2024-11-26 08:42 م

كيف تُعيدُ غزّة تشكيل الوعي العربي العام؟

بقلم: ملاك عبدالله
هل أهملنا المساعي نحو بناء الدّولة في العالم العربي؟ هل ارتدّينا إلى أفكار شبيهة بالأفكار الشّموليّة المؤّسسة للكثير من الاستلابات والمظالم؟ هل نحن نعيش ارتكاسةً حقيقيّة في الوعي العام بعد الأحداث التي وقعت في غزّة، أم أنّ الحدث الغزّاويّ أعاد تشكيل الأولويّات وفحص السّرديّات بالشّكل الذي زعزع البنى "الحداثويّة"، ويكاد يعيد للبنى التّقليديّة دورها وفعاليّتها، أم أنّ مبنىً ثالثاً أخذ يشقّ طريقه؟

هل ما زالت محدّدات المفكر العربي محمد عابد الجابري (العقيدة، الغنيمة، القبيلة) مُفسّرة لدخول الجسد العربي بمعظمه تقريباً في مرحلة الموت السريري بعد محاولة صدمة “كهربائية” تاريخية بحجم ما يحدث في غزّة بعد أقل من خمسة أشهر على “طوفان الأقصى”؟ أم ثمّة مُحدّدات جديدة غير مرئية وجب إعادة البحث عنها؟ أم أن غزّة نسفت “براديغم” الجابري بأكمله، ولزم الأمر رؤية جديدة؟

سؤال الدّولة

باختصار، منذ تقسيم المنطقة بعد سايكس بيكو والدول العربية التي تمّ “فرزها” وفقاً للحسابات الاستعمارية دخلت في صلب تحدّي البحث عن ماهية الدولة والهوية في سياق معادلة الحدود الجديدة والتوازنات الداخلية والتأثيرات الخارجية. ومع الحركات الاستقلالية في منتصف القرن العشرين، ازدادت التحديات الثقافية. النقاش الفكري والتنظيري حول الدولة مذاك ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالبحث عن هوية ثقافية وسياسية موحّدة تتجاوز الانقسامات القبلية، الإقليمية، والدينية. ومع بداية القرن الحادي والعشرين، غدت التحديات الثقافية أكثر تعقيدًا تحت تأثير العولمة، وأثّرت مباشرةً على محاولة فهم وظيفة الدولة في العالم العربي. مسألة الصراع بين الحداثة والتقاليد وبين الهويات الفرعية والقومية أضحت من المسائل المحورية في صلب هذا النّقاش الفكريّ. في أواخر العام 2010، ومع بروز ما سميّ بـ”الرّبيع العربي”، دخلت بلادنا العربية في منعطف سياسي تاريخي، أعاد ومن باب سحب الشرعية عن الأنظمة الحاكمة طرح سؤال الدولة بشكلٍ أكثر إلحاحاً، لكن هذه المرّة لم يبقَ الأمر حبيس نقاشات النخب الفكرية والثقافية، بل غدا تحدياً ثقافياً وسياسياً شعبياً. غير أن مآلات هذا “الرّبيع”، وما تلاه من أحداث بعد حراكي العراق ولبنان عام 2019، عزّز واقعين تجليّا بوضوح أكثر كنتيجة للأحداث: الأول؛ أن البني الثّقافية في العالم العربي، بأغلبيتها، ما زالت غير مستوعبة لأسس الدولة الحديثة، بل غير راغبة بها. الثاني؛ أنّ الممسكين بالسّلطة في العالم العربي لن يتخلّوا عنها بسهولة، ولن تكون بدائلهم سوى على شاكلتهم، مستبدّة داخلياً وتابعة خارجياً. على أنّ حراك العقد الأخير حول الدولة الوطنية الحديثة، لم يدفع فقط بالطّروحات القومية إلى حدود بعيدة، ولم يُعدم أفكار الإسلام السياسي وحسب في منظور مناوئيه، ولم يستجلب وحسب حركات الإسلام السياسي لتطبيق نموذجها، بل إنه جعل من القضية الفلسطينية قضية لاحقة على استحقاق تأسيس الدول في العالم العربي.

