2024-11-27 02:38 م

توافق على مواصلة الحرب وتشكيك في النتيجة

بقلم: جمال زحالقة
دلت استطلاعات الرأي الأخيرة، التي نشرها «معهد دراسات الأمن القومي» الإسرائيلي، على أن نسبة 96% من الجمهور اليهودي في إسرائيل تدعم الحرب، في حين أقل من 70% يعتقدون بأنها ستحقق أهدافها المعلنة بشكل كامل أو جزئي. كذلك الأمر، في صفوف النخب السياسية والأمنية الإسرائيلية يسود إجماع على العدوان، وغالبا على الأهداف المعلنة، ولكن يتزايد التشكيك بالقدرة الفعلية والواقعية على حسم المعركة، بما يتلاءم والأهداف الرسمية التي وضعتها القيادة الإسرائيلية: القضاء على القدرات القتالية والسلطوية لحماس، وإعادة الأسرى الإسرائيليين كافة المحتجزين في غزة.
لم تبرز في الدولة الصهيونية، حتى الآن، أي معارضة تذكر للحرب، ولا يقل أنصار ما يسمى «معسكر السلام الإسرائيلي» في الحث على القتال والحرب عن اليمين المتطرف. ولم يحدث منذ نكسة 1967، أن خاض الجيش الإسرائيلي معركة عسكرية وخلفه هذا الإجماع الشعبي. ومع ذلك، قد تتحول بوادر التشكيك في القدرة على الحسم وتحقيق الأهداف، إلى فرامل لوقف الحرب وإعادة الحسابات، بحكم منطق أنه إذا كنت اقتنعت بأنك لن تحقق الهدف فعلامَ المضي في السير نحوه؟ لم يحدث هذا حتى الآن، لكن من الممكن أن يحدث، خاصة إذا تدخلت الولايات المتحدة وقالت لإسرائيل «قفي!»، وعندها سيبرز تيار يدعو للقبول بالدعوة الأمريكية، وفي مقابله سيبقى تيار وازن يصر على مواصلة الحرب والعدوان، حتى لو طلبت أمريكا ذلك، ولكن في غياب ضغط عربي والاطمئنان بأن المصالح الأمريكية لا تتضرر، لا يبدو في الأفق القريب والمصيري أنّها ستطلب ذلك.

