2024-11-25 05:40 م

المدينة الأسطورة التي صمدت في وجه الغزاة

قلّ أن شهدت مدينة من المدن ذلك القدر من المكابدات والنجاحات والتحولات المصيرية الذي شهدته غزة عبر عصورها المختلفة. فقد قُدّر للمدينة التي بُنيت قبل أربعة آلاف عام، وعدّها المؤرخون إحدى أقدم الحواضر المسكونة، أن تدفع غالياً ثمن موقعها الجغرافي المتميز الذي جعلها واسطة عقد القارات وملتقى الهجرات والقوافل، مستدرجاً إلى الظفر بها فاتحين كثراً من قدماء المصريين والبابليين واليونان والفرس والرومان، وصولاً إلى العرب والفتح الإسلامي. وقد ورد اسمها في سفر التكوين، كما تعددت أسماؤها بتعدد غزاتها فسميت إيوني ومينووا وقسطنديا وغاريس، كما سماها الفرس «غازا»، وتعني الكنز الملكي، وأطلق عليها اليونان اسماً مماثلاً ويعني الخزينة أو الثروة.

وقد ذكر ياقوت الحموي في معجمه، بأن اسم المدينة قد اشتق من فعل «غَزّ» الذي يحمل معنى «اختصّ»، بما يعني أن الذين بنوا غزة، قد اختصوها من بين المواقع الأخرى على المتوسط. وتعني غزة أيضاً المنعة والقوة. ومن بين أسمائها غزة هاشم؛ تيمناً بجد الرسول الأكرم، الذي كان يقصدها للتجارة في رحلات الصيف ثم دُفن فيها. ولأن لكلٍّ من اسمه نصيباً كما تقول العرب، فقد دأبت غزة ولو بكلفة باهظة، على مقاومة غزاتها الطامعين عبر الزمن، تماماً كما كان حالها مع الأوبئة والكوارث الطبيعية، في حين كان أهلها لشدة تمرسهم بالآلام وأهوال الحروب، يزدادون صلابة ومنعة وتشبثاً بأهداب الحياة.

لم يكن غريباً تبعاً لذلك، أن تحظى غزة منذ القدم باهتمام الشعراء، أو أن تكون مصدر إلهامهم ومحط أنظارهم ومثار حنينهم، كما كان حال الإمام الشافعي، الذي وُلد فيها وقضى في ربوعها ردحاً من الزمن، حتى إذا غادرها متنقلاً بين الأمصار، واستبد به الشوق إلى مرابعها، قال فيها:

وإني لمشتاقٌ إلى أرض غزةٍ وإن خانني بعد التفرّق كتماني

سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بترْبها كحَلتُ به من شدة الشوق أجفاني

أما في الأزمنة الحالية، حيث بات الحديث عن جمال المدينة وألق بحرها وسواحلها نوعاً من الترف، فقد اختارت غزة أن تنتصر لنفسها ولهويتها القومية والإنسانية، وأن تدفع مرة أخرى الأعباء الباهظة لتقاطع الجغرافيا مع التاريخ على أرض مأهولة بالزلازل. ولأنها اختارت بشكل طوعي أن تقبل ما شاءته لها أقدارها من أدوار، فقد أطلقت إثر سقوط فلسطين، أولى صيحات التمرد والعصيان، وقدمت في سبيل الحرية أغزر قرابين الدم، وأكثر التضحيات جسامة وسخاء. كما استطاع هذا الشريط الساحلي الضيق الذي تشغله المدينة، والذي يعدّ أحد الأماكن الأكثر اكتظاظاً على الأرض، أن يلفت أنظار العالم بصمود أهله الأسطوري، ويصبح المجسد الأمثل لروح فلسطين العصية على الانكسار، وهو ما مكّنه في الوقت ذاته من أن يشحذ بالاستعارات والحدوس والصور الملحمية المعبرة مخيلات الشعراء، فكتب نزار قباني، وقد أذهلته صلابة أطفال غزة، ونضجهم المبكر على نار المواجهات الضارية مع العدو:

يا تلاميذ غزةٍ علّمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا

علّمونا بأن نكون رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجيناً

علّمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماساً ثميناً

كما استلهم سميح القاسم صمود غزة وتضحياتها السخية في الكثير من قصائده. وإذ بدا له بأن تاريخ المدينة الطويل يكاد يُكتب بالدم لا بالحبر، وقد تحول سلسلة من المجازر والفظاعات والمواجهات المتواصلة مع المحتلين، كتب يخاطبها في قصيدة له تحمل اسمها بالذات:

ما أنت؟ من؟ أمدينةٌ أم مذبحه؟

يتفقد الأغراب من حينٍ لحينْ

تفاح جرحكِ، هل سيثمر للغزاة الفاتحين؟

يتفقد الأغراب جرحكِ: «قد تموتْ

في الفجر غزة، قد تموتْ»

وتعود في الفجر الحزينْ

صيحات حبكِ والحياة

أقوى وأعلى، يا صباح الخير، أختَ المعجزاتْ

ولم يكن محمود درويش أقل احتفاءً بصلابة المدينة وجسارة مقاوميها من صديقه القاسم، حتى ولو كان لكل منهما أسلوبه ولغته وطريقته المختلفة في التعبير. وإذ حدث أن ركنت غزة إلى فترة من الراحة، بعد أن أثخنتها المواجهات المتلاحقة مع الغزاة، سرتْ بين سكانها شائعات مفادها بأن قبور الشهداء قد بدأت بالتحرك. وهو ما قرأه صاحب «محاولة رقم 7» بوصفه نوعاً من الشعور الجماعي بالذنب، وحثاً ملحاً على استئناف المواجهة، فكتب في قصيدته «الخروج من البحر المتوسط»:

أتيتُ أتيتُ، سيروا في شوارع ساعدي تصِلوا

وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلّبُ

كنت أهرب من أزقتها

وأكتب باسمها موتي على جميزةٍ...