في المحصّلة، دفعت الإرهاصات الكارثية لـ”الربيع العربي” بالقضية الفلسطينية إلى دائرة تطبيعٍ بخس الثمن. والخلاصة، لا أُنصفت القضية، ولا بُنيت الدّولة. مزيدٌ من التقهقر والاستعصاء، دفع بالكثيرين إلى الصمت، إذ ما عاد السؤال عن كيفية وصول الأمور إلى ما وصلنا إليه ولا عن ماهية البدائل.. الكيفية باتت واضحة ومقروءة وملحوظة، وقد سيقت الكثير من الكتابات والتنظيرات حولها، غير أنّ الوقائع فرضت على السؤال انزياحاً إجبارياً هذه المرّة من باب التنظير السياسي، إلى باب الاجتماع السياسي. الاجتماع الذي يُفضي إلى ما قاله الدكتور عزمي بشارة في إحدى محاضراته منذ بضع سنوات، أن لا معنى لسؤال غياب الدولة الديموقراطية في العالم العربي، لأنّ العلوم الاجتماعيّة تبحث في الظّواهر وليس في غيابها. الدولة في الثقافة العامة كما هو آنف للذكر، لم تنشأ الدول والمؤسّسات في العالم العربي إلا كثمرة هجينة للتّركة الاستعمارية. وعليه، فقد حملت الشّعوب العربيّة في وعيها فكرة أنها دول مخترقة وتابعة، وتمسّكت بما عندها من قيمٍ ومتون في سبيل مقارعة هذا الوافد الغربي بكلّ خلفيّته الاستعلائيّة. وكان لزرع إسرائيل في قلب المنطقة العربية أثره في تعزيز هذه الرّؤى وتمكينها، إذ ثمّة علاقة مباشرة وطرديّة ما بين خلق الكيان الصّهيوني وتنامي نزعة “الأصالة الثقافية” و”تمكين النموذج الإسلامي” في بلادٍ غلب عليها الطّابع الإسلامي. على أنّ هذه الأصالة وقفت سداً منيعاً في وجه ما سمّي بالمحاولات الإصلاحية والنهضوية، بحيث أنّ أطروحات من قبيل إعادة قراءة النص الدّيني بطرق جديدة ومنطق جديد فشلت في التّسرّب إلى الوعي العام العربي، واعتُبرت استجلاباً لرؤى استشراقية غربية تريد لأفكار هذه الشّعوب أن تتغيّر، حتّى تصبح أكثر مرونةً في الانقياد والتّبعيّة للخارج، وحتّى تعطي المشروعيّة لأفضليّة تحديثاتهم الثقافية على البنى الكامنة في الوعي العربي السّائد. علماً أنَّ هذا الوعي لا يرضى بإسقاط مرحلة القرون الوسطى على الحالة العربية، على اعتبار أنها مختلفة بنيوياً، بحيث أن الكنيسة في أوروبا كانت تملك الوصاية على الشعوب، ولم يكن لها ولاية بمعنى الحاكميّة، وبالتالي فقد كان الملك حاكماً على الشعوب التابعة للكنيسة، التي كانت تفرض السياسات التي تنفعها من خلال الملك، وتُخضع الشعوب لها ضمن السياق الديني، غير أن الحاكم الفعلي آنذاك كانت طبقة الإقطاع بالتنسيق مع الملك. ولذلك، عندما أراد الناس فصل مجال الكنيسة عن مجال الدولة، فقد كانت الغاية الوصول إلى الحكم لأن الكنيسة امتلكت وصاية معنوية على الحكم لا وصاية سياسية تفصيلية. وعندما قُطع رأس لويس الرابع عشر، لم يكن المراد قطع رأس البابا، وإنما رأس الملكية التي أخذت الوصاية من الكنيسة. وخلاصة هذا الفهم أنّ الحاكمية الدينية في الإسلام تختلف تماماً عن عمل الكنيسة في القرون الوسطى، وأن الرموز الدينية في الإسلام لا تشبه تلك التي في المسيحية، وبالتالي فإن الانتقال إلى عصر الأنوار الإسلامي يجب أن ينطلق من هذه الخصوصية وألا يستعير التجربة الأوروبية. نموذج الدولة الغربية إلى ذلك، عزّزت أطروحات من قبيل ما طرحه الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما حول صراع الحضارات، من الإتجاه النفسي المناهض لكل ما هو صنيعة غربية، إذ أن نظريةّ فوكوياما تؤسّس لفكرة الدول التابعة التي لم تصل بعد إلى نهاية التاريخ كما وصلت إليه الدول الليبرالية في الغرب، وبالتالي وفقاً لطبيعة الحركة العامة للتاريخ، لا بدّ من أن تعترف شعوبها بحق الغرب في الهيمنة عليها بوصفها متأخرة عن الرّكب التاريخي. غير أنّ نموذج الدّولة الغربيّة، الأوروبية تحديداً، في وعي الكثيرين في العالم العربي، ما كان ليبدو ناجحاً في نظر شعوب تلك الدّول لو لم يستطع تأمين الرّفاه للمواطن، وهذا الرّفاه هو نتيجة مباشرة للاستعمار. فدولة كفرنسا مثلاً لن يبقى من ثقلها الاقتصادي أي قيمة فيما لو أعادت حقوق المستعمرين، وإلا كيف ستكون رابع احتياطي للذهب في العالم وهي لا تملك منجماً واحداً، وكيف وحّدت العملة حتى الآن في حوالى 16 بلداً أفريقياً تمانع من امتلاكها كلها مصرفاً مركزياً.. وبالتالي فإن الدول الغربية في الوعي العربي تُبرز المباني الفكرية والثقافية كأساس لنجاح نموذجها، فيما الواقع أن لا علاقة لهذه البنى بذلك، إنما هي فقط القدرة على تلبية احتياجات الناس، وإغراقهم بالرفاه المانع لهم من أن يفكّروا أصلاً في الفكر السياسي، وأن يشيدوا بكلّ ما أغرقهم به إعلامهم من وهم نجاح الديموقراطية ومؤسسات الدّولة.

