2024-11-26 02:31 م

حقيقة المشهد!!

بقلم: بثينة شعبان
تكاد أخبار مشاريع القرارات في مجلس الأمن وتحرُّك المسؤولين الأميركيين إلى المنطقة ولقاؤهم أطرافاً عربية وصهيونية، والهدن المؤقتة والوساطات الفاشلة تثير السخرية لولا أن الحزن على ما يجري يقفز ليسبق كل المشاعر الأخرى. والعجز العربي والإسلامي الذي كشفت عنه حرب الإبادة يثير تساؤلات شتى عن مستقبل هذا العالم الذي يبدو اليوم كقطيع من دون "مرياع" ومن  دون "راع" تائهاً في أرض لا يعرفها ووجهات لا يدرك منتهاها. ذلك لأن حقيقة الأمور مختلفة جذرياً عن الأخبار والسرديات والذرائع والتبريرات التي يتحدث بها الإعلام الغربي المتصهين عن أسباب عدم تمكّن أحد من وضع حدّ لهذه الإبادة المخزية لشعب غزة بأكمله بمن استشهد منهم، ومن بقي على قيد الحياة نازحاً، جائعاً، مريضاً، محاصراً، مترقباً الموت على يد من خططوا لإزالته عن هذه الأرض واستحواذها وهذا يمثل هدفهم الأول والأخير، ولذلك لا حديث جدياً عن وقف إطلاق نار أو عن وضع حدّ لأبشع مجزرة يتمّ ارتكابها في العصر الحديث بحق شعب بأكمله على مرأى ومسمع من عالم مشلول إمّا نتيجة تواطئه مع المجرمين والمعتدين، وإمّا نتيجة إرهابه وترهيبه أن يقف في وجه كل هذه القوة الغاشمة.

أما تبريرات أن نتنياهو يريد استمرار الحرب كي لا يسقط ولا تتم محاسبته، وأن العدو مربك في الداخل وأنه غير قادر على التفاوض، وأن الولايات المتحدة في سنة انتخابية فهي تبريرات سطحية لا علاقة لها بجذر الموضوع، ولا بأسباب ممارسة وحشية بحقّ من كانوا وفق قوانين كل الحروب أهدافاً غير مشروعة وغير مبرّرة أبداً من أطفال ونساء ومدنيين ومرضى وأطباء وكنائس وجوامع وجامعات ومراكز وبنى تحتية لحياة مجتمع بأكمله. فالجريمة البشعة اليوم بحق أهل فلسطين لم تشهد مثيلاً لها في الحربين العالميتين، ولا يمكن مقارنتها إلا بحرب الإبادة التي قام بها الإنسان الأبيض على السكان الأصليين في الولايات المتحدة وأستراليا ووصفهم بأنهم ""Savages أي "وحوش"، كما وصف الصهاينة الفلسطينيين تماماً منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة هذه.

هذه الإبادة بغض النظر عن الذرائع التي تتذرّع بها من 7 تشرين إلى القضاء على حماس وإلى إنقاذ الأسرى (الذين تقوم إسرائيل بقتلهم) هي استكمال لاستباحة واحتلال الغرب للعراق واستهداف ليبيا وسوريا واليمن والسودان بأساليب وطرائق مختلفة تجمع بينها جميعاً عناصر مشتركة تؤشر إلى الهدف الأساسي الكامن وراء شنّها، واختراع أشكال متعدّدة للوصول إلى الأهداف ذاتها الموضوعة والمرسومة للجميع. فقد كان واضحاً للجميع أن الهدف الأساسي من الحرب على العراق، بالإضافة إلى النفط طبعاً، هو اصطياد العلماء والمفكرين العراقيين والذين وصلوا مرحلة من العلم والإبداع يمكن أن تنذر بتغيير ميزان القوى في المنطقة، فشنّوا حملة من الاغتيال والتهجير من دون أي ذنب ارتكبوه وحرقوا المكتبات وسجلات النفوس وفككوا الجيش والأحزاب وزرعوا بذور فتنة طائفية وعرقية، ووضعوا أسسها في دستور للبلاد كي لا يتمكن أحد من تغيير هذا الواقع الجديد الذي فرضوه في المستقبل المنظور. 