إن الوضوح جريمةُ

وغموض موتاكم هو الحق الحقيقةُ،

آه لا تتحرك الأحجار إلا حين لا يتحرك الأحياءُ

فالتفّوا على أسطورتي

وقد واظب درويش على مواكبة المدينة في محطات صمودها المختلفة، مستلهماً نضالاتها في الكثير من القصائد والمقطوعات. ولأن نثره كان موازياً لشعره في توهجه وثرائه واحتدامه العصبي، فقد كتب في أحد نصوصه النثرية «الزمن في غزة لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو. ليس الزمن في غزة استرخاء، ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة».

ورغم كثرة الشعراء الذين واكبوا بقصائدهم ونصوصهم سيرة المدينة المتوسطية، التي لا تزال تتعرض لحصار خانق منذ عقد ونصف العقد من الزمن، فقد اتسمت قصائد معين بسيسو عنها بنكهة خاصة، متأتية من علاقته الوثيقة بالمكان الذي ولد فيه عام 1926، وعاش بين ظهرانيه فترة طفولته وصباه. وإذا كانت الإشارة إلى التجاهل والتعتيم شبه الكاملين اللذين لحقا بمعين، بعد وفاته بنوبة قلبية داهمته في لندن عام 1984، هي أقل موجبات الإنصاف، فإن ما يجدر قوله في هذا السياق، بأن صاحب «الأشجار تموت واقفة»، قد انتزع معظم كتاباته من مخيمات اللجوء ومنازل الصفيح والأماكن اللصيقة بقلبه وذاكرته ووجدانه. ففي زمن الإرهاصات الأولى للمقاومة، كتب معين قصيدته «إلى عيني غزة في منتصف ليل الاحتلال الإسرائيلي» التي يقول فيها:

يُفرد القلبُ جناحيه بعيداً ويطيرْ

لبساتينكِ يا غزّتيَ الخضراء في ليل الجحيمْ

ولجدرانكِ تغلي كالصدورْ

غزّتي أنا لم يصدأ دمي في الظلُماتْ

فدمي النيرانُ في قشّ الغزاةْ

وشراراتُ دمي في الريحِ

طارت كلماتْ

ولأن بسيسو كان يعتقد، بتأثير من انتمائه الآيديولوجي، أن على الكتابة أن تدفع الحياة المتعثرة قليلاً إلى الأمام، فقد بدا الشعر بالنسبة له أداة من أدوات المواجهة مع الفقر والظلم والموت، وإعلاء للكرامة الإنسانية التي يستبيحها الطغاة والمستعمرون والغزاة على حد سواء. وإذا كان كلٌّ من الصمت والكلام يفضيان في غياب العدالة إلى موت محقق، ففي هذه الحال «قُلها ومت»، يعلن الشاعر في إحدى قصائده. كما يشير في أحد نصوصه بإصبع الاتهام، إلى أولئك الذين أرادوا لشعب فلسطين أن يدفع الكلفة الكاملة للمحارق التي ارتكبها النازيون بحق اليهود، فيهتف بوطنه الجريح «وطني، أحمِلكَ وأحمِل أوشفتزَ على ظهري».

وإذ يحرص صاحب «فلسطين في القلب» على المواءمة بين موجبات الالتزام وموجبات الجمال التعبيري في شعره، تحفل بعض نصوصه بصور لافتة في تميزها، كقوله مشيراً إلى ظمأ فلسطين المتجدد «كعطاشٍ كنا نتعثر بخرير الأنهار»، أو قوله في وصف الانتظارات المؤجلة لشعبه الذبيح، بأن خطى المستقبل كانت «تَصرّ كالمفتاح في سجن الدم المغلق». لكنه حين يبلغ الألم مداه، وتتشبه البيوت بأوراق الشجر في خريف غزة الكابوسي، ويصمّ العالم مسامعه عن أنين البشر المكلومين، لا يتوانى عن تحويل شعره إلى أهازيج وأغنيات ترددها من بعده الأجيال المتعاقبة، ويتخذ بعضها شكل الوصايا، كقوله في قصيدة «المعركة»:

أنا إن سقطتُ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ

واحملْ سلاحي لا يُخفكَ دمي يسيل على السلاحْ

وانظرْ إلى شفتيّ أُطبقتا على هوُج الرياحْ

وانظرْ إلى عينيّ أُغمضتا على نور الصباحْ

أنا لم أمتْ أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراحْ