بقلم: نبيه البرجي
لم تعد المسألة في اعادة بناء الدولة، وانما في اعادة تركيب الدولة في لبنان. حال سوريا والعراق واليمن، كذلك حال ليبيا والسودان، وصولاً الى الصومال الذي أي بلاء حلّ به ليكون عضواً في جامعة الدول العربية.
الأزمة عندنا ـ بالاضافة الى تبعيتنا التاريخية للخارج ـ ليست في الاختلاف حول مَن يكون "رهين المحبسين" في القصر الجمهوري، بل حول البنية الفلسفية للجمهورية، اذ كيف لبلد على تفاعل مع كل ديناميات الحداثة، أن يأخذ بالمنطق الطوائفي ان في تركيب أو في أداء السلطة؟
حين يحتدم صراع الفيلة في الخارج، نشهد على الشاشات وعلى المنابر صراع الديكة. بمعنى آخر ان وجودنا مثل ولادتنا يقرره الآخرون. السياسة عندنا، وكما قال روبرت فيسك، أقرب الى... ثقافة الغوغاء!
ما يستشف من الدراسات والأبحاث التي تصدر عن معاهد غربية متخصصة، أن "الشرق الأوسط الكبير"، والذي يضم أيضاً بحسب خريطة ديك تشيني، كلاً من تركيا وايران وباكستان وأفغانستان، سيبقى في حالة من التيه، الى أن يتبلور الشكل الجديد للنظام العالمي، الأمر الذي يحتاج الى سنوات. حالياً أي حلول أو أي تسويات لا بد أن تكون آنية، للحيلولة دون أي انفجار يؤدي الى تقويض قواعد الاشتباك بين القوى العظمى.
الدولة الفلسطينية تنضوي تحت العنوان نفسه. المفكر الفرنسي جان ـ بيار فيليو يرى أن نظام القطب الواحد، وقد نشأ عشوائياً أو انتقائياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، آل الى التآكل الدراماتيكي. دعا الى مقاربة مختلفة للحرب في أوكرانيا، التي اذ استنزفت روسيا استنزفت أميركا، التي كان تراهن على فوضى داخلية تطيح فلاديمير بوتين، قبل أن تكتشف أن الروس يخوضون "حرباً وجودية"، بعدما كان جورج كينان، صاحب نظرية "الاحتواء" قد لاحظ عام 1946، أن مشكلتنا مع روسيا شعورها بأنها مدعوة دائماً، لتثبت أنها دولة "موجودة".
الحسابات الأميركية الخاطئة (الأميركيون أسوأ من قرأ التاريخ) خاضت الحرب ضد روسيا، لتجر وراءها الدول الأوروبية بالقيادات الهشة. هذا ما أثار قلق الصين التي اعتبرت أن تفكيك الاتحاد الروسي واعلان سيبريا الولاية الحادية والخمسين، يهدد أمنها الاستراتيجي، لتغدو أميركا دولة أميركو ـ آسيوية على غرار الدول الأوراسية ، مع التذكير بأن آلاسكا كانت تابعة لروسيا قبل أن يبيعها القيصر الكسندر الثاني، العائد منهكاً من حرب القرم، الى أندرو جونسون عام 1867.
أميركا التي ورثت الأمبراطوريات الأوروبية، تجد نفسها الآن أمام أمبراطوريتين آسيويتين الصين والهند. هذا لم يخطر للرئيس جورج بوش الأب، ولا لأي من الرؤساء الذين تعاقبوا منذ مؤتمر يالطا عام 1945. وها هو جو بايدن يلعب على نقاط الخلاف بين بكين ونيودلهي، ليخرج بذلك المشروع الذي يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، بغية الالتفاف على مشروع الصين احياء طريق الحرير.
ولكن اذا كان من المستحيل على روسيا احتواء الصين، هل يمكن لأميركا احتواء الهند بالديموغرافيا الهائلة، وبالتضاريس الثقافية والايديولوجية البالغة التعقيد؟ الحل المنطقي بعالم متعدد الأقطاب، اذ لم يعد باستطاعة واشنطن أن تتفرد بقيادة الكرة الأرضية، التي حدثت فيها تغيّرات لا متناهية منذ قنبلة هيروشيما. خوسيه ساراماغو رأى أن أميركا أخفقت في صناعة "تاريخ أخر" للبشرية.
نظرة بانورامية الى المشهد الدولي. الشرق الأوسط كله على الطاولة. ربما نكون أمام نوع جديد من البلقنة، بعدما أظهرت الحرب في أوكرانيا عبثية اللعب على حافة الحرب العالمية الثالثة، أي على حافة النهاية نهاية العالم.
ترانا ذهبنا بعيداً في تصوراتنا؟ هذه ليست تصوراتنا الشخصية. انها خلاصة آراء ومفكرين، لننظر الى أحوال المنطقة العربية التي وحدها، اذا استثينا الأزمة الأوكرانية "تستضيف" كل تلك الأزمات البنيوية، التي تستدعي اعادة تركيب الدول المعنية (أو تفكيكها).
ليتذكر قادتنا العظام، وهم يقتاتون من لحومنا، بالاثارة الغرائزية التي تعيدنا الى العصر الحجري، ان الأزمة لم تعد في ايديهم ولا الحل. أقصى ما يمكن التوصل اليه تسوية انتقالية أشبه ما تكون بالانتظار. الانتظارعراة على صفيح ساخن...
المصدر: الديار اللبنانية