الموقف الأمريكي

يبدو أن إسرائيل ستواصل الحرب طالما واصلت الولايات المتحدة إمدادها بالذخيرة والعتاد والقنابل والدعم السياسي والمعنوي والمالي. لقد تبنت إدارة بايدن أهداف الحرب الإسرائيلية كاملة، وهي تصر على إعادة الأسرى الإسرائيليين كافة، وترفض وقفا دائما لإطلاق النار قبل أن تحقق إسرائيل هدفها في نزع القدرات العسكرية لحركة حماس. الموقف الأمريكي بخصوص الحرب العدوانية على غزة متأسرل تماما، ولم يظهر حتى الآن ما يوحي بأنّه تغير، وكل ما قيل ويقال حول تباين وخلاف بين الحليفين يأتي من باب التوقعات غير المستندة إلى مؤشّرات حقيقية. قد يكون هناك تباين في الرؤى حول مرحلة ما بعد الحرب، ولكن ليس حول الحرب نفسها، التي يصفها الناطقون بلسان الإدارة الأمريكية المتصهينة بأنها «دفاع مشروع عن النفس». مدت الإدارة الأمريكية حبلا طويلا لإسرائيل لتفعل ما تشاء، واكتفى بايدن بكلام غير ملزم حول ضرورة الالتزام بقوانين الحرب، وهو لم يطلب من إسرائيل حتى عدم استهداف المدنيين. وعلى الرغم من اقتراب الانتخابات، وحاجة بايدن لدعم التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، وازدياد أهمية أصوات العرب والمسلمين في بعض الولايات المتأرجحة، فإن هذا لم يترجم بعد إلى تأثير سياسي ذي بال، اللهم سوى في بعض الصياغات الكلامية، التي أوهمت البعض بأننا بصدد تغيير في الموقف الأمريكي.
إدارة بايدن ماضية في دعم الحرب العدوانية، ولكنّها قد تغير موقفها مضطرة في حالة تعرّضت مصالحها للخطر، كأن يحصل «تمرّد» أنظمة عربية ضدها وهذا مستبعد جدا، أو أن تقف المنطقة على حافة حرب إقليمية تشارك فيها إيران، ولا يوجد احتمال جدي بأن يحصل مثل هذا الأمر. وقد يجد بايدن نفسه مجبرا على المبادرة لوقف الحرب في حال وصوله إلى قناعة بأنه سيخسر الانتخابات بسبب مواقفه الداعمة لها، وهذا احتمال ضعيف حاليا لكنّه قد يتحول إلى عامل حاسم لاحقا. وماذا لو أن إسرائيل نفسها دخلت في مأزق جدي وأرادت وقف القتال؟ عندها سوف تستنجد «الضغط» من واشنطن للمبادرة لإنهاء الحرب، فالقيادة الإسرائيلية أجبن من أن تنهيها بمحض إرادتها العلنية. هناك أيضا عامل إضافي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار وهو، أن المؤسسة الأمنية الأمريكية تشكك بقدرة إسرائيل على حسم الحرب وتحقيق أهدافها المعلنة، ولكن هذا التشكيك لم يؤدِ بعد إلى تغيير في موقف المؤسسة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة. لقد بدأت الإدارة الأمريكية بالتمهيد لاستئناف الحرب، ولتوغّل إسرائيلي في جنوب قطاع غزة. برز ذلك من خلال عدة تصريحات وبيانات، صدرت هذا الأسبوع، منها ما قاله جون كيربي الناطق بلسان مجلس الأمن القومي: «في كل عملية تقوم بها إسرائيل في جنوب غزة، عليها أن تأخذ بعين الاعتبار المدنيين الأبرياء الموجودين هناك». وترجمة هذا الكلام «الدبلوماسي» إلى لغة إسرائيل الحربية هو أن الأمريكيين يدعمون مواصلة الحرب في الجنوب، ويطلبون الانتباه إلى وجود مدنيين لا أكثر، وكذلك، جاء بيان الدول السبع الكبار «جي 7» بصياغة أمريكية، ليشمل دعوة لهدنة، أو هدنات مؤقتة لتسهيل إطلاق سراح الأسرى وتمرير المعونات، وبهذا يترك لإسرائيل عمليا حرية مواصلة الحرب.
على الرغم من كثرة الشائعات، لا يلوح في الأفق القريب أي تغيير في الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل في عدوانها وفي حربها الإجرامية القذرة على غزة، وهناك انسجام إسرائيلي – أمريكي على المستويين السياسي والأمني، بكل ما يخص العمليات العسكرية، لكن هناك بعض التباينات في المواقف بكل ما يخص مرحلة ما بعد الحرب. بايدن يتحدث عن حل الدولتين بعد الحرب، ويشرط ذلك بإقامة قيادة فلسطينية «جديدة»، تحظى بمصداقية وقبول شعبي من جهة، وتتنازل عن الحق الفلسطيني لتصبح مقبولة إسرائيليا من جهة أخرى. هو ومن حوله يتوهمون أن هذا ممكن، ويعتبرون ذلك مقدمة ضرورية لأي ولادة لمبادرة لعملية سياسية مستقبلية، ما يعني، عمليا، إنها إن ولدت فستولد ميتة. نظريا وعمليا، يطلب بايدن المستحيل، لأن أي قيادة تتمسك بالحقوق الفلسطينية ولها قاعدة شعبية لن تكون مقبولة لإسرائيل، ولا للإدارة الأمريكية، ومن ستقبل به إسرائيل وأمريكا بعد تنازله عن الثوابت، لن يحظى بالدعم الشعبي، وإن وصل إلى السلطة فهو بحاجة إلى قمع شعبه بالحديد والنار للبقاء فيها. لقد آن الأوان لرسالة فلسطينية موحدة وحازمة: شعب فلسطين هو الوحيد الذي يختار قيادته، وهو لن يقبل أن تأتيه القيادة على الدبابة الإسرائيلية أو تهبط عليه بمظلة أمريكية.

