر تحسباً لمواجهة أعداء آخرين ولا سيما “حزب الله” وإيران. معلوم أن بول استقال في تشرين الأول/أكتوبر الماضي احتجاجاً على سياسة إدارة بايدن في التعامل مع ملف غزة. وتُشكّل الأرقام دليلاً قاطعاً على السخاء العسكري الذي أبداه البيت الأبيض مجاناً من دون الحصول على أي تنازل من نتنياهو. وبين تشرين الأول/أكتوبر والأول من كانون الأول/ديسمبر 2023، نقلت أميركا 15 ألف قنبلة و57 ألف قذيفة إلى إسرائيل. ومن الأول من كانون الأول/ديسمبر حتى الآن، زاد حجم الأسحلة المرسلة بنسبة 15 في المئة. وتم نقل مئة شحنة سلاح منذ تشرين الأول/أكتوبر، من دون إبلاغ الكونغرس عن معظمها.

ومن المقرر أن يجتمع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، الأسبوع المقبل، بنظيره الإسرائيلي يوآف غالانت في واشنطن ويتسلم منه لائحة بأسلحة جديدة تريدها إسرائيل على نحو عاجل وفي مقدمها مقاتلات الجيل الخامس “إف-35”. فهل تدخل إدارة بايدن في مساومة على حاجات إسرائيل التسليحية في مقابل وقف هجوم رفح؟ يقول المطالبون بتغيير السياسة الأميركية، إنه لو أبطأت الولايات المتحدة أو أوقفت بعض أو معظم الشحنات، لكان القادة الإسرائيليون فهموا الرسالة الأميركية. وتشير صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية إلى إن “نتنياهو يراهن في نزاعه مع بايدن، على مستويات أخرى من التأثير التي زرعها لسنوات – من سناتورات مقربين، إلى اللوبي المؤيد لإسرائيل، إلى الدور المحوري في الجغرافيا السياسية الإقليمية – من أجل الحفاظ على قدرته على البقاء في منصبه. إنها مقامرة لجأ إليها في الماضي، لكنها لم تكن محفوفة بالمخاطر كما هو الحال الآن”. ويندرج في السياق ذاته ما أوردته صحيفة “الواشنطن بوست” من أن بعض الإسرائيليين يخشون أن تكون الولايات المتحدة على مسافة خطوة واحدة من فرض قيود عسكرية على المساعدات العسكرية لإسرائيل. بكل الأحوال، ما بين اجتماعات واشنطن الأميركية ـ الإسرائيلية واجتماعات الدوحة المتعددة الأطراف، يُفترض أن يتبلور مسارٌ ما يتقرر في ضوئه ما إذا كانت رؤية بنيامين نتنياهو للحسم في رفح ستنتصر على الرؤية الأميركية لما يُسمى “الشرق الأوسط الجديد”.

 180Post