بقلم: شرحبيل الغريب
يقوم وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن بزيارة للمنطقة هذه الأيام تشمل السعودية ودولاً عربية و"إسرائيل". الجديد في هذه الجولة الخامسة له للمنطقة منذ بداية الحرب على قطاع غزة هو هدف وتوقيت الزيارة الذي يأتي بعد أكثر من 122 يوماً من حرب إسرائيلية وحشية مستمرة، فماذا يحمل بلينكن في جعبته؟ وما الهدف من بدء جولته في السعودية تحديداً، ثم زيارته دولاً أخرى هذه المرة؟
ظاهرياً، تأتي زيارة بلينكن في وقت يدور الحديث عن رغبة أميركية ودولية تبذل لتحقيق هدنة جديدة بين حركة حماس و"إسرائيل" بهدف إبرام صفقة تبادل للأسرى تضمن الإفراج عن كل الأسرى الموجودين لدى المقاومة في قطاع غزة.
باطنياً، القضية أعمق من ذلك بكثير وأكبر من تهدئة وصفقة تبادل للأسرى، فما كشفته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية يعكس هدف وجوهر الزيارة الحقيقي الذي يسعى بلينكن لتحقيقه في المنطقة.
تكشف الصحيفة أن بلينكن يحمل في جعبته مشروعاً أميركياً يعمل على تسويقه بهدف إنقاذ "إسرائيل" من ورطتها في قطاع غزة بعدما هزم جيشها وأصبح أمام حقيقة مفادها أن لا طريق للانتصار عسكرياً في هذه الحرب، كما يدعي نتنياهو.
جوهر المشروع الأميركي يعدّ أحد أهم مخرجات قمة باريس الأمنية التي عقدت مؤخراً بحضور رؤساء من المخابرات العربية والأميركية والأوروبية، ويعكس وجهة نظر الرئيس الأميركي جو بايدن تحديداً، ويعد مخرجاً لما يجري في قطاع غزة، وينص على صفقة كبيرة تتجاوز إبرام صفقة تبادل للأسرى، وتتضمن 5 مراحل متتالية، تبدأ بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة في قطاع غزة في مقابل تحرير أسرى فلسطينيين، وإقامة سلطة جديدة في قطاع غزة بمشاركة السلطة الفلسطينية، والتقدم بفكرة حل الدولتين، وتطبيع العلاقات مع السعودية، وإقامة محور قوي ضد إيران في المنطقة يضم ما يصفهم بالدول العربية المعتدلة و"إسرائيل".
ما تفكر فيه إدارة بايدن من وراء تسويق هذه الصفقة السياسية يعدّ بيع وهم وورقة انتخابية للرئيس الأميركي بايدن بالدرجة الأولى بهدف إرضاء الصهيونية في أميركا، ومنح نتنياهو مكسباً سياسياً يحميه في اليوم الثاني بعد انتهاء الحرب، في وقت باتت الإدارة الأميركية تدرك أن "إسرائيل" متعثرة في قطاع غزة، وعاجزة عن تحقيق أي من أهدافها، ومفككة من الداخل، وقادتها يتصارعون، والانشقاقات فيها تزداد يوماً بعد الآخر.
المشروع الأميركي الذي يسوقه بلينكن هو لغم سياسي بامتياز، وهو في جوهره يعد وصفة أميركية تضمن خروج "إسرائيل" بصورة المنتصرة من مأزق غزة، والمطلوب من العرب عامة، والسعودية خاصة، العودة والانخراط في مشروع التطبيع في مقابل التزام إسرائيلي بعملية تفاوضية لحل الدولتين، أي بمعنى أعمق وأدق وعود بلا ضمانات.
مثل هذا المشروع هدفه الأساسي هو محاولة القضاء على جذوة المقاومة التي أذلت "إسرائيل" منذ السابع من أكتوبر، والتي ما زالت تمرغ أنف جيشها في التراب، رغم مرور أكثر من 4 أشهر من الفشل وتكبد الخسائر عسكرياً وسياسياً واجتماعياً داخلياً وخارجياً، والتي ستظهر آثارها بعد انتهاء الحرب الدائرة.
منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية، التزمت "إسرائيل" بقيام دولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967.
ومنذ ذلك التاريخ، تضرب عرض الحائط بكل التعهدات والالتزامات الذي يجري الحديث عنها مجدداً، وتواصل سرقة الأرض وبناء المستوطنات والسيطرة على المقدسات الإسلامية والمسيحية. وقد أصبح الواقع مستحيلاً لمشاريع كهذه، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل تقبل السعودية الانخراط في اللعبة الأميركية؟
من الواضح أن "إسرائيل" تعطي أهمية كبيرة للمشروع الأميركي الذي يمنحها صورة نصر سياسي، والذي تدرك أهميته في وقت تعيش الهزيمة والانكسار.
لذلك، أرسل نتنياهو سراً الوزير الإسرائيلي في حكومته رون ديرمر الذي يعد الوزير الأقرب له إلى واشنطن لمناقشة ملف التطبيع مع السعودية، وهو الأمر الذي كشفت عنه صحيفة معاريف الإسرائيلية، فيما عزز هذا المسار مدير عام معهد "إسرائيل" لدراسات الأمن القومي، الذي صرح للقناة 12 الإسرائيلية بشكل واضح أنه يتوجب النظر إلى مشروع إطار الاتفاق الذي يسوق له بلينكن بالإفراج عن أسرى فلسطينيين ضمن صفقة تبادل بشكل أوسع وأعمق إذا ما تضمن التطبيع مع السعودية واستقرار في المنطقة.
الحقيقة التي تتغافل عنها إدارة بايدن أنها فجرت كل جبهات الصراع في المنطقة، وأشعلت حرباً ضروساً بإطلاق يد "إسرائيل" في قطاع غزة لارتكاب جرائم حرب بدعم لا محدود، ثم واصلت إشعال جبهتي لبنان وسوريا من جهة، وجبهتين ثانيتين في اليمن والعراق. وسابقاً، أشعلت جبهة مع روسيا بدعمها العسكري لأوكرانيا، وهي تعيش الآن هوس التطبيع مع السعودية، وتدق باب نتنياهو لإقناعه بقبول مسار تفاوضي جديد يوصل إلى حل الدولتين لإقناع السعودية بالانخراط في مشروع التطبيع في محاولة لإعادة إحياء هذا المسار الذي قضى عليه طوفان الأقصى.
الحقيقة التي تحاول إدارة بايدن إغفالها وتجاهلها هي أن النار التي أشعلتها في هذه الجبهات أوصلت المشهد في المنطقة إلى وضع جديد عنوانه لا يمكن تجاوزه، فلا مجال لعودة السلم والاستقرار إلا بوقف شامل وكامل للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ورفع الحصار وإعادة الإعمار وإطلاق سراح الأسرى.
ولتكتمل الصورة، فإن الحقيقة التي يجب أن تكون أكثر وضوحاً بعد أكثر من 122 يوماً هي أن شوكة المقاومة التي طلبت أميركا من "إسرائيل" القضاء عليها لم تنكسر، وما زالت يدها العليا، وأن "إسرائيل" تترنح وتلقت وتتلقى هزائم كبيرة في قطاع غزة وفي الجبهات الأخرى في لبنان واليمن، بعدما تفاجأت بمقاومة فلسطينية قوية شرسة وسند خارجي من حزب الله والقوات المسلحة اليمنية في اليمن، وهي في طريقها لهزيمة استراتيجية على المستويات كافة، فمعركة طوفان الأقصى شكّلت معجزة أعادت إلى القضية الفلسطينية روحها التي كانت تنزعها صفقة القرن، وأسقطت كل مشاريع التطبيع إلى الأبد.
أما إيران التي تحشد أميركا ضدها "حلفاً عربياً معتدلاً"، كما تسميه، فقد أثبتت كل المراحل فشل مثل هذه المشاريع في وقت باتت دولة قوية محورية مؤثرة في المنطقة يصعب النيل منها.
المصدر: الميادين