بقلم: عبدالحميد صيام
تمكنت أثناء زيارتي للوطن بمساعدة من بعض الأصدقاء الشجعان، أن أتحدث شخصيا مع أسيرين فلسطينيين محكومين لمدد طويلة. هذه هي المرة الأولى التي نجحت فيها بالتواصل مع أسرى داخل الزنازين ومن وراء القضبان، ولا يسألن أحد كيف تمكنت من ذلك، بل الأهم من ذلك هو الاهتمام بما قالوه لي شخصيا. وقد حاولت أن أفهم أكثر وأتعلم أكثر، خاصة في موضوع الإهمال الطبي الذي يرفض الأسرى أن يسموه إهمالا، لما يحمل هذا المصطلح من سذاجة وبراءة وعدم تعمد، بل يصر الأسرى على أن يسموه الإعدام الطبي، أو الإهمال المصنع، أو الإعدام البطيء. وسأحاول أن أنقل كلام الأسيرين حرفيا، إلا إذا اقتضت الضرورة اللغوية تغيير النص لينسجم مع قواعد اللغة ما أمكن.
الأسير راتب حريبات
اعتقل راتب حريبات بتاريخ 27 يوليو 2002 أي أنه مضى على اعتقاله 20 عاما وقد حكم عليه بالسجن لمدة 22 عاما، وهو الآن في سجن نفحة، دخل مستشفى الرملة ولهول ما شاهد من عمليات إهمال طبي، أكد أن هناك منهجية في عملية إعدام بطيء للأسرى، وأصدر كتابا نشر وهو داخل السجن عن مشاهداته في مسلخ الرملة، تحت عنوان (لماذا لا أرى الأبيض).
نص الحديث من سجن نفحة
هؤلاء الأسرى المكدسون هنا يتمنون أشياء بسيطة، كأن يدخل دورة مياه نظيفة. يتمنى أن يرى أهله. في مستشفيات السجون تجري العجائب. هناك من بترت قدماه على مراحل، مثل الأسير ناهض الأقرع، الذي بترت قدماه عدة مرات. وهناك معتصم رداد الذي يعاني من عدة أمراض في الأمعاء. هناك تهتك في الأمعاء والتهابات حادة وأمراض سرطانية. هناك من توفوا مثل أسامة أبو ذياب وكمال أبو وعر ونعيم شوامرة وحسن شوامرة وبسام السائح، الذين كانوا يعانون من أمراض سرطانية متعددة. وكما وصفت هذا من قبل فإن السرطان ينتقل من تخت إلى تخت ومن أسير إلى أسير. هناك مناظر تقشعر لها الأبدان، كما حدث مع إسراء الجعابيص، تصوروا إنسانا يخرج من لهيب النار، رأيتها بعد أن تعرضت للحريق الهائل في معظم جسدها وبعد أيام قليلة كانت في مكان لا يصلح لعيش إنسان. أين ضمائر العالم أين الضمائر الحية؟ أنا أشكر كل من يقف إلى جانب قضية الأسرى، خاصة إلى جانب هذه الشريحة المصابة، من الذين يعانون الأمرّين. أنا بصحة جيدة لكن هناك أسرى معزولون لا يرون النور ولا يرون الشمس. رسالتي: يجب أن يكون الأسرى المرضى على سلم الأولويات، سواء بالعمل على تحريرهم كأولوية، أو الكتابة عنهم وعن معاناتهم جميعا.. هذه هي رسالتي، فأنا خلال سنوات اعتقالي لم أر أكثر لؤما من المعاناة التي شاهدتها في (ما يسمى) مستشفى الرملة. إنها محطة مليئة بالآلام والمعاناة، وكما قال الأسير أسامة نجازات عند دخوله مستشفى الرملة سئل عما رأى فقال: «والله رأيت فيه أمراضا تعجز عن حملها الجبال. والله لو وزعت تلك الأمراض على العالم العربي لما تحمل تلك الأوجاع التي يتحملها أسرانا». مستشفى الرملة عبارة عن حقل تجارب من خلال الأدوية المصنعة، بعضها ينجح وبعضها يفشل لكن أسرانا هم حقل التجارب لتلك الأدوية. رسالتي الأخيرة أن تولوا أولوية لقضية أسرانا المرضى، لأنهم يموتون في اليوم مئة مرة. الإنسان الطبيعي يموت مرة واحدة، لكن الأسير المريض يموت مئة مرة في اليوم الواحد. لقد تعدى الموضوع مسألة الإهمال الطبي، بل وصل إلى تعمد خلق الأمراض وتصنيعها، إنه اغتيال بامتياز – اغتيال مبرمج. يسعدني أن تنشروا رسالتي. أنا أتكلم باستمرار حول موضوع الإهمال المتعمد.
