2024-11-27 02:41 ص

فلسطين: خذلان قديم.. جديد

بقلم: ممدوح عبدالمنعم
قمتُ بعد بضع ساعات من انفجار عملية "طوفان الأقصى"  بمهاتفة صديقي الفنان المخضرم عبد العزيز مخيون لأشاركه فرحتي، ومن ثَمّ مخاوفي. تشاركنا الفرح والقلق. وفي اليوم التالي، وبينما كنا نحاول استعراض أسماء القادة الذين خططوا لتلك العملية، ذكّرني صديقي بأحد أهم مناضلي ذلك الجيل الأول من القادة الذين سبقوا هؤلاء فى ساحة المعركة، وكان من أوائل من استشعروا نُذر الخطر على أرضهم الوادعة، وهو الشهيد عبد القادر الحسيني.

حكى لي من تراث عائلته المتداول أخبار تلك الصفحة المطوية والمنسية من تاريخ ذلك المناضل العنيد الذى حضر إلى مصر مع أسرته فى عام 1946 قبيل إعلان قيام دولة إسرائيل. وكان الرجل لا يكف عن مقاومة الاحتلال البريطاني الذي كان يستعد لسحب أقدامه من فلسطين توطيداً لأقدام المحتل الجديد وتطبيقاً لوعد بلفور.

كان عبد القادر الحسيني يعلم أن المواجهة القادمة شرسة وأنها حتمية، ولذا فقد سعى إلى الحصول على السلاح بكل السُّبُل، مدركاً أن السلاح هو اللغة الوحيدة المجدية مع التحديات المقبلة.

وفي مصر التقى الحسيني في مركز أبو حمص بمحافظة البحيرة بصالح أبو رقيق، وهو واحد من الرعيل الأول في جماعة الإخوان المسلمين، وكان ينتمي بصلة قرابة إلى عائلة مخيون. قام صالح بتعريف الشهيد عبد القادر الحسيني على عبد العزيز بك مخيون الذي كان عضواً في مجلس النواب، ويتمتع بشخصية نافذة ومؤثِّرة، ولديه دوائراتصال عميقة وممتدة مع عرب البحيرة في مناطق أبو المطامير وحوش عيسى، وحتى قبائل الصحراء الغربية، وهو عم صديقي الفنان عبد العزيز مخيون.

أخبره الشهيد عبد القادر بحاجته إلى السلاح. واستطاع بمعاونة الرجل أن يتواصل مع بعض عرب البحيرة الذين كانوا قد وضعوا أيديهم على كميات كبيرة من الأسلحة، حصلوا عليها من مؤخرة الجيش الثامن البريطاني الذي قاده مونتغمري ليخوض به "معركة العلمين" التي دارت رحاها في الصحراء الغربية بمصر بين القوات البريطانية وبين قوات المحور قبل أن تضع الحرب الثانية أوزارها.

استطاع الحسيني شراء كل ما استطاع حمله وما توافرت له نقوده من تلك الأسلحة بمعاونة عائلة مخيون التى أقام في ضيافتها، وقامت بمساعدته في نقل تلك الأسلحة العديدة من مناطق جنوب البحيرة، والمناورة للهروب من ملاحقات الشرطة المصرية، عبر عمليات كر وفر كثيرة، ثم عبور صحراء سيناء والدخول بتلك الأسلحة إلى فلسطين.

قبل ذلك، وخلاله، بذل عبد القادر الحسينى جهوداً كبيرة للتحذير من الخطر الصهيوني الذي يوشك أن يبتلع فلسطين. قام بزيارات مكوكية إلى جامعة الدول العربية الوليدة فى ذلك الحين، ومن ثَمّ كانت الآمال لا زالت معقودة على دورها المهم فى أن تكون بيتاً للعرب.

