بقلم:خالد شــحام
في مقطع مصور من تلك التي تفرخت من مسرح الألم الفلسطيني المفتوح تطل علينا صبية فلسطينية وهي تحاور الكاميرا ومن خلفها ينطق الحال بالحال: أين هي المساعدات القادمة إلى غزة يا أيها المتبرعون ؟ هل تريدون معرفة مكانها؟ تشير بيدها: إنها هنالك في صحراء سيناء خلف معبر رفح حيث لا يستفيد منها أحد ! تتكلم الصبية لتصف لنا جزءا من حرب النكاية الأشد ألما بين ما تحتاجه بشدة وبين ذلك الشيء الذي يستلذ بمنعه والحيلولة دون الوصول إليه .
مشهد بسيط ولكنه معلق في عالم الملكوت السبع، ينتمي إلى منطقة الأعراف حيث تبقى الأشياء العالقة بين الجنة والنار، الهزل والجد او بين الموت والحياة والبكاء أو الضحك فلم يعد من فرق كثير بين كل هذه المتناقضات في زمن غزة التي أذابت كل السواتر والمعابر، زمن الارتقاء وزمن الانكشاف وزمن الحاخامات الذين أفلتوا من الكهف مرة واحدة بعد أن لبثوا فيه ألفا من السنين !
تشير التقارير المغطاة بالأكفان إلى تواجد ما يقارب 17 ألف شاحنة من المساعدات الغذائية والطبية والحياتية بكل صورها ، شاحنات ملقاة منذ أسابيع طويلة مملة في محطة انتظار أو سجن زماني اسمه رفح وتحت مسمى أنها قادمة للإنقاذ ، معبر مخصص ليقول بأن الإنسانية موجودة ولكنها محظورة على شعب فلسطين ، مخصص ليقول بأن المساعدات لا تختلف أحيانا عن أداء قذائف الطائرات ، معبر مفصل للذل في الزمن المنقوع بالذل والقهر بينما على الجانب الثاني ثمة حاجة قاتلة لهذه المساعدات تفتك بالأطفال والجرحى والذين أغرقهم المطروالتهبت جراحهم وانكمش عليهم الزمان ، معبر مثل معابر كثيرة مفصلة ومخصصة لإحداث العزل والفصل بين الإنسان وإنسانيته أو بين البشرية وما تدعيه من فضيلة وســمو في الحضور.
دفعني المقطع البسيط لترك مكتبي وتنشق بعض الهواء البارد على شرفة الليل لعله يعيدني إلى صوابي ، جرني إلى سؤال المعبر الذي لم يحله أي شيء ، وسؤال المعبر ذهب بي إلى الأسئلة حول المعابر الأخرى التي تعرقل حياة العرب والتي نضجت خلال رحلة أعمارنا بصمت وقوة دون أن نحس بها لنكتشف وجودها في اللحظات المفصلية من حياتنا ، في المطارات ، في ورقة عليك أن تختمها ألف مرة لتؤكد بأنك إنسان ، في رسالة الدكتوراة ، في الغربة الداخلية والخارجية ، في شهادة الزواج ومعابر أخرى بناها النفط وأخرى بنتها الجغرافيا وثالثة من الدين واللغة والمصيروالقبيلة والتاريخ وبداوة الصحراء ، معابر ومطارات وحدود وكلها يتم إغلاقها في وجوهنا عند اللحظة القاتلة ، معابر تفصل بيننا كشعوب عربية وبين الانتصار والمجد والريادة والرفعة والكرامة و يبدو أن هذه المسافة الضوئية الفاصلة هي التي أتقنها النظام الرسمي في بلادنا لكي لا نصل أبدا ، لقد أعاد كل هذا طرح الأسئلة والتساؤلات الساذجة البلهاء التي تسبب السخرية والضحك حتى السقوط على الأرض من جنرالات العرب : أليس النفط العربي في داخل أراضينا هو الذي يدير عجلة هذا العالم من كبيره حتى صغيره ؟ أين هو معبر النفط إذا ولماذا لم يتمكن من التوقف لأجل عشرين ألفا من الأبرياء أيها المجرمون ؟ أليست لدينا معابر من الجيوش والطائرات والمدرعات والآليات ونتفاخر بين الحين والآخر بأننا أكبر او أقوى و نرعد ونزبد ونهدر ونتوعد ؟ أين هذا حيال الطيران الجبان الذي أحرق الأم والأب والطفل وأسقط بناية فيها ألف إنسان على رأس كل الإنسانية أيها الجنرال الكبير ؟ لمن هذه الجيوش ؟ ألا توجد لديكم طائرة واحدة من السكراب كي تهدد أو ترد ؟ أليست لديكم معابر من عقيدة وآيات بها تذلون معيشنا وتعايرون مسيرنا ؟ ألم تضحكوا على شعوبنا بمعابر الجهاد في الشيشان وأفغانستان وسوريا ولبنان ؟ أين معبر القاعدة التي صنعتموها ووقعت غزوة مانهاتن وأولئك الذين يريدون إنشاء دولة إسلامية بأوامر اسرائيلية ؟ هل معبر فلسطين محرم على جلودكم أم أن فيها بقية قصتكم التلمودية ؟ أين المعابر والأجواء والحدود التي تتشدقون بسيادتها أيها الجنرالات ؟ لماذا كل معابركم مفتوحة ومغدقة وكريمة مع أعداء الأمة ؟ كيف أمكن ألا تتمكنوا من ان تكونوا بشرا أو من فئة البشر؟ ألم يكفر بكم المعبر بعد ؟ وأســفاه على المعبر حتى ابيضت عيناه حزنا على غزة وحال غزة !
يكاد تساؤل الصبية العميق يلقي بي في ظلمة هذا الليل الحالك الصمت : لماذا لم نتمكن من فتح معبر رفح وسائر معابر رفح الأخرى التي تعرقل حياتنا ؟ لماذا لم تتمكن شعوب العرب ومع غضبها من إيقاف الجريمة ؟ لماذا تنتصب معابر رفح من كل حدب وصوب في حياة الشعوب العربية إلى الدرجة التي فشل فيها كل شيء ؟ كيف ولماذا أخفقنا جميعا ؟ ما الذي فعله النظام العربي لكي يضمن ايصالنا الى هذا المنعطف التاريخي المتجه حتما نحو مزبلة التاريخ الكبرى ونقطة الذروة من العجز الجنسي في استيلاد التاريخ ؟ لماذا فشلت شعوب العرب في الوقوف حيال بغداد أو بيروت ووقفت مكتوفة الأيدي ؟ لماذا تصاب أيدينا بالشلل حيال غزة الان حين استدعى النداء ؟ وماذا سيقول بيت المقدس الأسطوري لحصان بن الوليد المجنح الذي يلهث النار في الأفق ؟
لقد فشلنا فشلا ذريعا وصعدت كل أشكال المعابر الملعونة لأن هنالك من اوصل هذه الشعوب إلى أرضية من الهزال والضعف والفلس المبرمج والمبيت في كل شيء ! هنالك من دمرالإنسان العربي أولا وسرق كل مقومات حياته وشخصيته وصناعته ، هنالك من دمر وتآمر على الصناعة العربية والعقل العربي العلمي والتكنولوجي كي لا نتمكن من إنتاج ترانزستور أو نستخرج الفلزات ونصنع منها سبائك الوصول إلى الفضاء أو ننتج منها صناعة المستقبل على مر كل العقود ! هنالك من دمر الزراعة والفلاحة وحولنا إلى متسولين للقمح والبذور والمحاصيل وجعلنا عبيدا أمام المنتوج المهجن والبذور المحسنة ولهذا السبب لم نتمكن من تجاوز معبر الجوع والعوز ! هنالك من أهلك ودمر وحطم مكانة وعقل المرأة العربية وحولها إلى مصنع لتفريخ أطفال ومواطنين يؤمنون بروح الرأسمالية والطمع والاستعلاء بالعضلات والتفاخر بالسيارة اليابانية والألمانية وامتلاك أرقى الهواتف !
هنالك من فتك بالمعلمين والتعليم ودكاترة الجامعات وحولهم إلى مطبلين ورقاصين وفاشلين كي ينتجوا طلابا يمتهنون الرقص طيلة الحياة بكل صوره والطبل بكل فنونه قبل العلم والإنتاج و يمارسون التفكير الانتهازي والوصولي قبل الابتكاري والابداعي ، هنالك من حول كل طبقات السياسة والصحافة والمفكرين إلى أقزام يركضون وراء رضى الرئيس وأجهزته والحلفان بأنه رأوه في المنام مع النبي يتناصحان حول غزة وحال الأمة ! هنالك من حَوَّل قوانين البلاد وكل مسار فيها إلى مشقة وعذاب وضنك كي يلعن المواطن العربي اليوم الذي ولدته فيه أمه !
