2024-11-26 10:18 م

إحياء السلطة الفلسطينية أم إقامة دولة فلسطين؟

بقلم: رجا الخالدي
منذ الأسابيع الأولى للحرب الوحشية والمستمرّة نزفاً حتى اليوم على قطاع غزة، كُرّست مساحة مفرطة من الاهتمام السياسي والتحليلي لفكرة أن الإصلاح الفلسطيني يشكّل عنصراً أساسياً في ترتيبات ما بعد الحرب. منذ البداية، كانت مسألة حكم غزة في مرحلة ما بعد الحرب مرتبطة بهزيمةٍ مُفترَضة لحركة حماس في القطاع، وبإخماد أيّة مقاومة ضدّ إعادة احتلال إسرائيل لكامل الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الضفة الغربية.

بناء عليه، فإن الرأي السائد داخل المجتمع الدولي يقول بأن الخلف الشرعي الوحيد للنظام هو السلطة الفلسطينية نفسها، التي يواجه رئيسها محمود عباس ضغوطاً فلسطينية وإقليمية ودولية للتخلي – على الأقل - عن بعض سلطاته، فهو لا يخضع للمساءلة الديمقراطية ويرفض الاعتراف بمطالب جيل جديد من المناضلين الوطنيين، كما أنّ حكم عبّاس استمرّ 18 عاماً لم يفِ فيها بوعود التحرير أو التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

من هنا، فالبحث جارٍ على قدم وساق بين وسطاء القوى الدولية والإقليمية، إلى جانب بعض الحملات الانتخابية الخفية، لإيجاد الشخصية السياسية الواحدة الفريدة التي يمكنها إمّا أن تحلّ محل الرئيس الفلسطيني الهرِم أو أن تتقاسم السلطة معه. غير أنّ هذا البحث ينطلق من مبدأ مَغلوط.

مقالات ذات صلة
 مقاربات في الاقتصاد السياسي الفلسطيني قبل وبعد 2023
أولاً، لا وجود للشخصية الواحدة الفريدة، والشعب الفلسطيني الموهوب بشكل مثير للإعجاب ليس بحاجة للبحث عن "القائد الأوحد"، بل إنّ الفلسطينيين بحاجة إلى قيادة موحَّدة تكون محلّ ثقتهم ومحطّ احترام العالم. أولئك الذين يطرحون أن على السلطة الفلسطينية العمل على إصلاح نفسها حتى يتمّ ائتمانها على إدارة قطاع غزة تفوتهم العِبرة. في عهد محمود عباس وفي ظلّ استراتيجيته للتعايش السلمي، جرّب رؤساء الوزراء الفلسطينيون المتعاقبون كلّ أداة إصلاحية متاحة في صندوق عِدّة أوسلو للحكم الذاتي، دون تحقيق نتائج تُذكر. من المؤكد أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والحرب التي عصفت منذ ذلك اليوم في فلسطين وإسرائيل والمنطقة كشفت بوضوح أن الإخفاقات الإدارية للسلطة الفلسطينية ووصول استراتيجية عباس إلى حائط مسدود يعنيان أن ترقيع الثوب المهترئ للسلطة الفلسطينية لن يجدي نفعاً هذه المرة.

آن أوان التغيير. يحتاج الفلسطينيون ليس إلى إعادة تشكيل استراتيجيتهم للتحرير الوطني فحسب، ولكنهم قبل ذلك بحاجة لإعادة هيكلة مؤسساتهم التمثيلية. يجب أن يبنى هذا المسعى على هذه اللحظة النادرة من التضامن بين ملايين الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي وملايين آخرين في الشتات. إن الوعاء الوحيد الذي يمكن له أن يهيّئ وطناً قومياً لـ14 مليون فلسطيني في مختلف أنحاء العالم، بدءاً بأولئك الذين لهم حق الإقامة اليوم تحت الاحتلال الإسرائيلي، هو دولة فلسطين. فهذا الكيان القانوني، الذي أعلنت إقامته جميع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كهدف استراتيجي في عام 1988، والذي تمّ قبوله عضواً مراقِباً في الأمم المتحدة في عام 2012، هو العنوان المنطقي والطبيعي الجامِع لهوية الشعب الفلسطيني اليوم دون تمييز سياسي أو جغرافي أو مذهبي، وهو القادر على حكم الأراضي الفلسطينية المحررة للدولة السيّدة المستقلّة غداً. سوف يختلف الفلسطينيون حول منظمة التحرير الفلسطينية أو حركة حماس أو فتح أو السلطة الفلسطينية، لكن لجميعهم مصلحة متساوية في دولتهم الفلسطينية.

يجدر هنا ذِكر بعض الحقائق التاريخية ذات الصلة.

أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية السلطة الفلسطينية في عام 1994 لتكون أداة للحكم في إطار عملية أوسلو للسلام. من غير المنطقي افتراض أن يكون إصلاح السلطة الفلسطينية لحكمها التكنوقراطي المفترض ممكناً من دون إصلاح التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني. لا يعني هذا فقط استجابة السلطة لاحتياجات الفلسطينيين في المناطق الخاضعة لسلطتها اليوم وفي قطاع غزة غداً. كما أنّ منظمة التحرير الفلسطينية معترف بها على مستوى العالم، وحتى من قِبل إسرائيل في عام 1994، باعتبارها "الممثل الشرعي والوحيد" لكل الشعب الفلسطيني في جميع أنحاء العالم. لكنّ إذا كان إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية يجب أن ينطوي على استيعاب حماس داخل المنظومة السياسية الفلسطينية استعداداً لانتخابات ديمقراطية لاحقة، فهناك الكثير لتحقيقه والوقتُ يضيق.

تم إنشاء السلطة الفلسطينية لتتولى الحكم الذاتي المرحلي لمدة خمس سنوات، على أن تؤدي فترة الحكم الذاتي إلى دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. شهدنا منذ ذلك الحين انهيار قمة كامب ديفيد عام 2000 والانتفاضة الثانية وتغيّر سلطة منظمة التحرير الفلسطينية في عام 2005 مع وفاة ياسر عرفات، بالإضافة إلى 18 عاماً من الانقسام الفلسطيني بين منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في قطاع غزة. وهكذا فإن السلطة الفلسطينية لم تتجاوز فقط مدة صلاحيتها القانونية البالغة خمس سنوات، بل إن ضعف سجّلها في الحوكمة وشعبيتها المتضائلة وافتقارها إلى التجدد والمساءلة الديمقراطيين، بالإضافة إلى انتهاكات إسرائيل الممنهجة لجميع الاتفاقيات السياسية والمالية والأمنية، كلها تعني أنه لا يمكن العودة إلى وضع السادس من تشرين الأول/ أكتوبر. يستحقّ الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال ما هو أفضل مما قدمته أي من حكوماته المنقسمة.

بالنسبة للفلسطينيين الذين يشاهدون العالم فيما يُقرَّر مصيرهم، فإن ما يبدو أكثر إثارة للقلق هو تلك الفكرة السائدة القائلة بأن الإتيان بزعيم إصلاحي "تكنوقراطي" مستقل عن الفصائل السياسية، مخضرماً كان أم وجهاً جديداً، سيكون بطريقة ما العصا السحرية التي ستحلّ معضلة الحكم الفلسطيني. لكن المشاكل أعمق من أن تحلّها الإصلاحات الجزئية أو القوانين الجديدة أو تشكيلة أخرى من 25 وجهاً وزارياً جديداً. بالفعل، ثمّة احتمال مقلق من أن نخرج بتشكيلٍ فلسطيني حاكِم مخيّب وبالكاد يمثل أدنى القواسم الفلسطينية المشتركة إذا ما نجحت المكائد الأمريكية والإسرائيلية والعربية حول إيجاد "الزعيم" الفلسطيني الحالي أو التالي، متجاهلة تماماً أن العقدة في الهياكل لا في الشخوص!

الإصلاح الفلسطيني قصة قديمة ومكررة. في عهد عرفات، قدم النظام الإصلاح كجزرة لإظهار استعداده الذاتي للتغيير، غير أن الإصلاح صار العصا التي استخدمها الرئيس الأمريكي بوش الإبن، خاصة عقب اندلاع الانتفاضة الثانية. في عهد عباس، في الفترة من عام 2006 إلى عام 2012، اتبع سلام فياض أجندة "بناء مؤسسات الدولة"، المدعومة بشروط "اللجنة الرباعية" (الكوارتت) لاستبعاد حماس من الحكومة، بينما انخرط في عملية سياسية "عبثية" (بحسب وصفه) في عهد الرئيس أوباما. منذ ذلك الحين، أعاد رئيسا الوزراء المتعاقبَين رامي حمد الله ومحمد أشتية ضبط السياسة بعيداً عن المشروع العقيم لسلفهما لبناء الدولة، غير أن كلاً منهما وجد نفسه في مواجهة مواطنين مخنوقين، ساخطين على سوء الحوكمة والخدمات المتردية والخدمة المدنية التي تعاني من الزبائنية وازدحام الرتب العليا.

لقد سُجّلت بعض النجاحات بالطبع. دستورياً، أجريت إصلاحات سابقة تفصل بين السلطات الرئاسية وسلطات رئيس الوزراء، باستثناء ما يتعلق بالشئون الأمنية والخارجية، ما شكّل انتقالاً من النموذج (الأميركي) العرفاتي إلى ما يشبه الفصل الفرنسي بين السلطات. توفِّر الحكومة الخدمات والمرافق العامة الأساسية للمواطنين، وتحاول أن تبدو مستجيبة للمطالب الاجتماعية، لكنها تفتقر إلى الصلاحية أو المصداقية لإحداث التغيير. توفر قوة أمنية موحَّدة درجة من الأمن الداخلي في مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، لكنها عاجزة عن مواجهة التهديد الأمني الإسرائيلي الرئيسي للمواطنين الفلسطينيين، وهي تحتفظ بدرجة من التنسيق الأمني مع الاحتلال. شعبياً، يُنظر إلى قوة الأمن هذه على أنها زائدة عن الحاجة، وقد يرى البعض أنها متعاونة مع الاحتلال، لكن عناصرها هم من صفوف الناس أنفسهم، لذلك فغالباً ما يقابَل تقاعسهم بالشفقة عليهم أكثر من النقد.

