2024-11-22 01:22 م

"دبلوماسية الزوارق" الأميركية.. من إظهار القوة إلى تغطية الضعف

2023-08-19

أصبح التهديد بالقوة العسكرية أداة رسمية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين، كجزء من النتيجة الطبيعية لـ"مبدأ مونرو" (الأوروبيون الأميركيون لا يجوز عدّهم رعايا مستعمرات لأي قُوى أوروبية في المستقبل)، الذي أعاد الرئيس الأميركي حينذاك ثيودور روزفلت، الحياة إليه، من خلال منع الدول الأوروبية من الاستيلاء على مستعمرات جديدة في القارة الأميركية، فكان منع التدخل الأوروبي يقوم على التدخل الأميركي المباشِر.

ضمن هذا الإطار، ظهر مصطلح "دبلوماسية الزوارق الحربية"، في أواخر القرن التاسع عشر، أي في فترة صعود الإمبريالية الغربية، كما يذكر الباحث في التاريخ الأميركي روبرت لونغلي، وذلك عندما تنافست القوى الغربية -الولايات المتحدة وأوروبا – على تأسيس إمبراطوريات تجارية استعمارية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، فكانت عندما تفشل الدبلوماسية التقليدية، تظهر أساطيل السفن الحربية التابعة للدول الأكبر فجأة وهي تناور قبالة سواحل البلدان الأصغر غير المتعاونة. في كثير من الحالات، كان التهديد المستتر بهذه العروض "السلمية" للقوة العسكرية كافياً لتحقيق استسلام من دون إراقة دماء.

ولعلّ أول استخدام لتلك السياسة من جانب الولايات المتحدة كان في عام 1903، عندما أرسل روزفلت أسطولاً من السفن الحربية لدعم متمردي البنما في وجه كولومبيا. السفن الأميركية لم تطلق في حينها أي رصاصة أو مقذوفة مطلقاً، بيد أن "عرض القوة" الأميركي ساهم في انفصال بنما عن كولومبيا. وفي المقابل، حصلت الولايات المتحدة على "الحق" في بناء قناة بنما والسيطرة عليها لاحقاً (كانت المفاوضات بين الولايات المتحدة وكولومبيا بشأن استحصال حق بناء القناة متعثرة).

في المجمل، واصلت الإدارات الأميركية المتعاقبة استخدام دبلوماسية الزوارق البحرية، من جمهورية الدومينيكان إلى "الأسطول الأبيض العظيم" وهايتي لاحقاً في الحرب العالمية الأولى، واليابان في الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى فيتنام ومنطقة الخليج في غربي آسيا مع نهاية القرن.

يُنقل عن وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، تلخيصه لهذا المفهوم خلال فترة توليه منصبه، بأنّ "حاملة الطائرات تبلغ 100000 طن من الدبلوماسية". وبينما كانت تسعى واشنطن إلى إظهار قوتها من دون استخدامها لفرض هيمنتها، فإن الأمر كان يرتبط بقدرة الطرف الآخر على مواجهة صورة القوة أولاً، وقدرته على مواجهة القوّة بشكل مباشر في حال قررت الزوارق الحربية التحوّل من "الدبلوماسية" المزعومة إلى "العنف".

تأخذ "دبلوماسية الزوارق الحربية" معناها الأعم المتعارف عليه من كونها عملاً عسكرياً، أو التهديد بعمل عسكري لدعم جهد دبلوماسي، لكن وبما أنها تستند إلى القوة فإن "الدبلوماسية" هنا ببنودها تكون مفروضة، وبذلك ينتفي معنى الدبلوماسية القائم على الحوار أو التفاوض لا الفرض. لذا، فإن" دبلوماسية الزوارق الحربية"، هي عنف ممنهج يسعى إلى فرض الرأي والموقف باستخدام القوة وليست في جوهرها مساراً دبلوماسياً، وهو ما استخدمته الولايات المتحدة على مدى نحو قرنٍ ونصف بطريقة رسمية وغير رسمية، إمّا من خلال التلويح بالقوة أو استخدامها لفرض موقفها السياسي وهيمنتها على الدولة المستهدفة.

في الفترة التي تحدثنا عنها بين نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين بأكمله، وحتى بداية القرن الواحد والعشرين (في بحر الصين الجنوبي بين عامي 2009-2013)، كانت "دبلوماسية الزوارق البحرية" تعبّر أو تظهر قوّة الولايات المتحدة وتوسّع نفوذها، وقدرتها الكبيرة على المناورة والسيطرة.

وإذا كانت "دبلوماسية الزوارق" قد عبّرت عن هذا كله فيما مضى، فإنها اليوم باتت هي ذاتها تعبّر ليس فقط عن تراجع السياسات الأميركية، ولا عدم القدرة على فرض الموقف والقرار، بل أيضاً تعبّر عمّا يمكن أن يتم فرضه على الولايات المتحدة نفسها.

في الأيام الماضية، كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يشدد في أكثر من مناسبة على أن "الصفقة الأخيرة" مع إيران (ستفرج طهران عن سجناء أميركيين مقابل سجناء إيرانيين لدى واشنطن، بالإضافة إلى تمكّن إيران من الوصول إلى 6 مليارات دولار من أصولها في كوريا الجنوبية)، "لا تعني تغييراً في النهج الأميركي" وفق بلينكن. وبما أن الوزير الأميركي كان مضطراً إلى تبرير تلك الصفقة، فإن الأمر يتجاوز تفاصيلها إلى فرضية ما كانت تحاول واشنطن تصويره من خلال فعلته بالتزامن، فطُرِحت تساؤلات بشأن الأقوال والتحركات وما رافقها من أفعال.

