2024-11-27 07:42 م

عربة مصطفى وحصان المصالحة..

بقلم: عريب الرنتاوي
خبا الاهتمام بتكليف الدكتور محمد مصطفى تأليف حكومة فلسطينية جديدة...التكليف لم يُستقبل إقليمياً ودولياً بـ"الحفاوة" التي تليق باللحظة الفلسطينية التاريخية النادرة، والفلسطينيون عدّوا حكومته امتداداً لحكومات الرئيس عباس "خالية الدسم والصلاحيات"، ولم يجتاحهم الأمل بحصول التغيير المنشود في المنظومة السياسية الفلسطينية، ما دامت "ترويكا" رام الله، تمسك بزمام السلطة والقرار والمال.

بين التكليف المُستَعجل، والتأليف المُستَمهل، سجلت الحكومة العتيدة المنتظرة، رقماً قياسياً، في تبديد التوقعات والانتظارات، ولا سيما أنها قوبلت منذ الأول، بموقف رافض لها ومتحفظ عليها، من قبل فصائل فلسطينية وازنة، مثل حماس والجهاد و"الشعبية"، وقاومت تشكيلها كتلة وازنة في حركة فتح ذاتها...وحين انبرت "الترويكا إيّاها" للرد على بيان الفصائل المعترضة، تنصلت كثرة من مناضلي فتح وقادة الصف الوسيط فيها، من هذا البيان، وعدّوه إهانة في مضمونه وتوقيته، لتاريخ الحركة ومكانتها...لكن، مع الأسف، فإن حركة فتح تبدو بحاجة إلى "معجزة"، لترجمة "روحها الكفاحية الوثّابة" إلى مواقف وسياسات وإجراءات، بعد مسار طويل من التجويف والتجريف الذي تعرض له "حزب السلطة الحاكم".

للبرهة الأولى، يبدو أنه تحقق لـ"الترويكا"، ما أرادت: فهي من جهة، قطعت الطريق على مسار موسكو للمصالحة وبناء التوافقات، وارتدّت على تفاهمات سياسية غير مسبوقة، تم إنجازها برعاية الوسيط الروسي، فكان التكليف بمنزلة "حمل من خارج الرحم"... وهي من جهة ثانية، نجحت في تنفيس الضغوط الدولية والإقليمية الداعية إلى "تجديد" السلطة وإصلاحها، وإن إلى حين.

ونقول للبرهة الأولى، لأن الإقليم وعواصم القرار الدولي ذات الصلة، التي رحبت بحذر وتحفظ على التكليف بانتظار التأليف، ما زالت تتحدث عن "إصلاح جذري"، يتخطى لعبة تدوير الأسماء والحقائب، وهي إذ راجعت أرشيفها، أدركت مبكراً بأن شيئاً لن يتغير بخروج اشتية ومجيء مصطفى...وهي وإن كانت تراقب من كثب قوائم الأسماء المتطايرة للتشكيل الحكومي، ومعظمها جديد نوعاً، باستثناء "الرجل الثاني" و"مسمار الصحن" في مختلف حكومات عباس المتعاقبة...استنتجت سريعاً أن الأسماء المتداولة استُخرجت من العلبة نفسها للحكومات السابقة، وخيطها الناظم، ما زال "مربوطاً بكف الرئيس وفريقه".

لا تهمنا في الحقيقة، ردود أفعال العواصم ذات الصلة، مع أننا لا نستطيع أن ندير لها الظهر كلياً، فالأهم في هذه اللحظة الاستثنائية التي يمر بها شعب فلسطين وقضيته ومقاومته ومشروعه الوطني، أن تحظى الحكومة، أي حكومة، برضى الشعب والتفافه، وأن تكون معبّرة عن توقه البالغ للخلاص من نير الاحتلال والفاشية – العنصرية، والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، وفي ظني أن شرطاً كهذا، لم يعد يتوفر في "الترويكا" ذاتها، بوصفها "المرجعية" المفروضة على شعب فلسطين، وفاقد الشيء لا يعطيه، لا لحكومة مرتحلة ولا لحكومة قادمة.

لقد وضع التكليف المنجز والتكليف قيد الإنجاز، العربة أمام الحصان الفلسطيني، إذ كان يتعين الشروع فوراً ومن دون إبطاء، في إعادة بناء "مرجعية وطنية عليا" للشعب الفلسطيني، بالتوافق الوطني العام والواسع، إلى أن تتوفر فرصة الاحتكام لصناديق الاقتراع... وكان يمكن خوض معركة إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، بكل جدية وصلابة، ولدينا من مروحة اتصالاتنا الواسعة، ما يكفي من معطيات تدلل بأن العالم كان سيرضخ لخيار إنهاء الانقسام، تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية ومظلتها... لكن، يبدو أن أكثر الكارهين لهذا الخيار، وربما أكثر المتضررين منه، هم "المنتهية ولايتهم"، ومن يحيط بهم من "المؤلّفة جيوبهم"، في رام الله.

