بقلم: حسن لافي
ينتشر الحديث داخل النقاش الإعلامي والسياسي في" إسرائيل" عن مستقبل غزة ما بعد الحرب، ولكن لا يطرح أحد السؤال بشكل عكسي: ما مستقبل" إسرائيل" ما بعد تلك الحرب؟
هل يمكن أن يعود كما كان عليه قبل السابع من أكتوبر عسكرياً وسياسياً؟ من الممكن القول إن معركة طوفان الأقصى أحدثت تغيرات جوهرية في "إسرائيل" من الناحية الإستراتيجية لمصلحة القضية الفلسطينية، يمكن تقسيمها على مستويين:
الأول: على المستوى السياسي
انهارت إستراتيجية إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال عقيدة اللاحل التي انتهجها نتنياهو طوال فترة حكمه منذ عام 2009، والتي اعتمدت على عدم إيجاد حل إستراتيجي للقضية الفلسطينية، فرغم خطاب جامعة "بار إيلان"، الذي تبنى به نتنياهو حل الدولتين للمرة الأولى، ولكنها كانت المرة الأخيرة أيضاً، استمر في إبعاد القضية الفلسطينية عن أولويات سلم الأجندة السياسية الإسرائيلية والتقليل من أهمية إيجاد حل لها، تحت مبرر أنه يمكن تأجيلها لأجل غير مسمى من دون أن يؤثر ذلك في الأمن القومي الإسرائيلي، وخصوصاً بعد حدوث الانقسام الفلسطيني واستمراره أكثر من 16 عاماً.
وذهب نتنياهو إلى التنظير إلى أنه يمكن القفز عن القضية الفلسطينية وتجميدها بالكامل في ظل سياسات إسرائيلية في الضفة وغزة تديم الانقسام من جهة، وتفرض واقعاً استيطانياً تهويدياً من جهة أخرى، وبالتالي فتح الطريق أمام التطبيع العربي مع "إسرائيل" دون الحاجة إلى المرور عبر حل القضية الفلسطينية، كما تنص المبادرة العربية للسلام عام 2002، وهذا هو جوهر اتفاقات "أبراهام" التطبيعية التي تفاخر نتنياهو بأنها درة نتاج إستراتيجية إدارة الصراع الفلسطيني من دون حله.
اعتمدت سياسة إدارة الصراع وعقيدة اللاحل لنتنياهو على نقض الفرضية السائدة لدى المجتمع الدولي ودول الإقليم بأن القضية الفلسطينية مفتاح للسلم والحرب في الإقليم، وأن لها تأثيرات كبيرة في استقرار منطقة الشرق الأوسط التي تعد من الأقاليم الأكثر أهمية للسياسة والاقتصاد العالمي.
لذلك، سوق نتنياهو للأميركين والأوروبيين وبعض الدول العربية والإقليمية أن هناك إمكانية لإنشاء مشاريع إقليمية ودولية كبرى تكلف تريليونات الدولارات تتعاون بها "إسرائيل" مع بعض الدول العربية والإقليمية، بعيداً من أي تأثيرات سلبية لعدم حل القضية الفلسطينية.
ثانياً: على المستوى العسكري
يوم السابع من أكتوبر يعدّ يوم إعلان فشل إستراتيجية "المعركة بين الحروب"، وكل أساليبها المعتمدة على احتواء التهديدات المحيطة بـ"إسرائيل" من خلال مواجهتها بشكل منخفض الوتيرة عسكرياً وأمنياً من دون أن يتدحرج ذلك إلى حرب شاملة مع غزة أو مع حزب الله.
لذلك، استخدمت "إسرائيل" سياسة جز العشب العسكرية تجاه قطاع غزة من خلال نظرية الجولات العسكرية (التصعيدات) خلال العقد الماضي لخفض القدرات العسكرية لدى المقاومة للدرجة المقبولة إسرائيلياً، إضافة إلى سياسة الاحتواء السياسي من خلال الأمن مقابل تخفيف الحصار المفروض على اثنين مليون ومئتي ألف فلسطيني في غزة.
وفي الجبهة الشمالية، حافظت "إسرائيل" على قواعد الاشتباك مع حزب الله التي كرستها نتائج حرب تموز 2006، والاعتماد على تكتيكات استراتيجية المعركة بين الحروب الأمنية والعسكرية والضغوط الاقتصادية وافتعال الإشكالات الداخلية وغيرها. كل ذلك مع حرص إسرائيلي شديد على عدم تدحرج أي احتكاك مع حزب الله إلى حرب شاملة.