وفي العودة قليلاً إلى الأيام التي سبقت وتزامنت مع "الصفقة" والإعلان عنها، تحدثت القيادة المركزية الأميركية عن وصول 3 آلاف جنديّ من البحرية الأميركية إلى البحر الأحمر في اتجاه مياه الخليج، بسفينتين حربيتين، في إطار نشر المزيد من القوات في الشرق الأوسط، ضمن سياسة أمنية وعسكرية ضد إيران.

تلك القوات التي وصلت إلى تعزيز "القدرة البحرية للأسطول الخامس للبحرية الأميركية في المنطقة"، وفق البيان، تضمنت السفينة الهجومية البرمائية "يو أس أس باتان"، التي يمكن أن تحمل أكثر من 20 طائرة، وسفينة الإنزال "يو أس أس كارتر هول".

سبق ذلك، في حزيران/يونيو، إعلان البنتاغون، أنّ الولايات المتحدة سترسل مقاتلات إضافية من طرازي "أف-35" و"أف-16" إلى جانب بارجة حربية إلى الشرق الأوسط، في "محاولة لمراقبة الممرات المائية الرئيسية في المنطقة"، وفق الوزارة، بينما حددت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأميركية للصحافيين ممراً محدداً بقولها إنّ "البنتاغون يعزز وجودنا وقدرتنا على مراقبة (مضيق هرمز) والمياه المحيطة".

كانت الولايات المتحدة تمارس ببساطة سياساتها المعهودة في إيصال الرسائل من خلال استعراض القوة في وجه إيران، بالتزامن مع مفاوضاتها معها. ويظهر أن "دبلوماسية الزوارق الحربية" التي مارستها واشنطن في الشهرين الماضيين، من حشد قوة وسفنٍ وعتاد وطائرات، على مقربة من إيران وفي مياه الخليج، كانت تواجه بقوة مماثلة، من جانب البحرية الإيرانية من خلال المناورات التي أجرتها، والأسلحة التي تم الكشف عنها.

الرد الإيراني على "الدبلوماسية البحرية" الأميركية، لم يكن بالأسلوب ذاته، لكنه كان بالصورة التي تضمن انتفاء وجود أي نتائج عملية مؤثرة في المفاوضات من قبل "الزوارق الأميركية". ولذلك، جاءت الصفقة الإيرانية-الأميركية بما هو معلن عنه لصالح طهران بالإفراج عن سجناء لها، ومليارات محتجزة.

لم تأخذ الولايات المتحدة من إيران ما لا تريد الأخيرة إعطاءه، بينما تنازلت واشنطن عمّا كان سابقاً يشكّل مصدر قوةٍ بالنسبة لها وترفض تقديمه، وهو احتجاز الأموال الإيرانية بشكل أساسي. وبمعزل عن كون الصفقة "اختبار نوايا" أم غيره ضمن المفاوضات المستمرة، فإنها أجبرت الأميركي على تبريرها في الوقت الذي يحشد فيه قوته لإرغام إيران، بينما كانت طهران تتعامل معها على أنها خطوة إيجابية في مصلحتها.

في المجمل، فإن ذهاب الولايات المتحدة نحو إبرام الصفقة لم يكن رغبة منها في الإفراج الآن عن السجناء الأميركيين لدى طهران فهذا الأمر مطروح منذ مدة وكان ممكناً سابقاً بصورته الحالية، بل بكون الوسائل التي تجبر إيران على التنازل لم تعد ممكنة، وبات الإفراج عن السجناء مطلباً يفيد عملية الإخراج فقط.

وبذلك، فإن الحشد العسكري البحري الأميركي في الأشهر الأخيرة، يمكن وضعه ضمن مسارين: 

-    أولاً، محاولة لفرض القرار السياسي باستعراض القوة.

-   ثانياً، فشل المفاوضات يعني استخدام القوة في فرض القرار.

يبدو أن المسار الأول هو الأقرب إلى الواقع، لكن مع اختلاف جوهري في مفهوم "دبلوماسية الزوارق" الذي لطالما استخدمته الولايات المتحدة، وهو أن استعراض القوة، كان لتغطية عجز واشنطن في تسيير المفاوضات وفق ما تريد، مع وجود طرف آخر قادر على إبطال مصادر تلك القوة، لا سيما أن إيران لم ترضخ ولم تتراجع أمام استعراض البوارج الأميركي على مقربة منها.

صحيح أن المفاوضات الأميركية – الإيرانية لم تفشل، وتمت الصفقة، لكن التبريرات التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي بعد إبرامها بأن "النهج لم يتغيّر"، كانت تحاكي السقف العالي الذي وضعته الولايات المتحدة لنفسها من خلال حشد قوتها، فقد ظهر أن القوة الأميركية في الخليج كانت لصالح الإفراج عن الأموال الإيرانية، كما ظهر بشكلٍ أساسي أن "دبلوماسية المدافع الأميركية"، عندما يتم مواجهتها بالأسلوب ذاته، تفقد قوتها، وتتكشّف هشاشتها وضعفها.

المصدر: الميادين