2024-11-27 04:41 م

احتمالات وشروط انتفاضة جديدة شاملة

2022-09-04

بقلم: نهاد أبو غوش
خلال الأسابيع القليلة الماضية، دأبت وسائل الإعلام العبرية، وبشكل يومي، على إفراد مساحات واسعة للتطورات الأمنية والعسكرية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، سواء من خلال تغطية عمليات جيش الاحتلال ونقل تصريحات القيادات السياسية والعسكرية وقراءتهم لمدلولاتها، أو من خلال مقالات الرأي والتقارير والتحليلات الموسعة التي ذهب بعضها إلى القول أن الضفة دخلت في مرحلة الانتفاضة الثالثة أو باتت تتهيأ لها. وألمحت بعض المصادر العبرية المرتبطة بالدوائر الأمنية إلى احتمالات قيام جيش الاحتلال بعملية عسكرية واسعة على غرار عملية "السور الواقي"، وقد تكون حملة محدودة في بعض المناطق للقضاء على ظاهرة ازدياد التشكيلات الفلسطينية المسلحة، وانتشارها في مختلف المدن والمحافظات، وعجز السلطة الفلسطينية إزاء ما نسميه نحن بلغتنا "الازدياد الملحوظ في عمليات المقاومة"، أو عدم رغبتها بحسب بعض التقارير في التصدي لهذه الظاهرة من خلال جمع السلاح أومنع المسلحين من التصدي لقوات الاحتلال خلال عمليات الاقتحام اليومي في جميع المناطق الفلسطينية بدون استثناء بما في ذلك مراكز المدن المصنفة (أ).

ثمة كثير من الصحة والمصداقية في التقديرات الإسرائيلية سواء صدرت عن محللين وإعلاميين، أو عن جهات أمنية مختصة، ولا سيما عند ارتباط هذه التحليلات بمعلومات ثابتة ومدققة ومن بينها استشهاد 85 فلسطيينيا في مختلف مناطق الضفة منذ بداية العام، وإلقاء أكثر من ألف زجاجة حارقة (مولوتوف)، وتسجيل عشرات حوادث إطلاق النار سواء خلال التصدي لاقتحامات الاحتلال، أو بمبادرات متفرقة ضد الجيش والمستوطنين. لكن الدوائر الإسرائيلية غالبا تتجاهل الأسباب الحقيقية لنشوء هذه الظاهرة وتطورها، فهي عادة تعزوها لعمليات التحريض أو بسبب صراعات الفصائل الفلسطينية لكسب مزيد من التأييد وسط الجمهور الفلسطيني أو تحقيق مكاسب تكتيكية. وتتجاهل هذه الدوائر السبب الرئيسي لكل أشكال العنف والتوتر وهو الاحتلال وممارساته القمعية والاستفزازية التي تساهم في مراكمة عوامل السخط ومشاعر الغضب والقهر لدى الفلسطينيين في ظل انسداد الآفاق أمام اي حل سياسي قريب، وإصرار إسرائيل على الحلول الأمنية والعسكرية، ورفضها البحث في أية فرص لاستئناف مسيرة التسوية حتى في ظل شروطها المجحفة والمنحازة لإسرائيل.

