تقرير أحمد حاج علي
تُسجل استعداداتٌ أوكرانية لهجمات متعددة جديدة على طول الجبهة الممتدة بطول 1500 كيلومتر، وفي مختلف الاتجاهات التي تشهد استقدام قوات ومعدات وآليات عسكرية إضافية متبادلة من كلا الجانبين. وعلى الرغم من الخسائر الفادحة في عديد وعتاد القوات الأوكرانية خلال التقدم والنجاح النسبي في أثناء هجوم الأيام الخمسة على محاور إيزيوم بالاكليا، يرجّح المراقبون العسكريون المطلعون على مسرح العمليات الميداني حصول هجوم أساسي مركزي آخر محتمل على جبهة مقاطعة زاباروجيا، ترافقه في آن واحد هجمات إشغال ومناورات تضليل مساعدة ثانوية جنوب غربي الدونباس.
وتتفاوت التوقعات في تحديد ساعة الصفر لتلك الهجمات، إلا أنّ القوات المسلحة الأوكرانية تحاول عدم إعطاء القوات الروسية المرابطة على طول تلك الجبهات فرصة لتعزيز مواقعها الدفاعية وإعادة تجميع وتشكيل وتموضع قواتها، إلا أنّ القيادة الروسية قد استقت دروساً عملياتية من مجريات أحداث الأسبوع الأخير، وهي بالتالي في انتظار الخطوة الأوكرانية التالية.
بعد استنفاد معارك الأيام الخمسة على محاور بالاكليا إيزيوم التي باتت بيد الأوكرانيين وعلى محور كراسني ليمان التي فشل التقدم والهجوم الأوكراني فيها حتى الآن، تراجع زخم تقدم القوات المهاجمة التي باتت تتعرض لضربات صاروخية ومدفعية وجوية روسية محكمة، فقد سجل 13 من أيلول/سبتمبر تراجع حدة الهجوم الأوكراني على كراسني ليمان، فيما تحاول قوات كييف التقدّم بعملية التفاف عبر الضفة اليمنى لنهر سيفيرسكي دونيتس، ونجحت تلك القوات في دخول بيلاغوروفكا إلا أنّ هذا التقدم الضعيف لا يغير في مجمل الوضع الميداني، لا سيما أن تلك القوات لم تتمكن من تثبيت مواقعها بسبب القصف الروسي العنيف الذي تتعرض له.
وتجدر الإشارة إلى أن مقاتلي كتيبة متطوعي منطقة كوبان الروسية أثبتوا كفاءة قتالية وقدرة عالية على الصمود والمواجهة، فهذه الكتيبة تلقت الموجة الأولى للهجوم الأوكراني وكانت المجموعة القتالية الأخيرة التي بقيت في مواقعها، فيما انهمكت تشكيلات القوات الروسية الأساسية في عملية إعادة التموضع والانسحاب.
وبالانتقال جنوباً إلى محور سوليدار باخموت أرتيوموفسك، فقد اعتمدت القوات الروسية على تشكيلات الفاغنر والشركات الأمنية الخاصة، التي نجحت في الالتفاف حول باخموت من الجنوب، وسيطرت على نيكولايفكا، وهي تتقدم في اتجاه زايتسوفا وكورديوموفكا من الجنوب والشرق.
وفي اتجاه دونيتسك، كانت المعارك والمواجهات أقل حدة، فبينما تستمر القوات الروسية في استهداف وتدمير تحصينات ومرتكزات القوات الأوكرانية ما بين خطي الدفاع الثاني والثالث شمالي دونيتسك، بدأت خطوط الجبهة الساخنة تنتقل بالتدرّج إلى الجنوب، حيث يحاول طرفا المواجهة تعزيز إمدادات قواتهما واستقدام المعدات والآليات الحربية والتشكيلات القتالية نحو خط الجبهة المستحدث.
من ناحية ثانية، شهدت محاور جبهة خيرسون في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر محاولة أوكرانية جديدة لاستطلاع فعالية دفاعات القوات الروسية بالنار، باستخدام قوة صغيرة نسبياً مؤلفةٍ من بضعِ سرايا وعشرات المدرعات، حاولت تحقيق خرق في اتجاه دوفيدوفا لتثبيت رأس حربة، لكنها تعرّضت لقصف روسي عنيف أحبط تقدّمها فاضطرت إلى التقهقر والانسحاب بعد تلقيها خسائر فادحة.
يبدو أنّ الأركان الأوكرانية تقوم بهجمات محدودة على محاور في اتجاه خيرسون بهدف شغل القوات الروسية، ومنعها من نقل تشكيلات من هذا الاتجاه إلى منطقة اهتمام الأركان الأوكرانية الأساسية، مع الأخذ بالاعتبار أن خيرسون لا تزال هدفاً أوكرانياً، حيث توافرت مؤشرات عن تركيز حشد قوات مكوّنة من 3 آلاف مقاتل أوكراني على الأقل مدعومة بفرقة دبابات باتجاه بالوغي وتوكماك في مقاطعة زاباروجيا التي شهدت تكثيف عمل طائرات الاستطلاع الأوكرانية.
