2024-11-26 11:33 م

أبو القاسم الشابي يعود إلى الحياة

بقلم: محيي الدين عميمور
أقف اليوم وقفة تحليلية متعجلة لخبر نشرته “رأي اليوم” بالأمس عن تصرف مُعيب للبرلمان الفرنسي، الذي رفضت رئيسته أن تسمح بوقفة ترحم على ديبلوماسي فرنسي (فرنسيّ) قتل في رفح نتيجة لغارة همجية إسرائيلية.

ومن نافلة القول أن أذكّر بأن الأمر كان سينعكس لو أمكن لوكالة أنباء فرنسية أن تنسب مقتل الديبلوماسي لعناصر المقاومة الفلسطينية، فعندها لن يكتفي البرلمانيون هناك بوقفة ترحم بل سينظمون مسيرة على غرار مسيرة “شارلي هبدو” الشهيرة، ربما وضعوا (هُمْ) على رأسها عميد مسجد باريس، العربي المسلم، أو هكذا أظنه، وقد تحظى المسيرة الجديدة، على غرار المسيرة السابقة، بمشاركة قادة يحملون الجنسية العربية، من النوعية التي تتبرأ منهم حتى جاهلية قريش.

وليس سرّا أن وراء الموقف البرلماني سببان رئيسيان، أولها عقدة الذنب الفرنسية التاريخية بالنسبة لليهود، الذين عانوا الكثير في فرنسا خلال مرحلة الاحتلال الألماني، عندما تحولت أعداد كبيرة من الفرنسيين إلى “خبَرجيّة” يبلغون “الغستابو” النازي عن العناصر اليهودية التي كانت ذائبة في المجتمع الفرنسي، بالإضافة إلى الشرطة الفرنسية التي كانت “متعاونة” إلى أقصى حد مع النازيين، وعلى رأسها رينيه بوسكيه وموريس بابون، بدون أن ننسى الميليشيات التي أقسمت يمين الولاء لبطل فردان.

يُضاف إلى ذلك تخلف قادة فرنسيين عسكريين ومدنيين، من بينهم الاشتراكي البارو “ليون بلوم، عن دعم تحرك الجنرال “شارل دوغول” إثر خطابه الشهير في 18 يونيو 1940 من إذاعة الـBBC، والذي دعا فيه إلى رفض موافقة المارشال” بيتان” على قبول ما سُمّي يومها “هدنة”، وهو تعبير مؤدب عن قبول الاحتلال الألماني.

وهكذا نفهم سرّ تعاطف الرئيس الأمريكي “فرانكلان روزفلت” مع نظام “فيشي”، حيث كانت الصورة الظاهرة هي أن أغلبية الفرنسيين كانت مؤيدة لبيتان وتتظاهر هاتفة: نحن هنا، مارشال (Maréchal;nous voila).

ومع انتهاء الحرب استطاعت العناصر اليهودية، بعمل ذكي ومثابر ومتواصل، تعقيد المجتمع الفرنسي بالاتهامات المتواصلة التي تذكره صباح مساء بأنه كان، في معظمه، متعاونا مع المحتل، شريكا متحمسا له فيما اقترفه ضد اليهود، الغلابة المساكين!! .

وكانت قمة النفاق توحش المنتمين إلى مقاومة “ربع الساعة الأخير”، وتركيزهم،أمام الكاميرات، على حلق رؤوس عدد من النسوة ممن تركزت عليهن الاتهامات “بالتعامل” مع جنود الاحتلال، رغم أنهن كن مجرد مرتزقات همّهنّ “أكل العيش”.

وتجلت قوة التأثير الإسرائيلي على بلاد الجن والملائكة، كما سُمّيت يوما في مسلسل مصري، في تمكنه من إجهاض العهدة الثانية للجنرال دوغول، انتقاما من كلمات قالها عن العنجهية الإسرائيلية إثر مأساة يونيو 1967، ليكون ذلك درسا لكل فرنسي لا يتجاوب مع المزاعم الإسرائيلية.

وهكذا كانت أحداث مايو 1968، التي دفعت الجنرال الفرنسي إلى الاختفاء لساعات عند القوات الفرنسية الموجودة في “بادن بادن” الألمانية، تحت قيادة الجنرال “ماسو”، الذي كان له دور كبير في تشجيع دوغول على مواجهة انتفاضة الشارع الفرنسي، في أعقاب الشغب الذي أحدثه طلاب السوربون، بتحريض من “كوهن بندت، والاسم يدل على الهوية كما تدل البعرة على البعير.

