2024-11-27 12:38 م

متأسِّف فأنا عربيٌ…

2022-10-08

بقلم: سهيل كيوان
في زيارة إلى قريب لي يعمل ممرِّضاً في إحدى المؤسسات التابعة إلى وزارة الصحة داخل منطقة 48، وجدته قد وصل للتَّو من عمله، وعلى الطاولة أمامه تلمع شهادة في إطار زجاجي، تحمل اسمه تحت عنوان «العامل المتميّز»!
هذه الشهادة تُمنح للعمال والموظفين الذين أثبتوا إخلاصاً ومهنية عالية، وتغلّبوا على مشاكل وتعقيدات طرأت خلال العمل، وأثبتَ قدرة على التعامل مع فريق العمل بمرونة.
«كل احترام ومبروك لك التميّز، أنا أعتز بك، هذا إنجاز ممتاز!»
ثم واصلت المديح: مليح أن تكون مميّزاً وبحوزتك شهادة تقدير، يعني هذه يمكن أن تكون سبباً في قبولك إلى مكان عمل جديد أفضل، ويرتفع راتبك، وتصبح أكثر أحقّية من غيرك في وظيفة أرقى».
ابتسم ابتسامة مُتعَبة مع إيماءة من رأسه، تعكس حالة من عدم الرضا، ثم استرخى في مقعده وراح يتحدّث: أنا ما عادت تهمّني هاي الشهادات، هاي المرّة الثالثة اللي بحصل فيها على لقب العامل المتميز، قلت للإدارة، خلوها إلكم.. بلّوها واشربوا ميّتها، أنا شو بدّي فيها، ولكنّهم ردّوا: لا.. لازم تاخذها وأن تفتخر بها!».
«يا عزيزي، مفعول هذه الشهادة معكوس، لأنها زادت من شعوري بالظلم وبالتمييز العنصري، فما دمتُ أنني حصلت ثلاث مرات على لقب العامل المتميّز، منذ فترة الكورونا حتى الآن، فليش ما بتقدّم في عملي؟ ليش الجدار العازل والفاصل بيني وبين التقدم في الوظيفة يرتفع سنة بعد سنة؟».
قبل سنوات قليلة، كانوا يحاولون إخفاء العنصرية وإلباسها أقنعة، كنا نبتسم بخبث عندما نسمعهم يبرّرون العنصرية بحجج واهية، ولكنهم على الأقل كانوا يحاولون إخفاءها، ولكنها اليوم صارت صريحة، يوجد سُلّم يتربع في قمته اليهودي ذو الأصول الأشكنازية، يليه اليهودي الروسي، فاليهودي الشّرقي، وأخيراً اليهودي الأثيوبي، ثم يأتي السّلم الأدنى، وهو لطوائف العرب، يقف على رأسهم من يقدّم خدمات أمنية مثل الخدمة العسكرية، وبرتبة عالية، هذا مفضّل على العرب كلهم، بغض النظر عن الخبرة والمؤهلات والشّهادات، ويقبع في آخر السّلم العربي المسلم الذي لم يخدم في الجيش، فهو في القاع مهما كانت مؤهلاته المهنية.
في الماضي كانوا ينسبون التمييز العنصري إلى ما يسمونه «الهوّة بين الثقافات والحضارات، والهوة في التعليم، والفروق الاجتماعية، ثم صاروا يتّهمون العرب أنفسهم بأنهم لا يعرفون كيف يستغلّون ما تقدمه الحكومة لهم من هبات وميزانيات.
وصدّق بعض السُّذج هذه الحجج، وصاروا يتهمون قادتهم بالعجز والجهل والفساد، وبأنهم يسرقون ما تقدمه الدولة لنا ويبرّئون العنصرية.
بعد قانون يهودية الدولة، كشفت العنصرية عن أنيابها المتوحشة بدون لفٍّ ولا دوران، وصاروا يعترفون بها في أمكنة العمل كأمر عادي وقانوني «أنت ممتاز يا (….) أنت أفضل من يقوم بعمله هذا، الجميع يعتمد عليك، فأنت مهني وبحوزتك شهادات عالية، من جامعات محترمة، ولديك تجربة طويلة في أفضل وأكبر مستشفيات البلاد… ولكن عندك مشكلة واحدة».
-لا حاجة للتوضيح، المشكلة أنني «عربي».
يعترفون عينك عينك، نعم صحيح، هذه هي المشكلة، لو لم تكن عربياً لكنت جديراً بأن تتقدم، ولكن لا تحلم بالتقدم أكثر في السّلم الوظيفي، فقد وصلت السقف.