الشرعيّة التّعويضية لا الديموقراطية واقع الأمر، بحسب وعي كثر من أبناء هذه المنطقة، ليس ثمّة شرعيات ديموقراطيّة في الغرب، بقدر ما هي شرعيّات تعويضية باسم الدّيموقراطية، تُفضي إلى حالة من رضا المواطن العامّ تجاه دولته، وتأخذ به إلى نمط حياةٍ يركّز فيه على التنمية الذاتية، دونما اهتمام مُعتبر بالشّؤون السياسية.

يحدث ذلك راهناً في دول الخليج العربي كذلك، حيث يغيب تقريباً سؤال الدّولة أمام حالات الرفاه التي يعيشها المواطن هناك، على الرّغم من لاديموقراطية حكوماتها. لا بل تصبح هذه الدول نموذجاً حضارياً ليس انطلاقاً من مسألة الحريات مثلاً، أو مسألة الدّيموقراطية، إنما من باب توفير الأمن وتأمين الخدمات وتنويع الإقتصاد (الأولوية للإستقرار!). وقد اعتمد هذا النموذج نفس منطق “الإبهار” الغربي، ليُنتج بالتالي ذهنيّاتٍ تُعلي من قيمة الفردانية والرّفاه الشخصي على أي نقاش سياسي أو أي سبيل للتفكير بتغييرٍ ما (الإستقرار أهم من الحرية!). والمفارقة، أنَّه ما كان لهذه الدّول أن تكون على ما هي عليه لولا رضا الحكومات الغربية بشكل رئيس. فهذا الرضا هو الذي يحدّد مدى إمكانية السماح بالرفاه الاجتماعي بالتفشي والازدهار من عدمه. ما يعني أن فرضية الدول التابعة أعلاه تمّ تعزيزها، وما يعني أن المواطن في تلك الدّول، من حيث ارتضائه بنموذج الحكم وسياسات دولته، بات يعترف بأن لا قيمة لأي مسألة سياسية ما دام واقعه المرفّه وإمكانية تحقيق تقدّمه العملي وتثبيت إستقراره كلها متاحة.