ولتذكير هذا الجيل، فإن المثل العربي الذي كان يعرفه كل أبناء جيلنا هو: "القاهرة تكتب، وبيروت تنشر، وبغداد تقرأ" لأن كثيراً من الكتاب العرب لجأوا إلى مصر في فترة الاحتلال العثماني الذي لم يحكم قبضته على مصر، وانتعشت دور النشر في لبنان قبل الحرب التي أشعلوا فتيلها، بينما كان الشعب العراقي القارئ الأهم في العالم العربي والسوق الأساسية لمنتجات الكتّاب العرب.

وفي إطار ما سمّوه بـ"الربيع العربي" استكملوا المخطط ذاته الذي نفّذوه في العراق على ليبيا، وقامت قوات "الناتو" بالقصف والدمار ونهب الأموال والذهب، والنفط طبعاً، ومن ثمّ زرع بذور الفتنة ذاتها بين الشرق والغرب وبين تيارات وتوجهات مختلفة هدفها الأساسي الإبقاء على ذلك البلد ضعيفاً مجتزأً غير قادر على لملمة جراحه واستعادة وحدته وقوته والتحكم بمقدراته لصالح شعبه وأجياله المستقبلية، ويستمرّون في تغذية هذه الصراعات لضمان نهب موارد هذا البلد، وضمان عجزه أن يكون فاعلاً في الإطار العربي لما فيه مصلحة العرب جميعاً.

ومن أجل الأهداف ذاتها، وفي أعقاب حرب 1973، بدأوا باتفاقات تطبيع مع أكبر بلد عربي، فقط لإخراجه من دائرة مقاومة الاحتلال والاستيطان، واستكملوا ذلك باتفاق أوسلو واتفاقات تطبيع مع دول عربية أخرى لا تختلف أهدافها أبداً عن أهداف الحروب والقصف والاغتيالات، بل تخترع مسارات أخرى للتوصل إلى الأهداف ذاتها. ولمّا كانت سوريا قلعة العروبة والدفاع عن فلسطين فقد أعدوا لها حرباً إرهابية مُموّلَّة ومُخطّطة ومدروسة، وبعد صمود الشعب السوري وتمكنه بمساعدة الحلفاء من دحر الإرهاب عن معظم أرضه حلّت الولايات المتحدة وتركيا بقواتهما للإبقاء على الإرهاب ونهب الثروات والإحالة من دون الخروج من هذا النفق، والتوجّه بعزم وشكيمة إلى مرحلة إعادة الإعمار فعلاً وبأيدٍ وكفاءات سورية، وأيضاً كان الاستهداف ذاته الذي شهدناه في العراق وفي ليبيا.

الاستنتاج المنطقي لهذه الحقب ولكل ما جرى لبلداننا هو أن حرب الإبادة على فلسطين تستكمل فصلاً هاماً من فصول استهداف الطاقات والمؤسسات العربية على أي أرض كانت، وضمان التحكم بالثروات والأرض ومستقبل هذه الأرض، خاصة في ضوء اكتشاف حقول غاز في بحر غزة والخيرات المعهودة في فلسطين، كما هي الحال في شمال شرق وشمال غرب سوريا. إذاً، ما يجري في فلسطين اليوم هو استكمال لمشهد الحروب الإرهابية الأميركية أو حروب "الناتو" على دول المنطقة، ولا نيّة لدى العدو الإسرائيلي ولا لدى داعميه في الولايات المتحدة والغرب لإيقاف هذه الإبادة إلى أن يبلغوا الأهداف المرسومة لها ضمن خططهم لإعادة الاستعمار لوطننا العربي برمّته من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه. المفقود الأهم في هذه المعادلة هو أن يفهمها العرب أنفسهم، وأن يعملوا على إيقافها لأنها واحدة في الماضي والحاضر والمستقبل، وأي عربي يعدّ نفسه بمنأى عنها يرتكب خطأ استراتيجياً بحق نفسه وبحق بلده وأمته.