وعلى الرغم من تجميد تطبيق "صفقة القرن" وسحبها ظاهريا من التداول، إلا أن حكومة لابيد- بينيت ومن قبلها حكومة نتنياهو، سعت لتطبيق الصفقة في الواقع وعبر التطبيقات العملية من خلال مصادرة مزيد من الأراضي، وتسريع وتيرة البناء في المستوطنات بما يشمل بناء أبراج سكنية، وتشريع ما كانت يسمّى " البؤر الاستيطانية غير القانونية"، وتسليح المستوطنين وإطلاق العنان لهم لفعل ما يريدون بما في ذلك استباحة الدم الفلسطيني كما جرى في عملية إعدام الشهيد علي حرب في سكاكا / سلفيت،ومواصلة تهويد القدس ومحاولات تغيير الوضع القائم فيها بما في ذلك مخطط التقسيم الزماني والمكاني، مجمل هذه العمليات تمثل تهديدا لوجود الفلسطينيين وبقائهم على أرضهم علاوة على ما تمثله من استفزاز لكرامتهم الشخصية والوطنية، وإهانة لإنسانيتهم واستهانة بوعيهم وحقوقهم، ومساس بمقدساتهم، وبالتالي يمكن فهم هذه العمليات بوصفها رد فعل طبيعيا على ممارسات الاحتلال ، وفي هذا المجال تجدر الإشارة إلى ما نصّت عليه قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثاثة والعشرين، وأكدتها دورات المجلس المركزي بأن العلاقة الطبيعية بين الشعب الخاضع للاحتلال ودولة الاحتلال هي علاقة رفض ومقاومة، ولا يمكن أن تكون علاقة قبول واستسلام، وبالتالي فالمقاومة هي الأصل بينما التهدئة والسكون والتعايش هي الاستثنائية.

ثمة مبالغة مقصودة من قبل سلطات الاحتلال في الحديث عن تصاعد العمليات، يقول المراسل العسكري ألون بن دافيد في صحيفة "معريف" أن كل فتى فلسطيني يقتله الجيش ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره يجري تصويره وكأنه "مخرب كبير"، وكل اقتحام لاعتقال مطلوبين في عمق المناطق الفلسطينية يُصوّر وكأنه احتلال لجبل الشيخ، وتهدف هذه المبالغة لتبرير سياسات القتل والقبضة الحديدية المشددة وتسويغ سياسات التوسع والاستيطان والتنصل من اية استحقاقات لأية عملية سياسية مستقبلية، أو أنها تأتي إما لخدمة الأجندات الحزبية والشخصية لبعض القادة في موسم الانتخابات.

أما بشأن اندلاع الانتفاضة الثالثة، فتجدر الإشارة إلى أنه لا توجد وصفة محددة  أو معيارية للانتفاضة، فالانتفاضة هي حالة سياسية مجتمعية وكفاحية تعبر عن رفض الشعب الخاضع للاحتلال لهذا الاحتلال، واستحالة التعايش معه، وفي تاريخ الكفاح الفلسطيني كثير من موجات الانتفاضات  وليس الانتفاضتين الكبريين ( انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى) اللتين درجت العادة على تسميتهما بالانتفاضتين الأولى والثانية،  ولكن ثمة قواسم مشتركة في هذه الانتفاضات واهمها حصول إجماع وطني على خيار الانتفاضة بما يشمل القوى والفصائل والهيئات والمؤسسات من جهة والتجمعات السكانية من جهة أخرى، وشمول الأعمال الانتفاضية لكل الأراضي المحتلة، وصبغ كل مظاهر الحياة بما في ذلك الاقتصاد والتعليم والحياة الاجتماعية بطابع الانتفاضة الذي يشمل حتى منظومة القيم، واستغراق هذه الحالة الكفاحية فترة طويلة من الزمان لا أن تكون مجرد هبة عفوية، وأن تحمل هذه الانتفاضة برنامجا واهدافا ملموسة ومحددة وذلك يتطلب وجود قيادة موحدة تدير هذا النضال لتحقيق الأهداف، كما أن من أهم خصائص الانتفاضة المشاركة الشعبية الكثيفة واليومية وعدم اقتصار الفعاليات على النخب والأفراد ولا حتى التنظيمات وحدها.

من السهل الاستخلاص في ظل الواقع الحالي الذي نعيش أن العوامل الموضوعية لاندلاع الانتفاضة قائمة ومُلحّة بل هي ضاغطة، في حين أن العوامل الذاتية غير ناضجة بسبب الانقسام وتضارب الخيارات السياسية، لذلك سوف نكون على الأرجح إزاء موجة جديدة من الأعمال الكفاحية المرشحة للتطور والتصاعد، وقد تكون مقدمة لمرحلة تاريخية جديدة،  ولكنها سوف تبقى  محدودة التاثير طالما بقي الانقسام قائما الانقسام والتوافق الوطني غائبا.

المصدر: وطن للانباء