2024-11-30 12:49 م

"ملاذ آمن لليهود" أم "دولة" مهيمنة على المنطقة؟

بقلم: حسن نافعة
لم يكن الصحافي اليهودي، تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، متديناً، وبالتالي لم يتبنَّ مقولة إن اليهود هم وحدهم "شعب الله المختار"، وإن فلسطين هي "أرضهم الموعودة"، كما يدّعي بعض الأساطير الدينية اليهودية القديمة.

غير أن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في مختلف أنحاء العالم ولّد لديه اعتقاداً راسخاً بوجود "مسألة يهودية" تحتاج إلى حل جذري، وأن هذا الحل يجب أن يكون عالميا وليس إقليمياً أو محلياً. ومن هنا رفضه كلَّ الأفكار الداعية إلى دمج اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، واعتقاده أن الحل الأمثل لهذه المسألة يكمن في العمل على تأسيس "دولة" خاصة باليهود، قادرة على أن توفر لهم ملاذاً آمناً يحميهم من شرور ما يتعرضون له من اضطهاد.

وعكف هرتزل على شرح وجهة نظره هذه في كتيب نشره عام 1896، تحت عنوان "الدولة اليهودية"، الأمر الذي أثار وقتها ضجة كبيرة ساعدت على تحول الأفكار التي تضمنها هذا الكتيب إلى دليل عمل للحركة الصهيونية العالمية، التي تأسست في العام التالي على صدوره. يلفت الانتباهَ هنا أن هرتزل لم يطالب بإقامة "الدولة اليهودية" التي يدعو إلى تأسيسها في فلسطين تحديداً، وبدا منفتحاً ومستعداً لمناقشة بدائل متعددة، منها سيناء وأوغندا والأرجنتين وغيرها.

عاملان تفاعلا معاً لحسم اختيار فلسطين في النهاية، لتصبح هي "الدولة" المنوط بها حل "المسألة اليهودية":

العامل الأول: قوة العاطفة الدينية لدى اليهود تجاه فلسطين. لقد أدرك الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية، ومعظمهم ينتمي إلى تيارات علمانية، مدى عمق هذه العاطفة لدى مختلف التيارات اليهودية، ثم سعوا لاستغلالها أداةً للحشد والتعبئة، وهو عامل لم يتوافر في أي مشروع آخر، غير أنه لم يكن كافياً وحده.

العامل الثاني: تطابق المصالح الاستعمارية مع المطامح الصهيونية. فمع هبوب رياح الحرب العالمية الأولى، أدركت القوى الاستعمارية، وفي مقدمتها بريطانيا، أن إقامة "دولة يهودية" حليفة في فلسطين يمكن أن يساعد على فصل المشرق العربي عن مغربه، ويحُول دون ظهور دولة عربية كبرى تحل محل دولة الخلافة العثمانية في هذه المنطقة الحيوية والحساسة من العالم، وهو ما يفسر صدور "وعد بلفور" عام 1917، وتأييد كل الدول الغربية له في ذلك الوقت، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية.

لقد روجت الحركة الصهيونية، في بداية حملتها، من أجل حشد يهود العالم وتعبئتهم ودفعهم إلى الهجرة إلى "الأرض الموعودة"، وخصوصاً عقب نجاحها في تضمين "وعد بلفور" صك الانتداب البريطاني على فلسطين، الفكرةَ القائلة إن فلسطين "أرض بلا شعب" بينما يهود العالم "شعب بلا أرض"، غير أن الأحداث اللاحقة دحضت تماماً هذا الادعاء وأثبتت كذبه، من خلال دليلين رئيسَين، الأول: اندلاع الثورات الفلسطينية المتعاقبة، بدءاً بـ"ثورة البراق" عام 1929، وانتهاءً بـ"الثورة الفلسطينية الكبرى" عام 1936، والتي أثبتت أن الشعب الفلسطيني موجود في أرضه ومتمسك بها حتى النهاية.

