2024-11-27 10:40 م

بين أنفاق فيتنام وفلسطين.. كيف تأتي الحرية من تحت الأرض؟

بقلم: امال السعودي

أنفاق كوتشي التي أنجزها الفيتناميون تمثل مشروعاً عسكرياً بارزاً للمقاومة الفيتنامية، وأصبحت الآن نصباً تاريخياً على الصعيد الوطني، تُجسد عزم وشجاعة هذا الشعب في مواجهة الغزاة. وقد سُميت بـ"الأرض الفولاذية" خلال حرب فيتنام، حيث أنشأ الجنود هذه الأنفاق العسكرية كجزء من مدينة تحت الأرض خلال مقاومتهم للقوات الأمريكية، وهي تعد جزءاً من شبكة أنفاق موسعة تمتد في كافة أنحاء فيتنام. هذا النظام النفقي المعقد، الذي يمر مباشرةً تحت معسكرات العدو صُمم بعدة انحناءات لمنع تسلل الألغام الأرضية، وتضمنت الممرات الداخلية شكلاً على هيئة حرف U، لتجميع الماء عند الضرورة ولصد الغازات السامة التي قد يستخدمها العدو.

وكان الحجم الصغير لهذه المخابئ يتناسب مع قامة الفيتناميين الصغيرة، ما جعل من الصعب على الجيش الأمريكي الوصول إليها. تضمنت هذه المدينة تحت الأرض غرف طعام، مطابخ، غرفاً لتخزين الذخيرة والأسلحة، مستشفيات ميدانية، وقاعات للاجتماعات، ودور عبادة، بالإضافة إلى سينما لرفع الروح المعنوية للقوات الفيتنامية. وبفضل تصميمها المعماري الفريد، الذي يشبه شبكة العنكبوت مع العديد من الطوابق والأزقة، امتدت لآلاف الأميال، شيدت أنفاق كوتشي بطريقة عبقرية جعلتها عصيةً على خطط الأمريكيين وأسلحتهم الفتاكة، ما جعلها شاهداً على الإبداع والنضال في وجه الاستعمار.

خلال النهار كانت أنفاق كوتشي تعمل كملجأ لقوات المقاومة الفيتنامية، بينما كانت تُستخدم للقتال فقط ليلاً، لتقليل فرص اكتشافها من قِبل العدو. تم إنشاء هذه الأنفاق بطرق مبتكرة، حيث غُطيت مداخلها بالتربة أو النباتات أو في حظائر الحيوانات وتغطيتها بالروث لتشتت الكلاب البوليسية وتمنعهم من اكتشافها، وتم تصميم نظام لتهوية غازات الطهي، بحيث تُطلق في الكثافات النباتية بالغابات، ما جعل اكتشافها بالغ الصعوبة.

 الإبداع في تطوير نظام الأنفاق هذا، الذي كان يشبه متاهة معقدة، لعب دوراً حاسماً في تحقيق الفيتناميين للنصر على الاستعمار الأمريكي، ما جعل الجنود الأمريكيين المدججين بأحدث الأسلحه يشعرون بأنهم يقاتلون أشباحاً، حيث كان يُلاحظ اختفاء الجرحى والقتلى من الفيتناميين بسرعة، بينما تبقى جثث الأمريكيين متروكة على أرض المعركة، فهذه الأنفاق المبتكرة احتوت أيضاً على مقابر. لقد أثبتت المقاومة حينها للعالم أن الحلول الإبداعية يمكن أن توفر المفتاح للبقاء وتحقيق الانتصار في مواجهة القوى العظمى، مظهرةً أن الدهاء الهندسي يمكن أن يكون أداة فعالة لضمان الحرية.

أنفاق فيتنام وفلسطين.. حيث تنبت أرواح لا تُقهر
بين أنفاق فيتنام وفلسطين نستطلع الرابط الروحي الذي يجمع بين حكايتين أو ملحمتين، كلتاهما تنضح بتضحيات تعكس الحب اللامتناهي للوطن. تعكس كل من القصتين الفيتنامية والفلسطينية الذكاء الفائق والعشق اللامحدود لأبناء الشعبين لأراضيهم. مظهرين حكمةً ودهاءً استثنائيين، تمتزج هاتان الحكايتان عند ملتقى التاريخ، موفرتين مصدر إلهام للمناضلين من أجل الحرية في كل زمان ومكان. في الماضي كانت فيتنام مصدر إلهام للمقاومة ضد الاستعمار، واليوم تلهم الأنفاق في غزة بمقاوميها العالم أنه مازال للمقهورين فرصة لانتزاع حريتهم مهما طال الظلم، فعندما بدا النضال على سطح الأرض مستحيلاً في مواجهة قوى استعمارية مسلحة بأقوى الأسلحة في العالم، اختار المقاومون العودة إلى جذورهم، لعل الأرض نفسها تحارب معهم. من عمق الأرض، استلهموا قوتهم، متمسكين بكل حبة تراب من وطنهم حتى نهاية المعركة.