كل هذا سادتي هو السبب في أن المساعدات التي تبرع بها المتبرعون ملقاة في صحراء سيناء فيما يموت الطفل العربي من الجوع وتستشهد الأم العربية من ألم النزيف ويموت الجريح لأن جرحه إلتهب وألهب مصير الأمة وأصبح واجبا بتره وبترها من جذورها ومن موضعها ، هذا هو يا سادتي سبب معابرنا الكثيرة الملقاة في كل مكان ولذلك نكتشف بأننا عاجزون ومحاصرون بكل المعابر في اللحظة التي تنادينا فيها الأمة والبلاد .
في الوقت الذي تتداعى فيه كامل المنطقة العربية للاحتراق وإعادة وضع العرب في الأقفاص الجديدة أصبحنا نتيقن الان بأن زمن كسر المعابر قد بدأ ولم يعد له السكوت ومن لم يتحرك فقد فاته القطار إلى الأبد ، لقد منحتنا المقاومة الفلسطينية رخصة جديدة للتنقيب عن الأمل في صحراء العرب الكبرى ، أبناء اليمن الأبطال ومعهم كل أبناء العرب الشرفاء أعادوا لنا الأمل بأن المعابر سوف تتكسر وسوف تقفز أيها العربي فوق سور الذل العظيم .
على الرغم من العاصفة التي اندلعت في مخيلتي والأسئلة الآثمة التي تسبب سخرية الجنرالات منها تابعت نشرة الأخبار وشاهدت حفنة جديدة من انجازات المقاومة البطولية وحفنة أخرى من وجوه أطفال اغزة الذين يلعبون بين الطين والخيام بأقدام حافية ، حفنة أخرى من أبناء غزة يسحبون طفلا من تحت الأنقاض يخرج ليعلن بأن الحياة لن تنتهي على يد هؤلاء ، حفنة أخرى من البلسم اليمني الذي رماه أنصار الله الأبطال مع نسائم البحر الأحمر ووصل إلى كل بيت عربي ، كل ذلك تسلل في قلبي مثل لفحة الليل الباردة املا وإشراقا وتأكدت بأن كل هذه المعابر ستنصرف وسوف تبتلعها عاصفة طوفان الأقصى بعد النصر الكبير القادم ، كل هذه المعابر التي تجاوزتها المقاومة بمعجزات لا مثيل لها وبطولات أخرى كلها بشائر بزوال المعابر ومن يجددون العهد عليها خدمة لمشاريع بني صهيون ، كلكم زائلون وشعوب العرب سوف تسحق معابركم وتصعد فوق سور الهزيمة .
حيال كل هذه الجرعة من البلسم الفلسطيني واليمني تمعنت في وجه لويد أوستن الوزير العظيم لأعظم دولة في تاريخنا المزيف ، تأملت وجه غالانت وذلك نتانياهو وبعض آل ياهو الناطقين بالعربية ، كلهم صاروا صغارا وهزالا وأقزاما أمام عظمة هذه الإرداة القادمة من قلب الإنسان العربي عندما يتجلى في عظمته ، نحن سنبقى وأنتم زائلون وكل معابركم سوف تتكسر .
كاتب عربي فلسطيني
آراء ومقالات
-
نبيه البرجي
2024-11-23ليلة وقف النار... ليلة القدر
-
محمد لافي
2024-11-18حظر "الأونروا" والخطة الإسرائيلية لليوم التالي للحرب
-
بثينة شعبان
2024-11-18استكمال المــهــمــة!!!
-
نبيه البرجي
2024-11-16سقط وفي قلبه صورة نصرالله
-
د. خيام الزعبي
2024-11-15الأسد.. رسالة دعم لفلسطين ولبنان في وجه العدوان
-
حسن نافعة
2024-11-15هل تتحول القمم العربية والإسلامية إلى سرادقات للعزاء؟
-
عريب الرنتاوي
2024-11-15حماس والدوحة... هدأةٌ مؤقتةٌ للزوبعة قبل ثورانها من جديد