2024-11-27 06:57 م

أوقات عصيبة تنتظر السلطة الفلسطينية

2023-07-21

بقلم: حسن نافعة
الوضع الذي آلت إليه حال السلطة الفلسطينية يبعث على القلق، وربما على الإشفاق أيضاً. فقد كشفت التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وعلى مختلف الساحات المحلية والإقليمية والدولية، جملة من الحقائق يمكن تلخيصها وعرضها على النحو الآتي:

أولها: أن "إسرائيل" حسمت أمرها في ما يتعلق برؤيتها لكيفية تسوية القضية الفلسطينية، وقررت إغلاق الطريق نهائياً أمام "حل الدولتين"، غير أنها ما تزال، رغم ذلك، تدّعي حرصها على الإبقاء على السلطة الفلسطينية، وتتحدث عن حاجتها إليها للمساعدة في استئصال المقاومة الفلسطينية المسلحة المتصاعدة في الضفة الغربية.

وثانيها: أن غالبية الأنظمة العربية الحاكمة لم تعد تتمسك بمبادرة قمة بيروت العربية لعام 2002، ومن الواضح أنها ستواصل طريقها نحو تطبيع علاقاتها مع "إسرائيل"، بصرف النظر عن موقف الأخيرة من القضية الفلسطينية.
وثالثها: أن القوى الكبرى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك المجتمع الدولي، ممثلاً في منظمة الأمم المتحدة، لن يمارسوا أي ضغوط لحمل "إسرائيل" على قبول حل الدولتين، ما سيتيح لسلطة الاحتلال المزيد من الوقت لمواصلة إجراءاتها الرامية إلى ابتلاع الأراضي الفلسطينية بالكامل وتصفية القضية الفلسطينية نهائياً.

ورابعها: أن غالبية سكان الأرض المحتلة باتت مقتنعة تماماً أنه لم يعد أمام الشعب الفلسطيني من سبيل آخر سوى حمل السلاح والاعتماد على قواه الذاتية لإجبار "إسرائيل" على الاعتراف بحقوقه الوطنية، خاصة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه.

كانت الحكومة الإسرائيلية الحالية قد عبّرت بوضوح تام عن موقفها من التسوية السياسية للقضية الفلسطينية في مناسبتين مختلفتين:

الأولى: من خلال تصريحات أدلى بها بنيامين نتنياهو أمام جلسة مغلقة للجنة السياسات والأمن في الكنيست الإسرائيلي، كشفت إذاعة "كان" العبرية يوم 26 آذار/مارس الماضي عن تفاصيل بعض ما دار فيها (راجع مقالنا المنشور بعنوان: رسائل نتنياهو إلى كل من يهمه أمر الدولة الفلسطينية).

الثانية: من خلال مقال كتبه بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الحالي وأحد أكثر الوزراء تطرفاً في تاريخ الحكومات الإسرائيلية، ونشرته منذ أيام قليلة مجلة "هاشيولوش" تحت عنوان "خطة إسرائيل الحاسمة". ففي معرض إجابته عن سؤال حول الموقف الرسمي من الدولة الفلسطينية، قال نتنياهو: "يجب على إسرائيل أن تعمل على استئصال هذه الفكرة من الأساس، وأن تسعى بلا كلل أو ملل لقمع طموح الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، بل وقطع الطريق نهائياً أمام هذا الطموح".

أما سموتريتش فقد عرض في مقاله المشار إليه آنفاً تفاصيل خطة من مرحلتين، يرى أن على "إسرائيل" أن تعتمدها لكي يتحقق لها النصر النهائي على الفلسطينيين:

المرحلة الأولى: تتعلق بأراضي الضفة الغربية، إذ يرى سموتريتش أن هذه الأراضي هي جزء لا يتجزأ من "إسرائيل"، ومن ثم فعلى الحكومة الإسرائيلية أن تعلن فوراً عن سيادتها الكاملة عليها، مع الإسراع في الوقت نفسه في بناء كل ما تستطيع من مدن ومستوطنات جديدة لجذب مئات الآلاف من المستوطنين اليهود، معتبراً أن من شأن خطوة كهذه "وضع جميع الأطراف أمام أمر واقع لا رجعة فيه، وإقناع الداخل والخارج أن إسرائيل دولة تمتد من البحر إلى النهر، وأنها وجدت لتبقى، وأن الحلم العربي بتأسيس دولة فلسطينية في الضفة لم يعد قابلاً للحياة".