في أعماق أرض فلسطين، بينما تزرع الأمهات شجر الزيتون من فوق الأرض، يزرع المقاومون تحتها قصة حبٍّ تستمد جذورها من عمق الأرض وفوقها في تلاحم حقيقي بين المادي والروحي. إذ لم يخضع رجال فلسطين لظلم الاستعمار أبداً رغم السنين، بل ابتكروا أنفاقاً تسرد تاريخ صمودهم في وجه تسلط الاحتلال الإسرائيلي. فهذه الأنفاق أكثر من مجرد شرايين تحت أرضية، إنها ثمرة سنين من الإيمان والمثابرة والتخطيط الدقيق. بُنيت أنفاق الحرية هذه لتنخر في الأرض بعمق يتجاوز الثلاثين متراً، وأحياناً تكشف عن طبقات متراكمة يعتبرها البعض بمثابة جيل جديد من الأنفاق.

وقد تناولت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، في تقاريرها، الدهشة التي اعترت جيش الاحتلال الإسرائيلي عند اكتشافه لحجم شبكة الأنفاق التي رسمتها المقاومة الفلسطينية في أعماق قطاع غزة. هذا النسيج الأرضي المعقد فاق كل التوقعات الإسرائيلية السابقة للصراع بمئات المرات، بزيادة تقدر بنحو 600%. لا تُعتبر هذه الأنفاق مجرد شاهد على الذكاء والولاء فحسب، بل هي أيضاً برهان حي على العزيمة الفولاذية والحب العميق الذي يكنه الشباب الفلسطيني لتراب وطنهم. إذ تنسج قصص الأنفاق نفسها في نسيج حياة الشعب، حيث يغوص أبناؤه خفية في أحضان الأرض، محملين على أكتافهم آمال أمة ومقاومتها في كل حبة رمل وتراب.

اتخذ المقاومون قراراً بأن يتجسدوا كرمز للصمود في وجه التحديات، مانحين الأرض نفسها قدرة على النبض بالحياة في رقصة ملحمية لا تُمحى من الذاكرة. كانت رسالتهم تحمل عمقاً وقوة فائقة، أمام العراقيل والمخاطر نجحوا في خلق تصوير يعكس بجوهره روح قصص نضال أنفاق فيتنام، حيث التقى العزم بالمقاومة لنيل الحرية.

بينما يستمر الاحتلال في محاولاته العقيمة لكسر إرادة المقاومة، ظلَّ عاجزاً أمام ثباتهم. منذ السابع من أكتوبر وحتى اللحظة الراهنة لم يفلح الاحتلال في تحقيق أيٍّ من أهدافه، بل واجه الفشل المتواصل، وهو ما أكدته العديد من الصحف العالمية والمحلية.

بالمقابل، حققت القضية الفلسطينية نصراً كبيراً، وعادت كقضية الأحرار الأولى، ونالت التضامن والتعاطف من شعوب العالم بأسره من مختلف الجنسيات والأديان، حيث ترتفع أصواتهم كأنشودة للحرية، تدعو إلى تحرير الأوطان المغتصبة.

بل باتت فلسطين اليوم هي مَن تحرر الشعوب، إذ تسهم في كل لحظة في توسيع الفجوة بين بعض الشعوب وأنظمتها القمعية المتواطئة في الظلم، وإزهاق أرواح الأبرياء، خصوصاً بعد أن أصبحت الجرائم البشعة ظاهرة للعيان أمام العالم بأسره. 

وعلى الجميع منا أن يرى الحقيقة كما هي، فبينما تظل المقاومة صامدة بأبناء شعبها، تقاوم العائلات هي الأخرى بكل ما أوتيت من قوة، تقاوم الواقع المرير بعد أن فقدت أحلامها وسط دمار الحرب. قلوبهم تعبق بالحنين إلى وطنهم، ينشدون الله أن يمدهم ويمد مقاوميهم القوة والصبر لاستعادة أرضهم الطاهرة. 

في هذا الواقع القاسي تتجلى قدسية الوطن في شموخ النفوس وارتفاع الهمم. يخطو أبناء الأرض محملين بعلم الإصرار، ناقلين حكاية الصمود والتحدي عبر الأزمنة. فالوطن لديهم ليس مجرد تربة وأرض، بل هو النبض الذي يتدفق في قلوب أبنائه، مانحاً الحياة وسط الصعاب.

بكل لحظة تمر يُعلنون عن قوة الانتماء ويجددون الإيمان بأن شروق فجر جديد لا محالة آت. يتجلى درسهم في الثبات والتضحية، حيث يلتقي الأمل بالواقع في معزوفة البطولة التي تُكتب بدماء الشجعان. في غزة تظل الإرادة نبراساً لا يخبو، والأمل شعلة لا تنطفئ، لتواصل مسيرة الحياة على هذه الأرض رغم الأسى.

يشهد التاريخ على قدرة الإنسان على تجاوز المستحيل بأفكار ملهمة ومبدعة. تبرز أنفاق فيتنام وفلسطين كشواهد حية على هذه القدرة، حيث تعد أنفاق فلسطين تجسيداً للإصرار والمثابرة في وجه التحديات العنيفة والظلم. إنها ليست مجرد حكاية تُروى، بل فصل بارز في تاريخ النضال الفلسطيني، معلناً عن جيل من الشباب يمثل بوصلة الأمل والقوة أمام العراقيل. من فيتنام إلى فلسطين، يؤكد التاريخ أن الاتحاد والإبداع يمكنان الشعوب من التغلب والنهوض حتى في أقسى الظروف.


المصدر: عربي بوست