نستنتج من تلك التحرّكات أن الهجوم الأساسي متوقع في زاباروجيا، وقد يبدأ في الساعات القلية المقبلة.
القوات الأوكرانية تحاول تنفيذ سيناريو خرقها الأخير في بالاكليا بوجود أهداف أكثر استراتيجية في زاباروجيا، فإن تمكنت القوات الأوكرانية من تنفيذ هجوم ناجح على هذا المحور في اتجاه ميليتوبول وبريديانسك، يمكنها المراهنة على تحقيق انهيار دفاعات القوات الروسية على طول الجبهة الجنوبية.
أما في حال أخفق هذا الهجوم فسوف يصبح إنجازها الأخير في إيزيوم من دون فائدة من الناحية الإستراتيجية، بل يصبح تموضع ونفوذ القوات الأوكرانية في حالة أسوأ مما كانت عليه في الثامن من أيلول/سبتمبر أي قبل تحقيقها خرق محور بالاكليا وإيزيوم. كما أن معطيات وتوقّعات خبراء عسكريين تفيد بأنّ القوات الروسية في حالة جاهزية في انتظار التعامل وتدمير القوة الأوكرانية المهاجمة ما يعيد خلط الأوراق ويبدد النجاحات الميدانية الأوكرانية الأخيرة.
من الضروري توضيح حيثيات أحداث هجوم الأيام الخمسة الأخير، التي تحتاج إلى قراءة موضوعية من دون مبالغة أو تحيز.
بالنسبة إلى المعلومات الاستخبارية التي أدت إلى تحديد أماكن تموضع القوات الروسية قبل بدء الهجوم الأوكراني الأخير، فإنّ إمداد الاستخبارات الأميركية والبريطانية القوات الأوكرانية بالمعلومات ليس بسر، ومنها بيانات الأقمار الصناعية وقاعدة معلومات تنصت.
أما مناورة التضليل الأوكرانية، فتمثّلت في ترويج معركة "تحرير خيرسون" انطلاقاً من نيكولايف، ما أدى إلى إرسال الأركان الروسية قوات لتعزيز تلك الجبهة في هذا الاتجاه، من احتياط القوات الروسي المخصصة لهذه الجبهة، فيما كانت وجهة القوات الأوكرانية هي خاركوف وإيزيوم. المعلومات المتوافرة من الميدان تفيد بأنّ القيادة العسكرية الروسية لم تعتمد في الدفاع عن خيرسون على إنشاء تحصينات ومنشآت ثابتة كان من الممكن أن تصبح هدفاً مشخصاً لقوات استطلاع الناتو، بل اعتمدت وتعتمد حتى الآن على الدفاع التفاعلي المرن، ولا سيما أنّ جغرافيا المنطقة تصب في مصلحة القوات الروسية التي تمكنت، على قلة عديدها المنتشر في هذا الاتجاه، من صد الهجمات الأوكرانية كافة على خيرسون.
يؤكد ذلك أن القوات المهاجمة في أكثر من أربع محاولاتِ تقدّم أوكرانية جادّة من نيكولايف إلى خيرسون، كانت تضطر إلى عبور منطقة سهلية مكشوفة، ما يجعلها أهدافاً سهلة مشخصة للمدفعية الثقيلة والقوات الصاروخية والمسيرات وسلاح الجو الروسي، حيث تكبدت القوات الأوكرانية المهاجمة، وما زالت خسائر فادحة.
هدف مهاجمة خيرسون لا يزال يراود القيادة الأوكرانية، ومن خلفها مشغلوها من دول المحور الأنغلوسكسوني، فالقيادة العسكرية الروسية لم تسحب قوات لها من اتجاه إيزيوم-خاركوف لتعزيز تموضع قواتها في خيرسون إطلاقاً.
لا بد من إعطاء تقييم ميداني مستند إلى العلوم العسكرية، وتسليط الضوء على أداء القوات الروسية التي لم يخفَ عليها هدف الهجوم الأوكراني منذ ساعاته الأولى. نعم، لم تنجح الاستخبارات العسكرية الروسية في تحديد موقع انطلاق واتجاه الهجوم قبل حصوله، إلا أن الأركان الروسية قد نفّذت عملية انسحاب تكتيكية نظيفة بالغة الدقة، تسجل كإنجاز عالي المستوى يدرس في الكليات والأكاديميات العسكرية، فتجنّبت المواجهة المباشرة المديدة مع القوات المهاجمة، وأنزلت قوات مظلية خلف خطوط القوات المهاجمة لتغطية الانسحاب النظيف بالاستعانة بألوية وكتائب المتطوعين، وتمكنت من سحب معظم آلياتها الثقيلة بأقل نسبة خسائر ممكنة، بينما بلغت الخسائر الأوكرانية بين يومي 8 و11 من أيلول/سبتمبر أكثر من 4 آلاف قتيل و8 آلاف جريح. فضلاً عن أنّ مقدمة وميمنة وميسرة القوات الأوكرانية المهاجمة في المساحة التي سيطرت عليها وتقدر بـ4 آلاف كيلومتر مربع أصبحت مكشوفة أمام الضربات الروسية المحكمة.