والثاني: صدور قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1947، يقضي بتقسيم فلسطين إلى "دولتين"، إحداهما عربية والأخرى يهودية. صحيح أن الشعب الفلسطيني، ومعه الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة في ذلك الوقت، رفضوا مشروع التقسيم، لكن رفضهم شكّل في حد ذاته دليلاً على أن الشعب الفلسطيني يؤمن بأنه المالك الطبيعي والوحيد لفلسطين.

أمّا إذا فحصنا مشروع التقسيم من منظور أممي فسوف نجد أن تبني المجتمع الدولي له يدل على أنه جاء متأثراً بالفظائع التي ارتكبها النظام النازي ضد اليهود في ألمانيا الهتلرية قبيل الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها، الأمر الذي يعني أن الأمم المتحدة رأت في قرار التقسيم، على رغم ما فيه من ظلم بيّن للشعب الفلسطيني، حلاً عملياً لمسألة لم تكن تحتمل التأجيل.

ولأن قرار التقسيم صدر مصحوباً بخرائط مساحية محددة توضح حدود "الدولتين" العربية واليهودية، فلا شك في أنه يُعَدّ، من الناحية القانونية، الوثيقة الدولية الوحيدة التي تتضمن ترسيماً لحدود دولة فلسطين العربية التي حالت تطورات لاحقة دون إعلان تأسيسها، كما يُعَدّ في الوقت نفسه تأكيداً إضافياً، مفاده أن الدولة الفلسطينية ينبغي لها أن تتمتع، حال إعلان قيامها، بالحقوق نفسها التي تتمتع بها "الدولة اليهودية"، وأن تلتزم واجباتها نفسها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين قررت قبول "إسرائيل" عضواً في المنظمة الأممية عام 1949، أي بعد انتهاء حرب 1948، ضمّنت قرارها إشارة صريحة إلى أن الحكومة الإسرائيلية أعلنت التزامها تطبيق قرار تقسيم فلسطين، من ناحية، وقرار عودة اللاجئين الفلسطينيين، من ناحية أخرى، وهو ما لم تفِ به "دولة إسرائيل" حتى الآن.

لقد تصرفت هذه "الدولة"، منذ نشأتها حتى الآن، انطلاقاً من أنها نواة لـ"دولة كبرى" تمتد من النيل إلى الفرات، ومرشحة للهيمنة على المنطقة برمتها، وابتعدت كثيراً عن فكرة "الملاذ الآمن لشعب مضطهَد". ولأن الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، ألقت ثقلها وراء "إسرائيل"، وزودتها بكل الأدوات والوسائل المادية والمعنوية التي تمكّنها من تحقيق طموحاتها غير المشروعة، كان من الطبيعي أن تتعامل هذه "الدولة" المارقة بقدر كبير من التعنت والصلف مع كل قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، ومع كل مبادرات التسوية السلمية، التي صدرت عن الدول العربية.

ولأنها انتصرت في كل المعارك التي خاضتها ضد الجيوش العربية النظامية، طوال ما يقرب من ربع قرن، تصورت أنها أصبحت المرشح الطبيعي والوحيد لقيادة منطقة الشرق الأوسط برمتها، والهيمنة عليها في نهاية المطاف، وخصوصاً إذا ما نجحت في تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وتمكنت من تطبيع علاقتها بالدول الرئيسة في هذه المنطقة.

غير أن انتقال المواجهة العسكرية من أيدي الجيوش النظامية في العالم العربي إلى أيدي فصائل المقاومة المسلحة غيّر شكل الصراع في المنطقة، وأثبت قدرته على وقف تمدد المشروع الصهيوني ومنعه من تحقيق غاياته النهائية.

ففي عام 2000 تمكّن حزب الله من تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي من دون قيد أو شرط. وفي عام 2006 قامت "إسرائيل" بشنّ حرب شاملة استهدفت تدمير حزب الله وتهيئة الأجواء اللازمة لنزع سلاحه، لكنها فشلت في تحقيق أي من أهدافها، بل خرج حزب الله من هذه المواجهة المسلحة أقوى مما كان عليه قبلها.