وكانت شرارة الهيجان تافهة إلى حدٍّ لا يُصدق، فقد انطلقت، طبقا لما تردد، من غضب الطلاب نتيجة للفصل بين الذكور والإناث في المدينة الجامعية.

لكن معظم النار من مستصغر الشرر، خصوصا إذا كانت الـCIA ستنتهز الفرصة لاستثارة العمال برشاوى تكشف أمرها اليوم، وكان وراءَ هذا التحالف السافر بين الولايات المتحدة والتوجهات الصهيونية الغضبُ الأمريكي في عهد “جونسون” من موقف الجنرال دوغول تجاه الحلف الأطلسي، إلى جانب نجاحه في دخول النادي الذري بعد أن كان مقصورا على واشنطون وموسكو.

باختصار شديد، وقعت الساحة الفرنسية بشكل عام تحت تأثير عقدة الذنب اليهودية، وكان من أبرز عناصرها موقف القضاء الفرنسي من أي تشكيك في عدد ضحايا “الهولوكوست”، وأحكامه الغاشمة ضد مثقف في مستوى “جاك بيرك”.

وكان من بين مظاهرها قتل الممثل الفكاهي “ديودونيه” فنّيّا، والتهليل المستمر للمغني اليهودي ذي الأصل الجزائري، “أنريكو ماسياس”، الذي منعت الجزائر دخوله إلى أرضها إثر مساهمته في التظاهرات التي تمجد الكيان الإسرائيلي إثر هزيمة 1967.

والغريب هنا أن بلدانا عربية تضررت مما حدث في ذلك العام الأسود كانت في طليعة من احتضنوا ذلك المغني وفتحوا أمامه كل الأبواب، وهذا ما أصل به إلى السبب الثاني لفشل الجالية العربية والإسلامية من أن تكون عاملا مؤثرا على الأحداث.

ذلك أن وضعية جاليتنا في أوربا، وفي فرنسا على وجه التحديد، هي صورة صادقة ومعبرة عن شَرذَمة الوطن العربي والعالم الإسلامي، والتي حاول مدير المخابرات الفرنسية في عهد “جورج بومبيدو”، “الكونت دو مارانش”، استثمارها في السبعينيات بتكوين ما عرف بنادي “السافاري”.

ولقد ظلّت العلاقات العربية العربية على المستوى الفردي محكومة، غالبا، بحدٍّ معقول من التفاهم والتآلف، حتى بين رعايا بلدين متخاصمين مثل الجزائر والمغرب غلى وجه التحديد، وبرغم وجود عناصر تحريض، عربية في معظمها،  لا أرى داعيا للتوقف عندها.

لكن ذلك التفاهم توقف عند مستوى علاقات الجوار الإنساني، ومن هنا أسميه تفاهما سلبيا لأنه كان غير قادر على ممارسة تأثير إيجابي يدفع الشارع الفرنسي نحو التجاوب مع الأحداث لصالح النظرة العربية.

ومما لاشك فيه أن ما عرفه الوطن العربي منذ “كامب دافيد” وصولا إلى “أوسلو” كان العنصر الرئيسي في وضعية التشرذم التي تعرفها الجالية العربية، والتي ينطبق عليها اليوم تعبير”ألفٍ كأُفّ”، فهي عاجزة عن إحداث أي تغيير في المواقف الأساسية للقيادات الفرنسية.

وهكذا تميز تعامل الوطن العربي مع الواقع الفرنسي، في نظري، بنظرتين متناقضتين تميزت بغياب التنسيق الذي ينطلق من فهم طبيعة المجتمع الفرنسي وحقيقة التجاذبات التي يعرفها، خصوصا منذ سقوط الجمهورية الرابعة لفائدة الجمهورية الخامسة، التي لعب فيها “غي موليه”، وهو من نجوم الجمهورية الرابعة، دورا هاما لدعم الالتفاف حول شارل دوغول في 1958، وذلك بتشجيع أمريكي كان يعمل لتدمير الاتحاد السوفيتي، وعلى عكس ما حدث في 1968.

وكان لكل من النظرتين منطقها الذي أختار منه مثالين لبلدين.

كان الرئيس “أحمد بن بله”، وبعده “الرئيس هواري بو مدين”، على إدراك كامل لدور الشارع الفرنسي في الضغط على الجنرال دوغول، بعد أن فشل في تحقيق أي انتصار عسكري على قوات الثورة الجزائرية، وقالها الرئيس الفرنسي صراحة بأن “جزائر بابا” انتهت إلى الأبد.