تسليع الإنسان وفكرة الدولة

انطلاقاً من هذا، تمّ تمييع الكثير من القضايا السياسية، واستسهال الكثير منها أيضاً، الأمر الذي عرّض المواطن لاستلابات من أنواع جديدة، تتماشى بطبيعة الحال مع أنواع الاستلابات التي فرضتها أشكال حديثة من وسائل التواصل الاجتماعي كالتيكتوك وغيرها، والتي جعلت لرأس المال قيمة تفوق قيمة الرّسالة وتتعداها لابتكار وسائل تهدف إلى إثارة الجلبة. تفريغ الإنسان من إنسانيته بهذه الطريقة، عبر سلب عقله سؤال القيمة واستثارة كل إداراكاته وحواسه لمسألة الربح الفردي والحرية الفردية، جعل من مسألة الدولة الديموقراطية الحديثة التي صدّرت هذا النموذج من الإنسان الحديث هي الأخرى سلعةً ربحية ليس إلا. وليس ما يحدث في غزة سوى تأكيد على عملية تسليع كل المفاهيم الحديثة، واقتياد هذه المفاهيم ذاتها نحو التّوحّش. وهنا تكمن المفارقة. إذ على سبيل المثال، في الوقت الذي تحدث فيه اليوم عملية إبادة على أرض غزة، تجري في السودان أحداث دامية، كنتيجة للنزاع على السلطة، بحيث يعدّ النزوح الداخلي فيه الأكبر عالمياً، فيما عدد المدنيين الذين لا يجدون الغذاء يقارب الـ 16 مليون (من أصل 45 مليوناً)، بحسب المنظمة الدولية للهجرة. المسألة في ما يحدث إذاً ليست فقط في حجم العنف والإبادة. يمتلأ الكوكب بالعنف والتوحش. الفكرة، انطلاقا من غزة، هي في احتضار النموذج الإنساني انطلاقاً من شعارات القيم الإنسانية، وهي الشعارات ذاتها التي تُستخدم لتعزيز ديكتاتوريات مقنعة، أو لدعم حروب أهلية. من هذا المنطلق، يترسخ يوماً بعد يوم في البنى الثقافية التقليدية في مجتمعاتنا أن أصل العنف في هذه البلاد خارجيّ وليس داخليّاً، وأن ما هو داخلي من استبداد ليس سوى بنسبته الأكبر تغذية راجعة لحالة الاستعمار المنّاعة للخير، المعتدية الأثيمة، التي ترزح تحتها البلاد العربية، بغض النظر عن شكل هذا الاستعمار أكان مادياً أم معنوياً، والتي ستحاول دائماً توظيف كلّ مسعى داخلي لقهر هذا الاستبداد إلى حروب وفتن أهلية وطائفية، تُعيد سؤال الأمن إلى الواجهة، ليعود بذلك إنتاج الإستبداد مجدداً وتكريس بيئة مضطربة مهيأة في أي لحظة لانفجارٍ يسهل استغلاله، وتعزيز عنجهيات وعنصريّات من هنا وهناك.

