بقلم: خليل حرب
مع القرار الذي إتخذه السيد مقتدى الصدر باعتزال العمل السياسي وما أعقبه من مواجهة وسقوط ضحايا، يكون المشهد السياسي والامني العراقي قد بلغ أخطر منزلقاته منذ ظهور ارهاب الموجة الداعشية قبل اكثر من سبع سنوات وربما منذ الإحتلال الأميركي للعراق عام 2003. اقتحم أنصار مقتدى الصدر المنطقة الخضراء في بغداد، وهاجموا القصر الجمهوري وقبله مبنى البرلمان، وحاولوا ايضا اقتحام مبنى مجلس القضاء الاعلى، ليمسوا بذلك اركان الدولة الاساسية، بينما حاولوا فرض الاغلاق على مكاتب قادة سياسيين منافسين لهم، وهو مسار أدى إلى تدحرج التظاهرات المضادة من قبل قوى “الاطار التنسيقي” تحت شعار الدفاع عن الدولة التي يتهمون مقتدى الصدر بمحاولة اسقاطها. بدأ سفك الدماء داخل “البيت الشيعي” في العراق، فيما هو للمفارقة، من تداعيات اللعبة الديمقراطية التي أتاحت للصدر التفوق ثم الاصطدام بمعادلات الصيغة العراقية التي كان شريكاً في إنتاجها قبل 12 عاماً لإسقاط إياد علاوي، فكان قراره القاضي بالإستقالة والانكفاء تعبيراً عن إحساس بالمهانة، وبلغت الأمور ذروتها مع بيان المرجع كاظم الحائري الذي أعلن فيه إعتزال العمل المرجعي، في خطوة غير مسبوقة على مستوى مراجع الشيعة في العالم، وصولاً إلى إصدار توصية للجمهور الصدري باتباع مرجعية الولي الفقيه السيد علي خامنئي في إيران. بيان تحول إلى شرارة نيران جعلت مقتدى الصدر يُغرد مُلمحاً إلى وجود بصمات إيرانية وراء البيان، وأعلن بعده إعتزاله السياسة نهائياً. وكعادة التيار الصدري، بدا أنه يتقن لعبة الشارع أكثر من الآخرين، وما أن أعلن عن إقفال مكاتبه (صفر أهداف أمام القوى الأخرى) حتى اندفع جمهوره الى الشارع تعبيرا عن الغضب والرغبة، ربما، في الانتقام من قوى “الاطار التنسيقي” الذي حاول “ترويض” جموح الصدر منذ ان لمعت عيناه ابتهاجا امام نتائج انتخابات العاشر من تشرين الاول/أكتوبر 2021، والتي منحته الصدارة، من دون ان تمنحه متعة التسيد وحده على المشهد السياسي العراقي، بسبب إشكالية الكتلة الأكبر عدداً. جاء ذلك، فيما سجل العراق اسوأ انسداد سياسي له بلا رئيس للجمهورية ولا رئيس للوزراء، منذ اكثر من 10 شهور، وهو الاطول منذ الانسداد الشهير في العام 2010، عندما حصل رئيس الوزراء نوري المالكي على فترة ولاية ثانية بعد 289 يوماً من التأخير.. وللمفارقة بسبب الصراع الشخصي المُسيس مع الصدر ايضاً، بعدما كانا قد اتفقا على قطع الطريق سوية على وصول اياد علاوي إلى رئاسة الوزراء، في خطوة لم تكن طهران بعيدة عن صياغة معظم تفاصيلها.
كان من الممكن ان يكون التنافس طبيعياً لولا ان الزعيم الصدري، الذي تمادى كثيرا في شروطه ـ وبعضها تعجيزي ـ لكنه مال باتجاه ما كان كثيرون يخشون منه: محاولة الاستفراد بتقرير معادلات اللعبة وتوازناتها، وادعاء احتكار الصوت الشيعي، من دون الاخد بالاعتبار، بهواجس وطموحات وتطلعات خصومه من داخل “البيت الشيعي” نفسه، وفق القواعد التي حكمت مسارات السياسة والتحاصص منذ دستور العام 2005 الذي وضعه الأميركيون ويحمل في طياته الكثير من المضامين الطائفية التحاصصية على الطريقة اللبنانية والتي تعيد انتاج الازمات والصراعات، بين المكونات العراقية المختلفة، وداخل كل مكون. كان من اللافت للنظر ان القراءة الغربية المكثفة للتطورات العراقية منذ ظهور نتائج الانتصار الصدري في الانتخابات، انصبت كلها على توصيفات “ايجابية” حول الصدر بغالبيتها، صوّرته باعتباره الرجل الوطني والمنقذ المحتمل للعراق لاخراجه من عباءة ايران و”وكلائها” العراقيين، بل انها كثيرا ما طرحت فكرة “الشارع” كخيار محتمل امام الصدر بامكانه اللجوء اليه من اجل الضغط على خصومه وتحقيق مراده. لم يأخذ الحصان الجامح بالحسبان هواجس اقليمية – ربما تكون مشروعة – بان مخاض ولادة الحكومة العراقية جاء متزامنا مع محاولات اقليمية واميركية لتقليم أظافر النفوذ الايراني في المنطقة، او بأحسن الاحوال، محاولة احتوائها حبياً، سواء عبر المفاوضات النووية، او عبر جولات المحادثات المتعددة التي جرت بينها وبين السعودية بضيافة العراق. في الخلفية ايضا، مشهد اندلاع الحرب الاوكرانية واشتعال التهافت الدولي (الاميركي والاوروبي خصوصا) على تعويض النقص العالمي في امدادات الطاقة والتي اجبرت مثلا رئيس الدولة الاعظم في العالم، اي جو بايدن على المجيء الى السعودية، ليقول ان جثة الصحافي السعودي جمال خاشقي، قد طوتها المصالح.. والنسيان. لذا، ربما تكون هناك قراءة صدرية متعجلة أفضت إلى استنتاجات سياسية، مفادها العمل لتهميش او اخراج “حلفاء ايران” من المعادلة الحكومية، فيما المأمول ان التهدئة الاقليمية ضرورية ليلعب العراق، ثاني أكبر منتجي أوبك، دوره المراهن عليه بعدما غصت مصافي الانتاج والتصدير السعودية بطاقتها القصوى، مثلما قال الامير محمد بن سلمان للرئيس الاميركي.