أما فيما يتعلق بمحاور اتجاه خاركوف تحديداً، فنذكِّر بأنّ القوات الروسية كانت قد سيطرت على تلك الضواحي وانسحبت منها مراراً منذ بدء العملية العسكرية.
وتجنبت القيادة العسكرية الروسية بانسحابها كشف قواتها أمام ضربات مدافع الناتو وراجمات "الهايمارس" الأميركية ومسيّرات "البيرقدار" التركية وغيرها، ولم تنجح القوات الأوكرانية المهاجمة في قطع طريق الانسحاب حتى باستهدافها الجسور والمراكز العسكرية، التي كان معظمها قد أخلي بعد علم الأركان الروسية بتفاصيل خطة الهجوم الأوكراني-الغربي وتقييمه منذ بدايته.
ولمزيد من التوضيح نشير إلى أنه ليس سراً أنّ الأركان الروسية تعاني نقصاً في العديد البشري، خصوصاً أنّ روسيا لم تعلن التعبئة العامة بعد، ولم تستدعِ الاحتياط. كذلك، فإن قيادة القوات المسلحة الروسية ترى أن إرسال مجندي الخدمة الوطنية الإجبارية إلى الجبهات يخالف القانون، وقد عاقبت عليه عدداً من الضباط الكبار، فروسيا تعتمد في تشكيلاتها على المتعاقدين النظاميين، ومعظمهم من الضباط وضباط الصف، إضافةً إلى تشكيلات القوات الشعبية لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وألوية من المتطوعين الروس.
وينصح عدد من ممثلي النخب الوطنية والخبراء العسكريين الروس القيادة بإعلان التعبئة العامة واستدعاء جزء من الاحتياط لإنجاز الحسم أسرع، في الوقت الذي تقوم فيه الدول الغربية بتدريب عدد كبير من الجنود الأوكرانيين وتطمح إلى رفع عديد القوات المسلحة الأوكرانية إلى نصف مليون مجند. بيد أن القيادة الروسية لا تزال ترى أنّ استدعاء الاحتياط وإعلان التعبئة العامة قد يكون فيهما خطر استنزافها، ما تحاول تجنبه حالياً، فهو بمثابة إعلان الحرب، وروسيا لم تعلن الحرب حتى الآن، وتسمي كل ما تقوم به قواتها عملية عسكرية خاصة محدودة.
أما فيما يتعلق بصعوبة الإمداد اللوجستي لدى الجيش الروسي، فإنّ من أهداف الانسحاب الذي نفذته القوات الروسية تلافي خطر استهداف خطوط الإمداد. ولقد أثبتت تفوقها في القيام بعمليات إنزال قوات مظلية بسرعة تفوق القدرات الأوكرانية، ما أسهم في إنجاح عملية الانسحاب. وفي الوقت نفسه، أصبحت القوات الأوكرانية المهاجمة هي التي تعاني بفعل طول امتداد خطوط الإمداد اللوجستي وتعرّض قوافلها للضربات الروسية.
لقد روج الإعلام الغربي والأوكراني في الآونة الأخيرة لسلسلة عمليات واستهداف للمناطق الحدودية الروسية داخل البعد الجغرافي الروسي، ولا سيما في المناطق المحاذية لمقاطعة خاركوف، كمقاطعة بيلغورود الروسية، في محاولة لإثارة الذعر لدى سكان تلك المناطق.
وبهذا الصدد، لا يرى الخبراء المتابعون أن هناك تهديداً جاداً للمناطق الروسية الحدودية، ويؤكدون أنّ الترويج الأوكراني-الغربي هدفه التهويل، وأنّه يندرج في إطار الحرب النفسية، إذ إنّ أي خرق أوكراني للحدود الروسية سيكون سبباً وجيهاً يدعو القيادة السياسية الروسية إلى إعلان التعبئة العامة واستدعاء الاحتياط. وهذا يعني أخيراً إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا، وحسم المواجهة عسكرياً وإغلاق قنوات التواصل الدبلوماسية كافة مع الغرب، ولهذا الأمر حسابات يعيها قادة الدول الغربية المعادية لروسيا، ومن المستبعد أن يكونوا على استعداد للذهاب في هذا الاتجاه.