عندما تتنافس الدول على استضافة «المونديال»، فهي تريد في مقابل إنفاق بضعة مليارات من الدولارات على تجهيز الملاعب ومواءمة بعض البنى التحتية، تحقيق مردود، تحصل عليه من عائدات السياحة خلال الحدث نفسه، وما بَعده. في حال قطر، الدافع إلى الاستضافة يختلف جوهرياً؛ فالمراد هو تحقيق أسبقية في إطار التنافس البَيني الخليجي على الأدوار، مقابل إنفاق هائل لن يُعطي مردوداً مادّياً يُذكر لا خلال الحدث ولا بَعده، فهل يستحقّ الأمر كلّ هذا الإنفاق؟
لعلّ من معالم تشوُّش الحصاد القطري في «المونديال»، أن «البشت» الذي وشّح به أمير قطر، تميم بن حمد، اللاعب الأرجنتيني، ليونيل ميسي، لحظة تتويجه بالبطولة، صار أحد رموز الترويج الثقافي للعرب. كُتبت قصص كثيرة عن مكوّناته وأنواعه، وكيف أن الأرجنتينيين أقبلوا على شرائه. ولكنّ القصة نفسها كان لها وقْع مختلف في أماكن أخرى، حيث تعرّض الأمير لانتقاد من الصحافة الغربية، لعدم تَناسب «الحركة» مع الحدث، خاصة حين قفز ميسي للاحتفال بالكأس، فظَهر كممثّل مسرحي، مع أن فلسفة «البشت» في الخليج تتمحور حول إضفاء رصانة وهيبة على مُرتدِيه. ولكن تلك لم تكن مشكلة للأرجنتينيين الذين استكملوا المشهد في بوينس آيرس برفع رسوم لمارادونا بالغترة والعقال، ما داموا قد نالوا الكأس.
استعرضت قطر إمكاناتها الكبيرة أمام العالم. ولذلك أهمية في الخليج حيث الصورة تلعب دوراً يفوق ما هو معتاد في أماكن أخرى، ربّما لأن تلك البلاد تعاني تاريخياً عقدة القحط والافتقار إلى ما أعطاه الله لدول كثيرة أخرى من جمال طبيعي، وإنْ عوّضها بثروة النفط. لكن أن تكلّف حفلة علاقات عامة اسمها «المونديال» دامت ثلاثة أسابيع فقط، 220 مليار دولار، بحسب أغلب التقديرات، فهذا جنون. وحدها المنافسة بين دول الخليج الغنية، تبرّر إنفاق مبلغ كهذا لتحقيق أسبقية على المنافسين. وفي هذه الحال، المنافس الرئيس هو الإمارات، التي تسعى الدوحة إلى مزاحمتها على دورها منذ توسيع «الخطوط الجوّية القطرية» لمنافسة «طيران الإمارات» و«الاتحاد للطيران»، وبناء «مطار حمد الدولي» كمُعادل لـ«مطار دبي الدولي». لكن هذا النوع من المنافسات لا يُحسم أو تُعدَّل موازينه بضربة واحدة. هو يحتاج إلى وقت طويل، ويتطلّب تحوّلاً في المجتمع القطري ليعتاد على تقبّل ما صار الإماراتيون يتقبّلونه، أو أن يتعلّم المجتمع المذكور الفصل بين حياته البدوية وبين استضافة مظاهر غريبة عنه، من دون أن تُثار حساسية لديه. وهنا، قد تكون ملكة جمال كرواتيا، إيفانا نول، التي ظلّت تجول بلباس البحر بين المدرّجات منذ بداية «المونديال» إلى نهايته، ذات فائدة.