ما بعد الهدنة

في إطار صفقة التبادل، حققت حركة حماس إنجازا ثلاثيا: هي حررت، أولا، مئات الأسيرات والأسرى صغار السن من السجون الإسرائيلية، وتخلّصت، ثانيا وفي المقابل، من العشرات من الرهائن المدنيين، الذين شكلوا عليها عبئا أرادت التخلّص منه، وهي فرضت، ثالثا، هدنة تخللها إدخال كميات إضافية من المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح. ولكن ورغم المساعي المصرية والقطرية الحثيثة لإطالة الهدنة ولتحويلها إلى وقف دائم لإطلاق النار، عبر استثمار قضية الأسرى الإسرائيليين، فإن إسرائيل تخطط لاستئناف الحرب بأقرب فرصة ممكنة بعد استنفاد العملية الحالية لتبادل الأسرى. وعاد المعلقون العسكريون إلى ترديد الادعاء الكاذب المتفق عليه بأن العودة إلى القتال وبوتيرة أعلى يزيد من إمكانية إعادة الأسرى الإسرائيليين بشروط أفضل لإسرائيل.
أعلن الجيش الإسرائيلي بأنه يجهز نفسه للعودة إلى المهام القتالية فور انتهاء الهدنة المؤقتة. وفي مقابلة مع «قناة 12» الإسرائيلية، الثلاثاء الماضي، اعترف رئيس معهد دراسات الأمن القومي والقائد السابق لشعبة المخابرات العسكرية الجنرال تمير هايمن، بأن إسرائيل «بعيدة جدا جدا جدا» عن الوصول إلى تحقيق أهداف الحرب مكررا «جدا» ثلاث مرات، وهذا عمليا اعتراف بفشل آخر للجيش الإسرائيلي. وقبل أيام، كتبت شيمريت مئير الخبيرة الأمنية والمستشارة السابقة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، مقالا جاء فيه «بعيدا عن المسائل التكتيكية فإن إسرائيل لم تنجح في صياغة هدف استراتيجي للحرب. «تقويض حماس» ليس استراتيجية، بل مجرد شعار.. لقد فشلنا في الردع.. وفشلنا في الاستخبارات وفشلنا بشكل غير معقول في الدفاع عن الحدود، ولا حاجة بأن نعاقب أنفسنا على كل هذا الفشل، من خلال السعي لخلق واقع غير ممكن». وانضم إلى المشككين بإمكانية تحقيق أهداف الحرب، بالأخص تحت قيادة نتنياهو، كل من إيهود براك وإيهود أولمرت رئيسي الوزراء السابقين.
اللافت للانتباه أن المشككين بإمكانية تحقيق أهداف الحرب لا يدعون لوقفها، بل لاتباع استراتيجيات مختلفة تشمل خفض السقف وتعاونا أوثق مع الولايات المتحدة وتنسيقا مع أطراف عربية، ولكن في المقابل يبقى الرأي الأقوى والمؤثر للمؤسسة الأمنية الرسمية ومجلس الحرب بقيادة نتنياهو وغالانت وغانتس. وقد عبر الجنرال المتقاعد، يعقوب عميدرور، مستشار نتنياهو غير الرسمي الذي يهمس في أذنه، عن التوجه الطاغي في مقال نشره الثلاثاء الماضي في صحيفة «يسرائيل هيوم»: «لقد تهشم الرد الإسرائيلي في السابع من أكتوبر، وفقط انتصار واضح ـ بالضربة القاضية وليس بالنقاط – سيعيد بناء الردع».
غزة عصية على الكسر، ويتضح أكثر فأكثر أن إسرائيل عاجزة عن حسم المعركة، ولكنّ قيادتها لا تريد وقف الحرب ولا الانسحاب. معنى ذلك أنها تتورّط في غزة لمدة طويلة في حرب «لا تنتهي». المصيبة الكبرى أنها حرب دمار وإبادة على أهل غزة. هذا الوضع يستدعي تحركا فلسطينيا، يستند إلى وحدة وطنية تشمل القوى الوطنية والإسلامية كافة، وإلى الدفع بوزن الدول العربية والإسلامية وبثقل كل مناهضي حرب الدمار الشامل، نحو إنهاء الحرب فورا، وسحب قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى خطوط ما قبل السابع من أكتوبر.
كاتب وباحث فلسطيني