مرّ الرجل كومضة خاطفة في التاريخ العربي الفلسطيني، ولكنه ترك أثراً غير قابل للزوال في سجل نضالات طويلة وممتدة، يقوم كل جيل منها بتسليم راياتها تباعاً إلى الأجيال التالية.

موسى الكاظم، الأب الشهيد
ولد عبد القادر الحسيني عام 1908 في مدينة إسطنبول عندما كان والده موسى كاظم باشا الحسيني يشغل عدة مناصب رفيعة فى الإدارة العليا للدولة العثمانية، وكان دائم التنقل بين بلدانها العديدة في الأناضول ونجد وعسير وشرقي نهر الأردن وغيرها. وبسقوط الدولة العثمانية عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، وقعت فلسطين في قبضة الاحتلال البريطاني. حينها كان الأب رئيساً لبلدية القدس وكان بيته هناك ملتقى لكل العرب الوافدين إليها، وكان صوت الرجل هو أول أصوات الاحتجاج التى خرجت إلى ساحة المواجهة مع الاحتلال البريطاني وأول من تنبه لخطورة وعد بلفور، فكانت دعوته إلى خروج الفلسطينيين في أول تظاهرة ضد الاحتلال البريطاني في عام 1920، ثم لم تتوقف دعواته إلى المقاومة حتى أصابته قوات الاحتلال تلك الإصابة الجسيمة بالهراوات فى آخر مظاهرة اشترك فيها في مدينة يافا عام 1934 والتي استشهد على إثرها بعد ذلك بأيام قليلة.

على خُطى أبيه
تلقى عبد القادر تعليمه الابتدائي فى مدرسة "روضة المعارف الابتدائية" ثم في مدرسة "المطران جوبات" فى القدس حيث حصل على شهادته الثانوية عام 1917 وانتقل بعدها إلى القاهرة لدراسة الرياضيات في الجامعة الأمريكية هناك. ولكنه وقف فى حفل تخرجه ليعلن تحفظاته على توجهات تلك الجامعة التي رأى أنها كانت تدعو إلى شرعنة وجود الاستعمار في البلاد العربية بما تبثه من أفكار في عقول الطلاب.

أثار خطابه غضب الجامعة ثم غضب الحكومة، فأصدرت قرارها برئاسة إسماعيل صدقي رئيس الوزراء، قضى بطرده من مصر عام 1932.

عاد عبد القادر الحسيني إلى فلسطين ليعمل مأموراً في دائرة تسوية الأراضي في بلدية القدس. ومنذ اللحظة الأولى لوصوله إلى هناك حاولت قوات الاحتلال استمالته بعرض المناصب الرفيعة عليه، ولكنه استقال من عمله في البلدية وانخرط في عمليات المقاومة ضد الاحتلال، فشارك في تشكيل كتائب "الجهاد المقدّس" المسلحة. وخاض عدداً من العمليات العسكرية التي تعززت واشتدت بقدوم المناضل السوري "سعيد العاص" إلى فلسطين رفقة بعض زملائه، فلازمه عبد القادر وقاتل إلى جواره حتى استشهد في معركة "الخضر" عام 1936، والتي نشبت بين 120 من المقاومين وبين أكثر من ثلاثة آلاف من جنود الاحتلال الذين كانوا معززين بالطائرات والآليات، ووقعت بين قريتي الخضر وحوسان قرب بيت لحم.

عز الدين القسام: نقطة فاصلة
ألقت القوات البريطانية فى تلك المعركة القبض على عبد القادر الحسيني عقب إصابته، ولكنه تمكن من الفرار إلى سوريا ليستكمل علاجه هناك، ثم رجع متسللاً إلى فلسطين مرة أخرى ليعاود القتال مجدداً في صفوف الثورة المسلحة والتي عُرفت لاحقاً ب"الثورة الكبرى"، وهي تلك الانتفاضة الشاملة التي قام بها الفلسطينيون ضد الإدارة البريطانية للمطالبة بالاستقلال وإنهاء سياسة الهجرة اليهودية المفتوحة وشراء الأراضي.

أنبت هذه الثورة المناضل السوري عز الدين القسّام، الذي كافح بلا كلل في فلسطين منذ بداية تأسيسه لعصبته المسلحة التي قاد بها جهاده لمناهضة الاحتلال البريطاني والتوسع الصهيوني، عقب ما عُرف بثورة "البراق" وحتى استشهاده فيما بعد في معركة قرية "يعبد" عام 1935.

أشعل استشهاد القسام غضب الشارع الفلسطيني وأجج ثورته، كما أنه ألهم عبد القادر الحسيني ضرورة أن يمتد طريق النضال إلى غايته المحتومة بلا كلل، فواصل المقاومة، ولكنه أصيب مجدداً فى معركة مع القوات البريطانية فى منطقة "بنى نعيم" فنُقل سراً إلى المستشفى في مدينة الخليل لتلقي العلاج، ولكنه تعرض لمضايقات أمنية وملاحقات مستمرة من قوات الاحتلال، فتمكن بمعاونة رفاقه من الفرار إلى سوريا ثم العراق، وهناك التحق بدورة عسكرية خاصة لضباط الاحتياط في بغداد، ليتخرج فيها بعد ستة أشهر برتبة ضابط، ثم عمل مدرساً للرياضيات في الكلية الحربية في "معسكر الرشيد" وكذلك في التدريس بإحدى المدارس الثانوية.

ثائرٌ حيثما حل
في العراق شارك الحسيني في ثورة "رشيد عالي الكيلاني" ضد الوصي على عرش العراق الأمير "عبد الإله" ورئيس الوزراء "نوري السعيد"، وشارك مع رفاقه فى قتال القوات البريطانية. وفي أعقاب فشل الثورة وُجهت إليه وإلى رفاقه تهمة اغتيال "فخري النشاشيبي" التي سجن على إثرها لمده ثلاث سنوات في معتقل "العمارة" في العراق قبل أن تفرج عنه الحكومة في أواخر عام 1934 بوساطة من الملك عبد العزيز، ملك السعودية.

أقام الحسيني مع أسرته في ضيافة الملك عبد العزيز بضعة شهور، انتقل بعدها إلى ألمانيا للتدريب على صنع المتفجرات وتركيبها واستخدام الأسلحة المختلفة، لينتقل بعد ذلك مع أسرته إلى مصر كما أسلفنا. وقضى تلك الفترة في جمع الأسلحة من شيوخ الصحراء وتدريب عدد من الفلسطينيين والمصريين على صنع المتفجرات وحمل السلاح، وأنشأ لذلك معسكراً سرياً قرب الحدود الليبية بالتعاون مع قوى وطنية مصرية شاركت فيما بعد في حرب فلسطين وفي النضال ضد المحتل البريطاني في منطقة القناة.

لم تنقطع صلة الحسيني بفلسطين في أي وقت، فاستمر تواصله مع أمين الحسيني قائد "الهيئة العربية العليا" ومفتي فلسطين، من أجل تسهيل حركة المقاوِمين على الجبهات هناك، كما تواصل مع الزعماء والمشايخ والقادة داخل فلسطين للغرض نفسه. وفي تلك الفترة استطاع إقامة محطة إذاعية في رام الله للتواصل مع المجاهدين وحثهم على مواصلة النضال ضد العدو، كما تمكن من إنشاء وتدريب فريق مخابرات لجمع المعلومات عن أسرار وخفايا العدو.

