بقلم: أ.د. طالب أبو شرار
في حالات الكوارث الطبيعية، بعد أن ينحسر الطوفان مخلفا الدمار والخراب يظن المشاهد أن تلك هي النهاية. لكن، وبعد بضع سنين تعود الحياة من جديد وتختفي آثار الخراب لتزدهر أشكال الحياة المتعددة وتختفي ملامح الدمار تحت غطاء يضج بالحياة والألوان الزاهية. هذا بالضبط ما ستشهده غزة بعد الهجمة الصهيونية المتوحشة. فبالرغم مما تتناقله وسائل الإعلام المختلفة حول مصير القطاع بعد أن يهدأ الطوفان فإنني أعتقد جازما أن الخاتمة ستكون غير ما تشتهيه الأوساط الصهيونية. فعوضا عن أن يجرف الصهاينة معالم الحياة من القطاع جرفت أمواج الطوفان الفلسطيني كل أساطير بني صهيون التي روج لها الإعلام الغربي مرارا وتكرار. لن أجادل في هذا المجال لأنني لست خبيرا سياسيا أو عسكريا لكنني بحكم عملي العلمي أستطيع أن أربط العوامل الفاعلة بعضها ببعض وأن أتوقع شكل النهاية التي ستؤول اليها الأحداث. يجمع الخبراء السياسيون على أن ما جلبته أمواج الطوفان من متغيرات عاصفة لا يمكن أن تنتهي بنهاية الطوفان. ستتكسر رماح الصهاينة على أسوار صمود غزة وستخرج غزة مرفوعة الهامة، أبية، شامخة رغم جراحها الدامية. لقد علمتنا دروس التاريخ أن الحروب لا تفني الشعوب بل هو الاستسلام الذي يفنيها. ليس مهما أن يبقى الجسد حيا فالمهم هو بقاء الروح الإنسانية، بقاء الذات الإنسانية الموروثة جيلا عقب جيل لغة وثقافة وحضارة ونبضا حيا. هذا هو حال غزة بل هو حال الشعب الفلسطيني بمجمله الذي يرفض الاستسلام لمشيئة الغزاة فيندثر إرثا وثقافة وتاريخا. في العام 480 قبل الميلاد تمكنت قوة صغيرة لا يتجاوز عديدها 1400 مقاتل ضمت فقط 300 مقاتل إسبارطي من تحقيق نصر مؤزر على الجيش الفارسي في معركة عرفت باسم ثيرموبيلا. بعد عام واحد، أي في العام 479 قبل الميلاد، تمكنت إسبارطة أن تقود تحالفا اغريقيا وتهزم الجيش الفارسي مرة ثانية في معركة بلاتيا. ورغم صغرها، عددا وسكانا، صنعت هذه المدينة-الدولة معلما ومجدا للإغريق خلده التاريخ علما بأنها كانت على عداوة عميقة مع شقيقتها الكبيرة، مدينة أثينا التي وقفت تتفرج على ما يحدث. تذكرني وقفة إسبارطة أمام الغزو الأجنبي لبلادها بما يحدث اليوم مع أهلنا في غزة، هذه المدينة الصغيرة التي حملت لواء الأمل والعزة والدفاع ليس فقط عن فلسطين بل عن كل المضطهدين في العالم. فرغم تدمير البنى التحتية من مدارس ومستشفيات ومؤسسات عامة وشوارع ومبان ورغم تجريف الخيام بما فيها من مصابين وأطفال ومرضى ورغم المذابح والتقتيل والإجرام الصهيوني غير المسبوق في التاريخ الإنساني، رغم كل ذلك تقف غزة شامخة في وجه البغي والعدوان المرتكز على دعم غير محدود من قوى الشر العالمية. تقف غزة مدافعة عن حقوق جمهورها الإنساني وتستصرخ الضمائر ليس من أجل النجدة بل من أجل وقف مذبحة المدنيين المسالمين الذين تفتك بهم الذئاب المسعورة الى جانب الجروح والعراء وقسوة الشتاء والجوع والعطش.