هكذا، سيغدو سؤال الدولة الحديثة ومقارعة الاستبداد إما مُفرغاً بفعل ظهور دول الرفاه، وإما ترفاً فكرياً لا ينطلق من الاجتماع السياسي بقدر ما يحاكي مُثلاً أفلاطونية. وهكذا، سوف يتأخّر هذا السؤال في الوعي العام بعد أحداث غزة، ليصبح لاحقاً على واقع القضية الفلسطينية، التي ما عادت قضية تخص أرض فلسطين، بل باتت في صلبها قضيّة سؤال الإنسان في هذا الكوكب، ومسألة عالم الجنوب ينتفض ضد عالم الشّمال، ليعيد رسم الأمور على حقيقتها. وهكذا أيضاً وأيضاً، سيصبح حدث “الطوفان” حدثاً إحيائياً للبحث في معنى أن تكون إنساناً في هذا العالم المليء بالشعارات الإنسانية، وتعميمات الخير والشر، ووصفات الحلول السحرية الحداثوية أو الإسلامية من أجل العدالة ورفع المظالم. ماذا عن الشعوب؟ إذا كان من المفترض أن يكون حدث “الطوفان” إحيائياً، وهو أحيا بالفعل الإنسان في الغرب، فلماذا يُظهر الواقع أن الجسد العربي ميّت في تفاعله مع ما يحدث؟ وإذا كان سؤال الدولة قد تراجع أكثر وأكثر في عقلية الفرد العربي، فهل تراجع كذلك الوعي الإسلامي العام “بالعمل الجهادي”. ومن باب التوصيف، لماذا غاب “المجاهدون” عن فلسطين في الوقت الذي حضروا فيه في سوريا والعراق من قبل وأفغانستان كذلك وغيرها في ظل صدمةٍ كتلك التي حدثت في غزّة؟ ألم تكن “العقيدة” إحدى محرّكات هؤلاء “المجاهدين”؟ حسناً.. ماذا عن الشعوب؟ لماذا غابت عن المشهد؟ هل أصبحت كلها كحال الفرد المصري اليوم الذي يعاني أصعب أزمة اقتصادية ولا يحرّك ساكناً كأنه في خبر كان؟ كيف يُفسّر هذا الجمود الحسّي العربي وغياب التعاطف وعدم بروزه سوى على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل تفسّر نظريّة المشاهد هذا الواقع، على اعتبار أن توزّع المسؤولية والصورة على 300 مليون مشاهد توهم بالعجز، بحيث أنه كلما زاد عدد المشاهدين تراجع احتمال المبادرة عند الفرد الواحد منهم؟ أم أنها فكرة “المرآة الفردية” التي يرى الفرد فيها العالم انطلاقاً من ذاته فقط ومن منظور ذاته، بحيث أن من يحمل جينات الشأن العام بات يرى هذا العالم من خلال صورته المنعكسة من شاشة اللايف ( live) فتصبح الذات نفسها هي الموضوع ويصبح الحراك حول ظاهرة معينة هو حراك “كوبرنيكي” ومجرد دوران حول الذات، ومسعاها الدائم لإنتاج مردود مادي من خلال هذا الحراك، إذ أنه حتى الداعمين لغزة، أو الكثيرين منهم، يدعمونها في الوقت نفسه الذي يُقرّشون فيه هذا الدعم مادياً، ويتعوّدون على هذا النوع من المساهمات العملية. موت الإنسان العربي في الخلاصة، ثمة تحول ما في العقل العربي، كشفت عنه أحداث غزة أكثر من ذي قبل، وهي تستدعي إعادة البحث المعمّق في محدّداته، لأن اكتشاف محددات جديدة، أو تحولات جديدة، من شأنه أن يؤدي إلى رؤية مختلفة للأدوات التي يجب أن يُعمل عليها في سبيل إخراج هذا العقل بل هذا الواقع من موته السريري الحاليّ. المسألة اليوم ليست مسألة بناء دول عربية، وليست مسألة استبداد أو مطالبات بمشاريع الإسلام السياسي أو مشاريعٍ تخلّص من الاستعمار في ظل واقع اجتماعي سياسي يغرق في الشعارات ولا يعرف كيف ينتج برامج.. المسألة كل المسألة هي في موت الإنسان العربي التائه الذي يحتاج إلى حركة إحياء حقيقية، تريحه من شبح الهيمنة الغربية، وتعزّز عنده ومن عنده قيم الحياة والمسؤولية، وتربطه بالحكام والمسؤولين والعالم بأسره من باب القوة الذاتية، لا الإحساس بالمظلومية أو الدونية. أما عن كيف تكون عملية الإحياء هذه.. فذلك مبحث آخر.. لكن زبدة القول أن الحلول التي لا تبدأ من استقراء الاجتماع السياسي العربي يجب إعادة النظر فيها من الأساس، لأنها لا تعدو أن تكون نظريات، قد تؤدي إلى وقائع عكسية فيما لو فُرضت قسراً أو من علوّ فكريّ عن الواقع العربي العام.
المصدر:  180Post