وأعطاني عملي إلى جانب الرئيس بو مدين فرصة التعرف على سعة أفقه ونظرته البعيدة، حيث كان يحرص على إنشاء شبكة اتصالات مع كل التوجهات الفرنسية، باستثناء اليمين المتطرف وبقايا الجيش السري الذي عُرِف بشعار الـOAS.

وهكذا كان الرئيس، وبجانب استقباله للرئيس الفرنسي اليميني “جيسكارد ديستان”، يتواصل مباشرة مع شخصيات “الشهادة المسيحية” وعلى رأسها “جورج مونتارون”، وشخصيات المعارضة السياسية وفي مقدمتها “فرانسو متران”، الأمين العام للحزب الاشتراكي، و”جورج مارشيه”، الأمين العام للحزب الشيوعي، وشخصيات إعلامية بارزة من بينها بعض يهود الجزائر من أمثال “جان دانيال”، ونجم صحيفة “لومانيتيه”الشيوعية.. “روبير لامبوط”، بجانب صداقات شخصية مع كبار الإعلاميين من أمثال “بول بالطا” و”أنيا فرانكوس” و”بيير برنارد”، صاحب دار النشر “سندباد”.

وتقبل الرئيس باهتمام تدخلي لتنظيم لقاء بينه وبين وزير الداخلية الفرنسية الأسبق “جان بيير شوفينمه”، لكنه لم يتحمس للقاء الصحفي “جان بيير الكباش” (الذي توفي مؤخرا) بعد أن أخبرته أنه يريد “تلميع” أنريكو ماسياس بتنظيم حفل له في الجزائر.

وأتذكر يومها أن الرئيس بو مدين رشقني، وأنا أعرض عليه القضية، بواحدة من نظراته الغاضبة، ولم أكن في حاجة لأفهم أن عليّ أن أنسحب بدون أن أنطق بكلمة.

النظرة الثانية للتعامل العربي مع فرنسا كانت تعتمد على استعمال المال، ومن بينها شراء الطائرات الفرنسية، من طراز “ميستير”، وآخرها إراحة “الإليزيه” من عبء طائرات “رافال” وصداع حاملات الطائرات العمودية التي كانت موجهة أساسا للدب الروسي، وكان من أبرز عناصر هذه النظرة المساهمة في تمويل الحملة الانتخابية للرئيس ساركوزي.

هنا يأتي دور “طوفان الأقصى”، الذي يسخر بعض الأعراب من روعته ودوره التاريخي المزلزل، ليستروا تخاذلهم وتخنث مواقفهم وهم يدعون أن إطلاق سراح أسرى الكيان من المناضلين الفلسطينيين لا يُبرر العدد الهائل للشهداء الفلسطينيين الذي عرفتهم غزة والضفة.

وأعمى البصر والبصيرة هو من لا يرى أن مأساة غزة الموجعة إلى حدّ الجنون، جعلت الشارع الفرنسي، والشارع الأوربي، بل والأمريكي بوجه عام، ينتفض بدوافع وطنية داخلية، ويكتشف أن ساسته هم أسرى النظرة الصهيونية، وبأن الشعب الفلسطيني ثار من أجل حقوقه الشرعية بعد أكثر من سبعة عقود من الطغيان الإسرائيلي، وهكذا عادت الحياة إلى القضية الفلسطينية التي أراد العدو والصديق المشبوه طمسها إلى الأبد.

وإذا كان الشارع الفرنسي قد بدأ في تحرك استجاب معه أمثال “دوفيلبان” اليميني و”ميلانشون” اليساري وقطاعات كبيرة من الشباب، فنحن في انتظار تحرك الشارع العربي للقيام بما يقترب من أضعف الإيمان، وهو مقاطعة منتجات كل الشركات التي تدعم الطغيان الصهيوني، والتي بدأت ملامحها الأولى تثبت وجودها على الساحة.

وهناك أهم من هذا، لكنني أفضل ألا أخوض فيه، على الأقل حتى لا تتهم الصحيفة بأنها تفتح باب التحريض على القيام بأعمال عدوانية ضد القيادات العربية، مما يزيد حملات الكراهية ضدها.

وأتذكر كلملت الشابّي:

أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ  * ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ

وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ     *  ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ

هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ      * ويحتقرُ الميْتَ مهما كَبُرْ

فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ * ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ

وهل أذكر مرة أخرى بمصير باتستا وشاه إيران وموبوتو وبوكاسا وبينوشيه.