قبل نحو خمسة وسبعين عاما، قال ديفيد بن جوريون، الإرهابي والمهاجر البولندي غير الشرعي الى فلسطين، متنصلا من جرائمه بحق الشعب الفلسطيني: الكبار يموتون والصغار ينسون! كلا! لم ولن يموت الشعب الفلسطيني! عندما تسأل طفلا فلسطينيا صغيرا من أين أنت؟ يجيبك على الفور من المسمية قضاء يافا أو من الدوايمة قضاء الخليل أو من المنسي قضاء حيفا. هو لا يعرف بلدته بل يسمع عنها من الكبار فيتيم بها حبا ويراها في خياله جنته الموعودة التي لا بد أن يعود اليها ذات يوم. فإذا عدنا الى غزة لا بد من التذكير بأنها كانت دوما شوكة عصية في حلق بني إسرائيل. من يقرأ العهد القديم يكتشف عناد وبسالة وجبروت غزة في وجه الغزوة اليهودية الأولى التي لم تصل قط الى كل الساحل الفلسطيني. بالمناسبة، حديث الصهاينة عن فلسطين اليوم هو حديث زائف ففلسطين التي يستوطنونها اليوم ليست هي فلسطين الأمس. خارطة فلسطين المعاصرة رسمتها الحركة الصهيونية وفاوضت على حدودها القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية المنتصرة على الدولة العثمانية في أعقاب الحرب الكونية الأولى إذ يمكن للمدقق ملاحظة أصبع الجليل الممتد شمالا والذي كان لا بد من جعله فلسطينيا لأنه يكتنف موارد نهر الأردن المائية (الدان وبانياس والحاصباني). فلسطين العثمانية لم تكن كذلك وفلسطين بعد الفتح الإسلامي لم تكن تلك العثمانية بل كانت القسم الجنوبي من فلسطين وشرق الأردن المعاصرين بدءا من القدس الكنعانية العربية وانتهاء بأيله. غزة العزة هي إذن مدينة فلسطينية أبا عن جد وكما هي غزة هي كل فلسطين الماضي والحاضر، بلاد منفتحة على الغريب الأديب وهي خصم شرس لكل غاز دخيل. قبيل معركة عين جالوت (1260) توافد الفلاحون الفلسطينيون الى موقع الحشد المملوكي مطالبين السلطان الظاهر بيبرس بالسماح لهم بالمشاركة في المعركة المرتقبة ضد التتار. لقد أشفق عليهم الظاهر بيبرس عندما عرف بأنهم فلاحون بسطاء لا يتقنون فنون القتال لكنه لم يشأ ردهم كسيري الخاطر فقال لهم: لكم ذلك لكنكم ستعملون في الأمور غير القتالية وسنعزز قواتنا بالجنود الذين ستحلون محلهم في أمور رعاية الجرحى والحراسة والعناية بالخيل واعداد الطعام. أولئك هم الفلسطينيون: لا يقادون الى الحرب بل يفزعون اليها إن دعاهم الواجب الى ذلك.
ستضع ملحمة غزة إزارها وأنا على يقين أن حدود غزة لن تتقلص بل ستعود الى ما كانت عليه قبل اقتطاع غلافها بموجب ما سمي اتفاقية التعايش والتي بقيت سرا الى أن سجلت في وثائق مجلس الأمن في 17 آذار 1950. وقعت تلك الاتفاقية سرا في منطقة العوجا المحايدة آنذاك وبدون علم أهل غزة ولم تنشر في الصحافة العربية أو الدولية وتم بموجبها اقتطاع نحو 200 كيلومتر مربع من مساحة القطاع بحجة وقف تعديات مواطني غزة على الجنود الإسرائيليين. ما تعانيه اليوم غزة الإباء هو مسلسل مديد من المعاناة والصبر والمجالدة مع القوى الصهيونية الغاشمة ففي الفترة الممتدة بين يومي 26 و31 كانون الأول (ديسمبر) من العام 1948 قصفت إسرائيل جواً مستشفيات ومواقع مدنية في قطاع غزة. وجاء في هذه التقارير تفصيل بتاريخ 2/1/1949 أن 4 طائرات إسرائيلية أغارت على مركز توزيع المؤن في خان يونس فدمرته وقتلت 30 مدنياً وجرحت 70 آخرين. كما جاء في التقرير الشهري للصليب الأحمر عن ذات الشهر أنه في يوم الأحد 9/1/1949 قُصف مركز توزيع المؤن في دير البلح الذي كان مكتظا باللاجئين الفلسطينيين فاستشهد مائة وخمسون مدنيا بريئا. اللاجئون أولئك هم مئتا ألف فلسطيني هجروا من بيوتهم وقراهم بعد ترسيم خط الهدنة في جزيرة رودس في 24/2/1949فتجاوزته العصابات الصهيونية واحتلت خمسة آلاف كيلومتر مربع إضافية من الأراضي المجاورة لقطاع غزة مما ترتب عليه تهجير أبناء 247 مدينة وقرية فلسطينية ودفعهم بالقوة الغاشمة باتجاه قطاع غزة الذي لم يتجاوز تعداد أبنائه آنذاك ثمانين ألف مواطن. بمعنى آخر، ازداد تعداد سكان القطاع فجأة بمقدار 350%.