خطوة كهذه، كانت (ولا تزال) مطلباً لقوى دولية عظمى كذلك، ليست روسيا والصين، سوى غيض من فيض هذه القوى الداعمة لخيار الوحدة والمصالحة...أما عواصم العرب، وبعضها كارهٌ لحماس والجهاد، فما كانت لتجرؤ على رفض ومقاومة خيار إجماعي فلسطيني... الشعب الفلسطيني تواقٌ بغالبيته الساحقة لهذا الخيار، وكان بالإمكان، ولا يزال، فرض هذا الخيار على من يتربص بشعب فلسطين، ويتمنى له دوام الانقسام، لأن بدوامه، ستبقى الحال على هذا المنوال.

لقد تذرعوا بمبررات واهية، كان الأجدى والأجدر بهم أن يجعلوا منها أسباباً للمضي في خيار الوحدة وتبديد الانقسام، كالقول مثلاً، بأن "إسرائيل" لن تقبل بـ"مرجعية" كتلك، وأن واشنطن تتحفظ عليها، وأن "أموال المقاصة" ستكون في مرمى نيران "القرصنة الإسرائيلية"، إلى غير ما هنالك من حجج وذرائع لم تكن منذ أوسلو حتى اليوم، سوى عوامل ومسببات لتحفيز مسار التراجع وتسريع سيناريو الانهيار... كان الأجدى والأجدر بهم، "التفكير خارج الصندوق" والارتقاء إلى مستوى "الكارثة والبطولة" في قطاع غزة، ولكن "لقد أسمعت إذ ناديت حياً...".

لقد وضع بيان موسكو، أساساً سياسياً للتلاقي الفلسطيني، وبإجماع فلسطيني نادر هذه المرة، وكان يتعين أن "يُبنى على الشيء مقتضاه"، وأن يلتئم الشمل الفلسطيني بالمبادرة إلى بناء "المرجعية الوطنية العليا"، لتأتي بعد ذلك الحكومة، كتحصيل حاصل، بصرف النظر عن شخوصها وأسماء من يتولى حقائبها... لكنهم آثروا ألا يغادروا مربع "التفرد والاستئثار"، وأبَوْا إلا المضي قدماً في مسار تهميش المؤسسات وتهشيمها، بدءاً بمؤسسات فتح والسلطة، وانتهاء بمؤسسات منظمة التحرير وهيئاتها القيادية ومنظماتها الشعبية.

أما التحدي الأكبر الذي ينتظر حكومة الدكتور محمد مصطفى، فسيكون في ترجمة تكليفها، وتحديداً في الشق المتعلق بمستقبل غزة، من إغاثة وإيواء وإعادة إعمار، وإعادة توحيد المؤسسات بين شطري الوطن المنكوبين بالاحتلال والاستيطان والحصار والإبادة... ولا أدري كيف ستتمكن من مَدّ ولايتها إلى القطاع، في ظل القيود الإسرائيلية على دور السلطة، وإصرار "تل أبيب" على إعادة صوغ هذا الدور، ليكون "أداة احتلالية"، لا للسيطرة على أرض القطاع وشعبه فحسب، بل ولغسل عقول أبنائه وضمائرهم، ومحو آثار تربيتهم الوطنية والدينية.

أما الرهان على فرص نجاح "إسرائيل" وشركائها في استئصال المقاومة من القطاع، وتمهيد الطريق لعودة سلطة رام الله ومدّ ولايتها إليه، فهو رهان خاسر لا محالة، حتى وإن استقوى أصحابه بالعدو على أبناء جلدتهم، وسخّروا المعاناة الإنسانية بأبشع الصور وأكثرها فظاظة، لتحقيق أغراضهم، ولا أظن أن المقاومة ستكون قاصرة عن إحباط مرامي هؤلاء، حتى وإن تصدت لهم بالحجارة والمكانس.

وسيَثبُت لـ"الترويكا" أن ما ظنوه "طريق السلامة"، سيكون محفوفاً بالتحديات الأكثر جسامة، والعقبات الأشد استعصاء، من طريق المصالحة والوحدة، ليس على مستوى الوطن ومشروعه ومستقبله فحسب، بل وحتى على صعيد "المستقبل الشخصي الخاص" بالقيادة المتنفذة ومن يحيط بها. 

المصدر: الميادين نت