أحدثت إستراتيجية المعركة بين الحربين تغيرات على المحددات الرئيسية للعقيدة العسكرية الإسرائيلية وقواعدها المعتادة، إذ إن إستراتيجية المعركة بين الحروب تتناقض مع مرتكز الحسم العسكري للعدو، لكونها في جوهرها إستراتيجية إدارة صراع، وليست حسماً له، لأن هدفها الرئيسي تفادي الذهاب إلى الحرب الشاملة وخفض التهديدات بالقدر الممكن التعايش معه، وليس إزالته بالكامل من جذوره، الأمر الذي انعكس على تغير مفهوم الحسم العسكري الذي يعد أحد الركائز الثلاث التي تقوم عليها العقيدة العسكرية الإسرائيلية التقليدية، المبنية على تحقيق نصر ساحق للعدو في أي مواجهة معه، إلى درجة قتل رغبة مواصلة القتال لديه.
انتقال "إسرائيل" بعد 7 أكتوبر من إستراتيجية المعركة بين الحروب إلى إستراتيجية الحرب الشاملة ومفهوم الحسم العسكري الساحق وإزالة التهديد من جذوره يطرح علامة استفهام ضخمة حول قدرة "إسرائيل" وجيشها وجبهتها الداخلية على تحقيق هذا الانتقال الإستراتيجي الذي تنبثق منه العديد من الأسئلة الفرعية، من أهمها إلى متى ستبقى "إسرائيل" تقاتل، فبعد جبهة غزة تأتي الجبهة اللبنانية! بعد ذلك، هل تترك "إسرائيل" جبهة اليمن كجبهة تهديد بحرية وعسكرية؟
وبعد اليمن، أي من دوائر النار لمحور المقاومة المحيطة بها ستقاتل "إسرائيل"؟ وهنا يفرض سؤال آخر نفسه بقوة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية: كم من الوقت ستتحمل الجبهة الداخلية تبعات تلك الحروب وتكاليفها ودمارها؟ وهل تتحمل فعلاً من الأساس الجبهة الداخلية الإسرائيلية أن تبقى "إسرائيل" تعيش على أسنة حراب رماحها العسكرية؟
وهناك سؤال مرتبط بالتحالف الأميركي الإسرائيلي، فإلى متى ستبقى الولايات المتحدة الأميركية تدعم "إسرائيل" في كل تلك الحروب؟ ألن يتعارض هذا الدعم الأميركي اللامتناهي مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية كدولة عظمى في ظل تغيرات في خارطة المنظومة الدولية؟
وعلى فرض تحمل الجبهة الداخلية الإسرائيلية كل تبعات تلك الحروب، وأن الولايات المتحدة الأميركية وضعت مصلحة انتصار "إسرائيل" في كل تلك الحروب قبل مصالحها الأميركية الخاص بها كدولة وكشعب، واستطاعت "إسرائيل" حسم حرب غزة، ومن ثم حسم حرب حزب الله ومن بعده حسم حروب اليمن وسوريا والعراق، يبقى هناك سؤال مركزي أكثر خطورة وإستراتيجية بعد تلك الحروب التي على الأقل ستحتاج إلى سنوات من القتال، والآلاف من الخسائر البشرية، وستكلف الاقتصاد الإسرائيلي مئات مليارات الدولارات من الخسائر، وستؤدي إلى انهيارات اقتصادية كارثية: هل تكون "إسرائيل" في وضع يسمح لها مواجهة التهديد الإيراني الذي تعتبره التهديد المركزي، وكما يطلق عليه في الدوائر الإعلامية والعسكرية الإسرائيلية "رأس الأخطبوط"؟
ولكن يبقى مستقبل "إسرائيل" بعد حرب غزة مرهوناً بإدراكها أن إستراتيجيتها العسكرية والسياسية التي بنيت على إدارة الصراع سياسياً وعسكرياً دون حله ما كانت إلا وهماً كبيراً كان يسوقه المستوى السياسي، وخصوصاً بنيامين نتنياهو، صاحب أطول فترة حكم بين رؤساء وزراء "إسرائيل"، وصاحب تلك الفرضيات التي تلاشت في السابع من أكتوبر؛ اليوم الذي تفجرت به القضية الفلسطينية في وجهه وفرضت نفسها بقوة وحجزت موقعها الطبيعي في مقدمة سلم الأجندة الدولية والإسرائيلية في آن واحد، بل باتت إستراتيجية اللاحل الإسرائيلية وإدارة الصراع غير مقبولة لدى من تبقى من عقلانيين في المجتمع الإسرائيلي، والأهم لدى أطياف واسعة ومؤثرة داخل المجتمع الدولي على المستوى الرسمي والشعبي، وأنه دون حل ينهي معاناة الشعب الفلسطيني ويمنحه حقه بالحرية والاستقلال وإقامة دولته المستقلة، لا توجد أي قوة عسكرية، مهما تعاظمت غطرستها، يمكن أن تضمن استقرار منطقة الشرق الأوسط وسلمها وازدهارها.
المصدر: الميادين نت