لكنّ هذه المنجزات ضئيلة مقارنة بما هو مفقود في حياة الفلسطينيين، خاصة لجهة انتهاء التعددية السياسية وغياب التجدد والمساءلة الديمقراطيين وإقصاء المواطنين من المشاركة في الشؤون العامة. إن الاقتصاد الفلسطيني مرهون لنظام مالي يعتمد بشكلٍ أساسي على الإيرادات المالية الواقعة تحت سيطرة إسرائيل، وهي الموارد التي انهارت الآن. وتتركز المالية العامة في يد وزير واحد لا يخضع لمساءلة أي أحد سوى الرئيس ورئيس الوزراء. لقد خلق غياب العملية التشريعية حالة من الفوضى والازدواجية الإدارية القانونية والمؤسساتية، مع عدد كبير جداً من الهيئات الحكومية المزدوجة وأعداد فائضة من موظفي الخدمة المدنية غير المستغلّين في وظائفهم، بالإضافة إلى عناصر قوات الأمن الجالسين في ثكناتهم. ولم تتمكن الخطط الاجتماعية والاقتصادية المتكررة من إحداث تحول في البنية الاقتصادية أو تحقيق العدالة الاجتماعية، وهو أمر غير مستغرَب نظراً لأن العديد من المسؤولين يفوتهم على الدوام أن التنمية غير ممكنة في ظل الاحتلال.

إن فكرة أن هذا يمكن أن يحل محل ذاك، أو أن بعض الإصلاحات المبعثرة والمعلنة على عجل يمكن أن تصلح الوضع، أو أن المشروع الميت للسلطة الفلسطينية يمكن إعادة إحياءه، ليست إلّا جزءاً من تلك البدع الجديدة التي ينبغي التخلي عنها. حتى المصالحة التي طال انتظارها بين منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة تبدو ميؤوساً منها، كما أنّ إنجازها سيتطلب سنوات عدة. على أية حال، لماذا تحتاج حماس إلى الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية؟ السؤال الأساسي هو ما إذا كانت حماس مستعدة لأن تكون جزءاً من دولة فلسطين.

إن الكيان السياسي القانوني القادر على توفير حقوق متساوية - ومشاركة ديمقراطية في نهاية المطاف - لجميع الفلسطينيين تحت الاحتلال، ويوماً ما لفلسطينيي الشتات العائدين، هو "دولة فلسطين" التي ينبغي الآن أن تتحول إلى أكثر من مجرد حبر على ورق. الطريق الأكثر مباشرة لإنعاش الحوكمة الفلسطينية الشاملة لجميع المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بغض النظر عن وضعهم السياسي أو القانوني أو غيره، هو أن يتخلص الفلسطينيون من مؤسسات السلطة الفلسطينية التي عفا عليها الزمن وأن يشكّلوا هياكل الحكم المناسبة لدولتهم المنشودة.

لا يتعلق الأمر بالوظائف السيادية أو حتى الاعتراف الدبلوماسي بالدولة، والذي لن يكون مشكلة إلا إذا ومتى فُرض حل الدولتين على جدول الأعمال كما تعلن التصريحات الدولية يومياً. إذا شاءت الدول الغربية الاعتراف بما أعلنه الشعب الفلسطيني منذ 45 سنة، فأهلاً وسهلاً. المهم في الأمر اليوم هو إيجاد العنوان القانوني المناسب للهوية والتمثيل والوكالة الفلسطينية، بحيث ننتقل، وأخيراً، من الحقبة الماضية من مسار التحرر الوطني الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية وحماس والفصائل، مشكورين. فلنبدأ اليوم بارساء مؤسسات الدولة التمثيلية والدستورية بغرض إدارة أمورنا الداخلية والتمثيلية الخارجية، ونعيد بناء الحوكمة الفلسطينية ونستعيد الشرعية السياسية من هناك. في نهاية المطاف، نبقى ملتزمين بهدف ممارسة دولة فلسطين وظيفتها السيادية في الأراضي المحتلة بمجرد تحريرها من السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية. لكن يمكن للدولة أن تكون موجودة اليوم كعنوان قانوني لهوية فلسطينية جامِعة دون تمييز.

إذا تحقق الاعتراف الدولي بهذه الدولة التي تجسد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، كما طالبت منظمة التحرير الفلسطينية وكما تقترح بعض الدول، فليكن. وإذا لم يحصل ذلك، ففي كلتا الحالتين ستبقى دولة محتلة حتى تحريرها من الاحتلال العسكري الإسرائيلي. ولكن على الأقل سيكون هناك "وطن قومي" واحد لجميع الفلسطينيين وهوية واحدة ومستقبل واحد.

المصدر: السفير اللبنانية