هذه المنافسة هي التي جفّلت الإمارات التي لم تكن سعيدة حين تقاطَر القادة العرب إلى الدوحة لافتتاح الحدث، فغاب الرئيس محمد بن زايد، وإنْ حضر لاحقاً للتعويض. فالخليج مكوّن من قبائل تتعارف حيناً، وتتنافس حيناً آخر، ويحسد بعضها بعضاً أحياناً، وتريد لنفسها ما عند غيرها في كلّ حين. في تلك البيئة القاسية، تَرسّخ في الوعي عبر الزمن أن البقاء في الصراع على الموارد، هو للأقوى، وأن من الطبيعي أن يستخدم القوي قوّته ليبزّ الآخرين. وما ينطبق على الإمارات ينسحب على البحرين التي غاب ملكها عن الافتتاح، فيما كلتا الدولتَين لم تعيدا السفراء إلى الدوحة على رغم «مصالحة العلا». ولأن قطر لم تصل بعد إلى مرحلة التمكّن من لعب دور اقتصادي منافس للإمارات، فإن الكثير ممّا بُني لأجل «المونديال» لن يُستخدم في أيّ وقت قريب، إلّا إذا استطاعت الدولة استضافة الألعاب الأولمبية خلال السنوات القليلة المقبلة. ستظلّ الكثير من الغرف الفندقية فارغة، وقد لا تُستخدم العديد من الملاعب مرّة أخرى، ولهذا يجري الحديث عن تفكيك بعضها وإهدائه إلى دول فقيرة. وحتى الحافلات التي زاد عددها على ثلاثة آلاف لن يكون لها عمل. وحده المترو سيفيد في تنقّلات العمّال الأجانب، ويخفّف الضغط على حركة السير للقطريين، على رغم أن الكثير من هؤلاء العمّال صاروا بلا عمل، وسيعودون إلى بلدانهم.
أما بالنسبة إلى الدور السياسي، فلم تكن قطر بحاجة إلى «مونديال» لتأكيده أو توسيعه، إذ كانت دبلوماسيتها التي تَوفّرت لها شروط نماء مناسبة، أهمّها الذراع المالية الطويلة، والتكليف الأميركي بالتفاوض مع الخصوم، فاعلة جداً خلال السنوات السبع والعشرين الماضية، منذ تولّي الأمير الوالد حمد بن خليفة الحُكم، حيث توسّطت الإمارة في حروب، وموّلت أخرى، ورعت تسويات سياسية في كثير من النزاعات. ومع هذا، كان حضور فلسطين البارز جزءاً من الحملة القطرية التي أتاحت فرصة كبيرة لإظهار رفض العرب للتطبيع، فهل كان ذلك للتكفير عن التطبيع القطري المتمثّل في إقامة خطّ طيران مباشر للمشجّعين الإسرائيليين إلى الدوحة، أم استمراراً للتمايز في السياسة القطرية تجاه القضية الفلسطينية عن دول التطبيع الأخرى؟ في الحالتَين، تربح قطر.
ولعلّ أول مؤشّرات الدور القطري المعزَّز، كان التهديد بقطع إمدادات الغاز إلى أوروبا، وخاصة إلى بلجيكا، نتيجة التحقيق في اتّهامات لنائبة من نواب رئيس البرلمان الأوروبي، اليونانية إيفا كايلي، بتلقّي رشى من الدوحة للترويج لها في ذلك المحفل، الأمر الذي ارتدّ سلباً على العلاقات القطرية - الأوروبية ككلّ، إذ قرّر البرلمان الأوروبي وقْف العمل التشريعي للإعفاء من التأشيرة مع قطر، ومنْع أيّ مسؤول أو ممثّل تجاري قطري من دخول مقرّه، ليأتي ردّ الإمارة سريعاً في بيان رسمي، يقول إن اتّخاذ إجراءات كهذه قبل انتهاء المحاكمة في القضية سيؤثّر على التعاون الأمني الإقليمي العالمي، وعلى المحادثات الجارية حول الطاقة العالمية، ويَنصح الاتحاد، ولا سيما بلجيكا التي تقوم بالتحقيق، بأن يضعا في ذهنهما أن قطر مزوّد أساسي لأوروبا بالغاز، في الوقت الذي تتعثّر فيه إمدادات الغاز الروسية إلى القارّة، بسبب حرب أوكرانيا.
في ما عدا ذلك، أُعطي الفضل للدوحة بتنظيم واحد من أفضل «كؤوس العالم»، حتى إنْ كان أيضاً الأكثر إثارة للجدل نتيجة عوامل عدّة، من بينها البيئة الاجتماعية القطرية المختلفة عن الأماكن التي اعتادها المشجّعون في الدورات السابقة. ساعد في تَحقّق هذه الأفضلية، النهائي المثير بين الأرجنتين وفرنسا، ومن ثمّ فوز الأولى بقيادة ميسي بكلّ رمزيته العالمية، التي وضعها أمير قطر تحت عباءته من خلال «البشت» الذي أهداه للاعب. كانت تلك اللحظة، ذروة الحصاد الترويجي القطري.
حسين ابراهيم / الاخبار اللبنانية