المرحلة الثانية: تتعلق بالسكان، إذ يرى سموتريتش أن أمام الفلسطينيين 3 خيارات:

الأول: يخص من يقبل منهم التخلي طواعية عن طموحاته القومية ويرغب في الوقت نفسه البقاء في "إسرائيل"، وهؤلاء يمكنهم "البقاء والعيش كأفراد داخل الدولة اليهودية والتمتع بكل الفوائد التي جلبتها" لكن من دون أي حقوق سياسية.

الثاني: يخص من يتمسك منهم بطموحاته القومية ويبدي استعداده في الوقت نفسه للهجرة إلى أي جهة أخرى في العالم، و"على إسرائيل أن تشجع هؤلاء وأن تقدم لهم المساعدات المالية اللازمة".

الثالث: يخص من يرفض الرحيل ويتمسك في الوقت نفسه بهويته الوطنية، وهؤلاء "مكانهم الطبيعي هو القبر أو السجن".

يرى سموتريتش أن خطته هذه هي "الأكثر عدالة وأخلاقية بكل المقاييس التاريخية والصهيونية واليهودية". لكن، ما يدعو للدهشة هنا أن هذه المواقف الإسرائيلية، والتي عبّر عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير ماليته، لم تحرك ساكناً لا على الصعيد العربي ولا على الصعيد الدولي، رغم كل ما تنطوي عليه من تطرف وعنصرية وتحد للقانون الدولي.

فعلى الصعيد العربي، ما تزال وتيرة تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" مستمرة، بل وتنمو باطراد، وأصبحت المملكة المغربية هي آخر الدول العربية التي قررت تبادل العلاقات مع "إسرائيل" على مستوى السفراء، وذلك عقب إعلان الحكومة الإسرائيلية عن قرارها الاعتراف بحق المملكة في السيادة على الصحراء الغربية. صحيح أن دولاً عربية أخرى، أهمها السعودية، لم تقم بعد بخطوة التطبيع الرسمي مع "إسرائيل"، بل ويتردد أن السعودية وضعت شروطاً مسبقة للإقدام على هذه الخطوة الصعبة، لكن بعض المحللين يرى أنها شروط تستهدف رفع الأثمان المطلوبة في المقابل، وهي أثمان تتعلق بمصالح سعودية بحتة، كالحصول من الولايات المتحدة على بعض أنواع الأسلحة المتطورة والتصريح لها بإقامة برنامج نووي للأغراض السلمية، إلخ، ومن ثم فلا علاقة لها بالقضية الفلسطينية.

وقد أشارت تقارير إعلامية نشرت مؤخراً إلى أن الاتصالات السرية بين السعودية و"إسرائيل" لم تتوقف طوال العقد الأخير، وأن عمليات التطبيع غير الرسمي بين الطرفين ما تزال تسير على قدم وساق. كما أشارت هذه التقارير نفسها إلى أن الإدارة الأميركية الحالية لم تفقد الأمل بعد في نجاحها في دفع السعودية إلى اللحاق بركب "الاتفاقيات الإبراهيمية"، بل وما تزال تواصل مساعيها وضغوطها الرامية إلى تحقيق هذا "الإنجاز" قبل انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية في نيسان/أبريل من العام القادم.

أما على صعيد النظام الدولي فيلاحظ أن القضية الفلسطينية ما تزال تحتل موقعاً متدنياً جداً على جدول أعماله. صحيح أن بعض حكومات الدول الكبرى، بما في ذلك الإدارة الأميركية نفسها، بدأ يجاهر علناً بتوجيه بعض الانتقادات اللاذعة إلى حكومة نتنياهو، غير أن هذه الانتقادات ما تزال خجولة ولا يتوقع مطلقاً أن يكون لها تأثير يذكر في مجريات الأمور، أو أن تنجح في حمل "إسرائيل" على وقف عدوانها على الشعب الفلسطيني وعلى أرضه ومقدساته، ناهيك بإجبارها على تغيير موقفها من التسوية وإلزامها بقبول "حل الدولتين".