مجازر الصهاينة اليوم في غزة هي عمليات ممنهجة لدفع أبناء القطاع للهجرة خارج الحدود الفلسطينية ولكن هيهات أن يتحقق ذلك وسيكتب لهذه المحاولة ذات الفشل الذي انتهت اليه مجازر اليوم. ما يثير اشمئزازي هو حديث الساسة الصهاينة عن مغريات الهجرة الفلسطينية متناسين أن من يتوجب عليه مغادرة هذه الأرض المباركة هم الصهاينة الدخلاء وليس أبناء الأرض الشرعيين. وكعادتهم، يتلاعبون بالمفردات والتعابير اللغوية فيقولون عن ذبح النساء والأطفال حربا. هو ذات الأسلوب الذي استخدمه رعاتهم الاستعماريون في البلاد التي احتلوها قهرا وظلما وأطلقوا على مقاوميهم ذات الألفاظ التي يستخدمها صهاينة اليوم. حقا لا أعرف إن كان هناك منطق لنطلق كلمة “جيش” على تلك العصابة الصهيونية المسلحة فالجيش هو مؤسسة عسكرية تنضبط لقواعد اشتباك مع الآخر. في كل جيش، تصف تلك القواعد متى وكيف والى أي مدى وضد من تستعمل تلك القوة. حتما لا تجيز قواعد الجيوش ذات التقاليد العريقة الانكفاء من المعركة باتجاه المدنيين أو ممتلكاتهم بل تجرم مثل تلك الأفعال الشنيعة. ما يطلقون عليه “الجيش الإسرائيلي” ليس سوى عصابة مسلحة لا ضوابط لعنفها ووحشيتها ففي اللحظة التي تعجز فيها عن انجاز نصر عسكري تلجأ لاغتيال الشخصيات المعادية وتنكفئ باتجاه المدنيين محدثة قتلا وتدميرا غير مسبوقين. في هذا المجال، أستطيع سرد قائمة لا نهاية لها من مجازر تلك العصابة المسلحة بحق أطفال المدارس والمدنيين الأبرياء بدءا بمذابح الفلسطينيين المتعاقبة منذ قرن ونيف ومرورا بمذابح السوريين والأردنيين واللبنانيين والمصريين وركاب الطائرة الليبيين والقائمة تطول. لا غرابة إذن في أن يسلك “الجيش الإسرائيلي” هذا المنحى الإجرامي لأنه تشكل بداية من منظمتين إرهابيتين هما ا”لأرجون” وهي منظمة إرهابية يهودية بولندية النشأة والتدريب والتسليح وهي المسؤولة عن تفجير فندق الملك داود في القدس الفلسطينية بتاريخ 22/7/1946 أي قبل إنشاء ما يعرف “بإسرائيل” بنحو عامين. ترأس تلك المنظمة المجرم مناحيم بيجن الذي ولد في روسيا البيضاء وأصبح سادس رئيس لوزراء “إسرائيل” في العام 1977. أما المنظمة الإرهابية الثانية فهي “شترن” وهي أيضا بولندية المنشأ وقد اشتركت مع “الأرغون” في تنفيذ مذبحة دير ياسين، تلك القرية الفلسطينية المجاورة للقدس في 9/4/1948. لا عجب إذن في ألا ينزع ذلك “الجيش” جلده الإجرامي رغم كل محاولات التمويه على ذلك. نحن العرب المسلمين كنا روادا في احترام قواعد الحرب واعتبار العدو خصما إنسانيا وليس وحشا كاسرا هو وكل محيطه الإنساني وبالتالي، لا بد من إفنائهم جميعا. ستضع ملحمة الصمود الفلسطيني أوزارها ولن ينتهي الشعب الفلسطيني في غزة قتلا أو تهجيرا. سينهض أبيا رافع الرأس من بين الركام والرماد وسيطالب هذه المرة بحقوقه المسلوبة من أرض قطاع غزة وسيطالب أيضا بمحاكمة مجرمي الحرب وداعميهم أيا كانت بلدانهم ومراكزهم. غزة الصمود والإبداع التي علمت العالم دروسا في الإصرار والعناد والتضحية والرجولة والعسكرية الفذة والإبداع الإنساني اللامحدود ستحيل ما يبدو اليوم دمارا وركاما وكارثة بيئية الى إبداع وإنجاز انساني وبيئي لا يقل إعجازا عن أسطورة السابع من تشرين الأول. سيستخدم ركام الدمار الصهيوني المغولي الى مواد إنشائية يبنى بها حيد بحري عظيم يضم ميناء عميقا وفسيحا ومزارع أسماك وجزرا ترفيهية وفنادق سياحية. سيكون هناك على شاطئ البحر الجديد نصب تذكاري ضخم يخلد الى الأبد قصة الصمود الأسطوري لغزة في وجه الطغاة الصهاينة. ستنقش على ذلك النصب أسماء كل الشهداء وأعمارهم وسيصبح ذلك النصب محجا لكل أبناء الحرية في العالم وستحيا غزة رغم أنف الغزاة الصهاينة الزائلين حتما.
كاتب اردني
المصدر: رأي اليوم