فى التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي قضى بإنهاء الانتداب البريطاني وتقسيم فلسطين. وعلى إثر صدور ذلك القرار عاد عبد القادر الحسيني إلى فلسطين فى كانون أول / ديسمبر 1947 متسللاً من الحدود المصرية. وبمجرد وصوله قام بإعادة تشكيل "قوات الجهاد المقدس" واختير قائداً عاماً لها. وهي القوات التي تمكنت من إلحاق خسائر كبيرة في القوات الصهيونية، فقامت بنسف مقر قيادة الحركة الصهيونية في مدينة القدس، كما تمكّنت من الهجوم المنظّم على عدد من المقرات الأخرى. وهذا علاوة على انتصارها الكبير فى معركة "صوريف"حيث استطاع الحسيني مع رفاقه القضاء على عددٍ كبير من قوات العصابات الصهيونية والاستيلاء على معداتهم.. ثم قاد ببسالة معارك فى بيت سوريك ورام الله والنبي صمويل واللطرون ومعركة بيت لحم الكبرى...

خذلان قديم .. جديد
لكن سلاح المقاومة كان ينفد بشكل متسارع أمام أسلحة العصابات الصهيونية التى كانت تزداد يوماً بعد يوم، وكان لا بد من تعويض فارق التسليح بالحصول على سلاح جديد وفي وقت قصير للغاية، لأن المعارك لم تتوقف قط. فتوجه عبد القادر إلى سوريا حيث مقر اللجنة العسكرية للجامعة العربية والتي كانت تخضع لإشراف "طه الهاشمي"، وطلب منه توفير السلاح اللازم للمقاومة، ولكن طلبه قوبل بالرفض.

في ذلك الوقت، جاءت الأنباء من فلسطين بسقوط قرية القسطل غربي القدس وتحكّم العصابات الصهيونية بطرق مواصلاتها، مما يعني أن القدس نفسها قد صارت مهددة بالسقوط. خاطب عبد القادر المسؤول عن اللجنة قائلاً "نحن أحق بالسلاح المخزّن من المزابل! القسطل حصن منيع ولا يمكن استرجاعها بالبنادق الإيطالية والذخائر القليلة التي بين أيدينا. اعطني السلاح الذي طلبته وأنا أستردها". ولكن طلبه رُفض مجدداً واتهمه أعضاء اللجنة بالحماس الزائد والاندفاع غير المحسوب، فقال "سيسجّل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين، سأسترد القسطل وسأموت أنا وجميع إخواني المجاهدين قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم."

عاد الحسيني إلى القسطل مباشرة في منتصف ليلة الثامن من نيسان/ أبريل 1948 وهو يحمل معه عدداً قليلاً من البنادق والذخائر، في الوقت الذي كانت عصابات الهاغانا الصهيونية قد أحكمت سيطرتها على القرية بالكامل، ونكّلت بسكانها وهجّرتهم. وهو استطاع أن يدخل القرية برفقة 56 من رفاقه الذين انضموا إليه وشنوا هجوماً شاملاً بأسلحتهم التقليدية البسيطة ومدفع هاون عيار بوصتين. ما لبثت الأسلحة أن نفدت أمام حشد الأسلحة الكثيف للعدو، وسرعان ما تم تطويق عبد القادر ورفاقه الذين قاتلوا ببسالة يصعب تصديقها.

انتهت المعركة بمقتل 150 صهيونيّاً وسقوط عشرات الجرحى منهم. ولكن الثمن فى تلك المرة كان فادحاً بسقوط عبد القادر الحسيني شهيداً أمام أول بيت من بيوت القسطل. وكان قد أرسل قبلها بيومين رسالة إلى أمين عام الجامعة العربية في القاهرة يقول فيها: "السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية، إني أحمِّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح".

مات عبد القادر الحسيني وهو يحمل تلك الغصة التي لا زلنا نحملها فى حلوقنا جميعاً بعد أن قدّم الإجابة الوافية لهؤلاء الذين ما زالت تتملكهم الدهشة من مواقف الحكام العرب مما يجري في فلسطين حتى اليوم، وكأنهم يسلّمون رايات التواطؤ إلى بعضهم البعض، كما تسلم رموز المقاومة رايات البسالة والشرف.