وما زال المتابعون للشأن العراقي حائرون حتى الان في محاولة قراءة مغازي الانسحاب الصدري من البرلمان، ثم انكفاء مقتدى الصدر وصولاً إلى إعتزاله سياسيا في مقره في الحنانة في النجف، بينما تبدى ان جمهوره الغاضب لا يملك إلا خيار عصا الشارع، للضغط على خصومه في اكثر من موقع، وهي بمثابة لعبة بسيف ذي حدين. ليس الصدر شخصية هامشية في الشارع العراقي بالتأكيد، وهو كما روج أنصاره مؤخرا اصبح بمثابة “الاسد الجريح” الذي شعر بالمهانة لفشله عدة مرات في تأمين النصاب البرلماني اللازم، لفرض مرشحه لتولي الحكومة الجديدة، بالتحالف مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني، ومع الزعيم السني محمد الحلبوسي، ما كان يعني بالنسبة الى قوى “الاطار التنسيقي” ان موقع الشيعة الابرز في هيكلية السلطة العراقية، لم يعد حكرا على توافقات القوى الشيعية وحدها، وانما صارت بالمفهوم الصدري المستجد قرارا “وطنيا” يتطلب تفاهم الصدر الشيعي مع بارزاني الكردي مع الحلبوسي السني. وبالمقابل، فإن قرار “الإطار التنسيقي” بمحاولة فرض محمد شياع السوداني مرشحا لرئاسة الحكومة من دون التشاور المسبق مع الصدر، كان قرارا خاطئا لا بل مريباً، خصوصاً وأن الصدر كان قد أبلغ الوسطاء بلائحة إسمية لمرشحين لن يقبل بهم وأحدهم محمد شياع السوداني، فيما فتح الباب أمام إمكانية تسمية آخرين وبينهم هادي العامري. فلماذا كان القرار بتحدي إرادة الصدر؟ هل تجوز هذه المقامرة “اخلاقيا”؟ ربما. هل تجوز “سياسيا”؟ ربما لا. ذلك انه ربما كما حذر رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، فان “ألف يوم من الحوار الهادئ خير من لحظة تسفك فيها نقطة دم عراقي”. ان اسقاط الدولة العراقية، لن يكون بالتأكيد محصورا بحمامات الدم في البيت الشيعي. في تاريخه الحديث، لم يعهد العراق دماء مسفوكة تقتصر على طائفة واحدة. إن خطورة ما يجري في العراق أن آثاره لن تكون عراقية وحسب بل على مستوى المنطقة كلها خصوصاً وأن هناك من يراهن، وأحيانا بشكل مفضوح، على العودة بالعراق، وتصويره، على انه “قادسية صدام حسين” للتصدي للنفوذ الايراني!
لقد احتفل العراق في نهاية السبعينيات الماضية بصفر نسبة أمية بينما أظهرت بيانات الأمم المتحدة في العام 2022 وجود 12 مليون حالة أمية في العراق معظمها من جيل الشباب والأطفال (13% من السكان) وهذا رقم صادم، يحيلنا إلى الجيل الجديد في العراق وما يكتنف مستقبله من غموض تزيده وطأة مشاكل الأمية والبطالة والتهميش وانسداد الأفق، وهو جيل لم يعرف نظام صدام حسين بل نظام ما بعد الإحتلال الأميركي للعراق وكل منظومات الفساد التي كبّدت العراق ما كبّدته وما تزال. هل يجوز الآن في هذا الوقت المبكر من الانفجار العراقي، طرح سؤال “ما العمل”؟ -فتوى عاجلة من المرجع السيد علي السيستاني لوقف الاشتباكات وتحريم الدم، وتوفير الغطاء “الشرعي” للدولة لحسم الموقف في الشارع. -تجنب انخراط “الحشد الشعبي” في المواجهات. -اعتزال الصدر العملية السياسية فعليا لا خطابيا. -اعلان نوري المالكي خروجه الكامل من العملية السياسية. -انعقاد البرلمان والدعوة الى انتخابات نيابية جديدة. -ارتقاء النقاش السياسي العراقي لمستوى اعادة النظر بنظام المحاصصة السياسي برمته والغاء تقاسم مغانم الفساد.. وصولاً إلى صيغة سياسية جديدة أساسها المواطنة.