كما حاولت "إسرائيل"، وخصوصاً خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، تصفية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وشنت عليها خمس حروب متتالية، فشلت جميعها في كسر إرادة المقاومة، التي خرجت بدورها من هذه المواجهات العسكرية أقوى مما كانت عليه قبلها، على رغم الحصار المحكَم والمضروب حول قطاع غزة.

وحين تمكنت حركة حماس من شن عملية "طوفان الأقصى"، في 7 تشرين/أكتوبر الماضي، تبيّن بالدليل القاطع أن فصائل المقاومة قادرة ليس على الدفاع عن نفسها فحسب، بل على الانتقال أيضاً من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وعلى أخذ زمام المبادرة في يدها وعدم الاكتفاء برد الفعل. فعلى رغم إقدام "إسرائيل" على استدعاء معظم القوات الاحتياطية لديها، وقيامها بشن هجوم كاسح على قطاع غزة، بكل ما تمتلك من أكثر الأسلحة الأميركية تقدماً وأقواها فتكاً، فإنها عجزت عن تحقيق أي من أهدافها على رغم مرور أكثر من 50 يوماً على بدء عمليتها العسكرية.

صحيح أن "إسرائيل" تمكنت من قتل أكثر من خمسة عشر ألف فلسطيني، ومن جرح أكثر من خمسة وثلاثين ألف شخص، ومن تدمير آلاف المنازل والمدارس والمستشفيات، وقامت بقطع المياه والكهرباء والطاقة ووسائل الاتصال عن أكثر من مليوني إنسان، إلا أن ذلك كله لم يَحُل دون التفاف الشعب الفلسطيني كله حول المقاومة، وكشف، في الوقت نفسه، وجه "إسرائيل" العنصري البشع والقبيح، الأمر الذي ساهم في تأليب الرأي العام عليها.

لكن الأهم من ذلك أن عملية "طوفان الأقصى" أثبتت أن "إسرائيل" لم تعد قادرة على مواجهة محور المقاومة بمفردها، وخصوصاً في إذا تم تفعيل مقولة "وحدة الساحات"، وأنها لا تستطيع أن تحيا من دون حماية أميركية مباشرة.

بعبارة أخرى، يمكن القول إن هذه العملية المذهلة، وما تبعها من صمود أسطوري لكل فصائل المقاومة وحاضنتها الشعبية، وجَّها ضربة قاصمة إلى مشروع الهيمنة الإسرائيلية، الأمر الذي يفرض على "إسرائيل" ضرورة مراجعة سياساتها وإعادة تأمل رؤيتها لنفسها وللشعب الفلسطيني.

وفي تقديري، أن "إسرائيل" ستنتهي حتماً بتدمير نفسها إن هي أصرت على مواصلة مشروعها للهيمنة على المنطقة، أما إذا أدركت أن مصلحتها تقضي بضرورة الاكتفاء بوظيفتها، "كملاذ آمن لحماية اليهود من عسف الاضطهاد الذي عانوه كثيراً عبر التاريخ"، فعليها في هذه الحالة أن تعلن استعدادها لتنفيذ ما تعهّدته للأمم المتحدة، حين وافقت الجمعية العامة على قبولها عضواً في الأمم المتحدة، أي قبول تنفيذ قرار الجمعية العامة 181 لسنة 1947، والخاص بتقسيم فلسطين إلى "دولتين"، لكل منهما حدود واضحة لا تحتاج إلى إعادة تفاوض، وقرار الجمعية العامة 194 لسنة 1948، والخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين. وفي تقديري أنه يتعين على حماس أيضاً أن تعبّر، بصورة أو بأخرى، وفي اللحظة الملائمة، عن استعدادها للدخول في تسوية سياسية وفقاً لهذين القرارين، اللذين يعكسان بوضوح تام موقف الشرعية الدولية.