يضيف محدثي وشهادة التميّز تلمع تحت نور المصباح بيننا: في إحدى المؤسسات الطبية الخاصة بالمسنين التي عملت بها، دعتني مديرة المؤسسة لاجتماع على فنجان قهوة، وقالت لي: اسمع يا (…..) أنت رائع وممتاز، لا أظن أن نجد من هو أفضل منك، ولكن سأكون صريحة معك لأنني أعتبرك مثل ابن لي…
-مثل ابنها…!؟
-نعم مثل ابنها، فهي سيدة اقتربت من سن التقاعد في حينه، وكانت تحترمني جداً، قالت لي: لا تحلم بترقية إلى نائب مدير أو إلى مدير، لأنك عربي، أريدك أن تكون على قناعة راسخة بأنك لن تتقدم إلى منصب أكبر لهذا السبب!
قلت لها: أعتذر لأنني عربي، أنا آسف جداً…
-اسمع يا (…) أعلم أن هذا شعور سيّئ جداً، ولكن الوظيفة التي تحلم بها صارت جاهزة ومفصّلة على مقاس شخص لم يحصل حتى هذه اللحظة على شهادة تؤهله للعمل، وعليه توصيات، ويوجد قرار أعلى، ويبدو أنه ذو رتبة عسكرية عالية، أنهى خدمته في الجيش للعمل في الحقل المدني.
قلت: ورغم ذلك، يوجد عرب يصلون إلى وظائف عالية…
-هذا صحيح، ولكن هذا واحد من ألف ممن يستحقون. وعموماً، العربي الذي يطمح بأن يتقدم في السلم الوظيفي، يجب أن يكون قد قدّم خدمة ما، كأن يكون قد خدم في الجيش مثلاً، أو قدّم خدمات أخرى لا أعرفها قد تكون في المجال المدني، وقد يكون مميزاً إلى درجة لا يمكن تجاهلها.
وبصراحة، للأسف، فالعربي من الطراز الذي تخرّج من الجيش وجاء إلى الحقل المدني.. يكون أسوأ في تعامله من اليهودي الذي وصل المنصب نفسه؛ لأن العربي يسعى طيلة الوقت لإثبات ولائه، وذلك أنّه محافظ على التدريج العُنصري، وفي الواقع لا يبقى من كونه عربياً سوى اسمه، هذا إذا قبل أن يسمّى عربياً أصلاً، فبعضهم يتنكّر لقومه، ويتمسك بانتمائه الطائفي في خدمة جليّة لسياسة الأسياد.
الآن يريدون منا اعترافاً بشرعية العنصرية، تصوّر أن نعترف بأنهم أفضل منا بسبب الجينات، حتى قبل أن يولدوا، يريدون أن يزرعوا فينا شعوراً بالذنب والنقص، يريدون منا أن نعتذر لكوننا عرباً، أن نرضى بقاع التصنيفات الاجتماعية، هذا الاتجاه تفاقم بعد الوحشية التي رافقت قمع انتفاضة الشعوب العربية خلال ما سمي الربيع العربي.
في جنوب أفريقيا، البلد الذي كان قد سنّ 300 قانون لتطبيق سياسة الفصل العنصري، دفع الشعب الكثــــير من التّضحيات ثمن حريّته، إلى أن فرض حق السّود في المساواة الكاملة مع البيض، حتى رئاسة الدولة ومؤسساتها.
يوجد بين هؤلاء ملايين ممن عاشوا وولدوا في أجواء العبودية وثقافتها وقوانينها، وما زال كثيرون منهم غير قادرين على استيعاب حرّيتهم ومساواتهم بالرجل الأبيض، وما زالوا ينحنون أمام السّيد الأبيض بتعظيم كبير، معترفين بدونيــــتهم، وبأنّ لون بشرتهم هو الســــّبب، وقــــد تجد من بين هؤلاء من يتمنى عودة حكم الرجل الأبيض إلى الحكم بسبب فساد موظف أسود أو خلاف تافه مع ابن جلدته، وربما سيقول لك إن وضعه المادي كان أفضل ببضعة دولارات، وأن حقبة العبودية كانت مريحة وضمانة لدخل أفضل.
بعض العرب يعترفون بأنهم أقل درجة من اليـــــهود، هكذا خلقة ربّانية في الـ(دي إن إيه)، ويصفُ هؤلاء من يصرُّ على أن يكون مساوياً لليهودي في كل شيء، بأنه متطرّف وغيــر واقعي، وسوف يخرّب بيتنا إذا واصل مطالبته بالمساواة التامة…