لكل ما تقدم، أصبحت غالبية الشعب الفلسطيني مقتنعة تمام الاقتناع بأن المقاومة المسلحة باتت هي السبيل الوحيد المتاح لتحرير الأرض المحتلة وإجبار "إسرائيل" على الاعتراف بحقوقه المشروعة، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره.

ولا تنطوي هذه الملاحظة على أي قدر من المبالغة، إذ يمكن التأكد من صحتها ودقتها من خلال التصعيد الذي تشهده المقاومة الفلسطينية المسلحة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، خاصة العمليات التي تقوم بها عناصر لا تنتمي بالضرورة إلى الفصائل الفلسطينية المعروفة أو التقليدية، وأيضاً عبر التفاف الشعب الفلسطيني حول أشكال المقاومة كافة، بما في ذلك أعمال المقاومة الفردية، واحتضانه المتزايد لكل المقاومين من دون تمييز أيديولوجي أو فصائلي، وهو ما بدا جلياً بشكل قاطع عقب الاقتحامات الإسرائيلية المتكررة لمخيم ومدينة جنين خلال الأسابيع القليلة الماضية.

ورغم ذلك كله، يلاحظ أن السلطة الفلسطينية ما تزال متمسكة بمسار التسوية السلمية، وما تزال ترى في المقاومة المسلحة مجرد أعمال "عبثية" لا جدوى منها. المثير للدهشة هنا أن بنيامين نتنياهو كان قد أكد في رده على سؤال حول موقف الحكومة الإسرائيلية من السلطة الفلسطينية، طرحه أحد أعضاء لجنة السياسات والأمن في الكنيست الإسرائيلي في الجلسة المغلقة المشار إليها آنفاً، حين أجاب قائلاً: "إسرائيل لا ترغب في انهيار السلطة الفلسطينية، ولا ينبغي لها أن تسمح بذلك؛ لأن لها مصلحة في استمرار قيام السلطة بالمهام الموكلة إليها"، بل وراح يضيف قائلاً: "يجب أن تكون إسرائيل على استعداد دائم لمساعدة السلطة الفلسطينية مالياً واقتصادياً وتعزيزها، لأنها تقوم بهذه المهام نيابة عنا".

ومن شأن هذا التصريح أن يضع السلطة الفلسطينية في مأزق حقيقي أمام شعبها، وأن يظهرها بمظهر الجهة التي تعمل لحساب الاحتلال، والمطلوب منها أداء وظيفة محددة ألا وهي معاونة الحكومة الإسرائيلية على استئصال المقاومة الفلسطينية المسلحة. 

لذا، يمكن القول من دون أي تجاوز أن السلطة الفلسطينية مقدمة على أوقات عصيبة خلال المرحلة المقبلة. ولأنه لم يعد أمامها الآن، خاصة في ظل الحقائق المشار إليها آنفاً، من سبيل آخر سوى العمل على إعادة تقييم مواقفها وأدوارها، أظن أنه بات لزاماً عليها أن تجيب بوضوح تام عن سؤال بات يلح على أذهان الكثيرين: هل سترضخ السلطة الفلسطينية للرؤية الإسرائيلية التي ترى فيها مجرد عميل أو وكيل يعمل لحساب الاحتلال. وبالتالي تصر على مواصلة النهج نفسه الذي سلكته منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو المشؤومة، أم أنها ستقرر في النهاية تغيير نهجها والانحياز لطموح الشعب الفلسطيني المتطلع إلى جمع شتات حركته الوطنية المشتتة وتوحيد صفوفها حول برنامج موحد لإدارة الصراع مع "إسرائيل"؟ 

الواقع أنني لا أستطيع أن أوجّه اللوم للسلطة الفلسطينية وحدها على الانتكاسة التي ألمّت بالحركة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، لكن أظن أنه بات على الرئيس محمود عباس، والذي يقترب عمره الآن من مشارف التسعين، أن يبادر على الفور إلى اتخاذ قرار شجاع بإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية بما يتناسب مع صمود وطموحات الشعب الفلسطيني الصابر والمناضل.