سامر العيساوي
حفيد القائد أحمد العيساوي، اعتقل والداه ليلى وطارق عدة مرات، استشهد أخوه فادي عام 1994 بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي. كما استشهد عمه أسامة في لبنان عام 1982. اعتقل إخوته رأفت ومدحت وشيرين مرارا. اعتقل سامر أول مرة عام 2003 وحكم بالسجن 30 عاما. أطلق سراحه عام 2011 في صفقة شاليط ثم أعيد اعتقاله عام 2012. أعلن إضرابا عن الطعام في الأول من أغسطس 2012 استمر تسعة أشهر أو (289) يوما وهو أطول إضراب في التاريخ المعاصر. وافقت سلطات الاحتلال على إطلاق سراحه بعد فض الإضراب بستة أشهر. بالفعل أطلق سراحه بتاريخ 23 إبريل 2014 وبعد شهرين فقط، نكث العدو بالاتفاق كعادته، وأعيد اعتقاله مجددا ليقضي بقية المحكومية السابقة. مدحت أخو سامر كذلك في السجن دون أن ينطق بمدة محكوميته لغاية الآن يؤخذ إلى المحكمة ثم يعاد إلى السجن دون النطق بالحكم.
نص الحديث من سجن النقب
سعداء أننا لسنا وحدنا في المعركة.. سعداء أن هناك من يهتم بقضايا الأسرى ويتابعها ويكتب عنها، وهذا ما يرفع معنويات الأسرى. أنا شخصيا وضعي الصحي استطيع أن أقول «ماشي الحال» حيث أمارس الرياضة، لكن لا أعرف وضعي الصحي بشكل دقيق، فليس هناك فحوصات دقيقة، لكن الكثيرين لا يتمتعون بالصحة اللازمة. الإهمال الطبي هو سياسة دون مبالغة، هو إعدام طبي، والدليل هو زيادة حالات السرطان. قبل كورونا كان أخ أسير يعاني من أوجاع لمدة سنة ونصف السنة وكل مرة يفحصه طبيب السجن يقول له: «لا تخف. ما عندك أي مشكلة». تبين أنه مصاب بفشل كلوي، واستأصلوا الكلية. عندنا في عيادة الرملة عشرات الحالات لأمراض مستعصية تعيش على المسكنات، ومنهم الأسير ناهض الأقرع أهمل طبيا ودخلت الغرغرينا في رجليه وقطعوا رجليه الاثنتين، ثم ألحقوها بعملية قطع ثالثة نتيجة الإهمال وعدم إخراج الشظايا من رجليه. نمط الحياة في السجن ليس صحيا والمواد الغذائية غير كافية وغير صحية. وكثير منها من المواد المحفوظة وهي غير صحية ولا تحافظ على توازن صحي في الجسد، ما يسبب انتشار السرطان. أضف إلى ذلك الأمراض الأخرى مثل حالات القلب والمعدة والسكري وكلها بحاجة إلى متابعة.
حالة الشهيد كمال أبو وعر نموذج للإهمال المتعمد، ففي عام 2015 التقينا في سجن جلبوع، وكان يطالب بإنهاء اعتقاله لأسباب طبية، وأنا وعشرون أسيرا أضربنا عن الطعام نطالب بالاهتمام بصحة كمال أبو وعر، الذي تبين في ما بعد أنه مصاب بالسرطان، وبقي كذلك حتى استشهد، أو لنقل إنه أعدم. كما حدث كذلك مع يحيى الزبيدي. في سجن الرملة الذي يشبه المسلخ لا يقدمون فيه سوى المسكنات. الأسرى نفسهم يهتمون بالمريض. هم من يتابعونه ويقدمون له الدواء ويشرفون على مساعدته وتنظيفه ونقله. السجان لا يعمل أي شيء. هذه حقائق لا نبالغ فيها. نحن كأسرى نهتم بالمرضى ونقدم لهم ما نستطيع تقديمه، حتى العلاج النفسي فمن بين الأسرى من يستطيع تقديم العلاج النفسي، سواء بالخبرة السابقة أو الخبرة المكتسبة. الأسير أحمد المناصرة مثال على من هو بحاجة إلى علاج نفسي، اعتقل وهو طفل ورأى ابن عمه يستشهد أمامه، فكيف ستكون حالته النفسية، ظلوا يحتجزونه لغاية وصوله سن 14 سنة ثم أعطي حكما قاسيا. يضعونه في العزل الانفرادي وهو ما فاقم وضعه النفسي. فحالة من عنده مرض نفسي بنسبة 20% يرفعونها إلى 100% نتيجة الظرف الذي يضعونه فيها. إنه استهداف لوصفه بأنه مجنون. لا يوجد اتصال بيني وبين أخي مدحت. لا يسمحون لنا بإدخال الكتب القيمة التي تطور وعينا، ولم يصلني الكتابان اللذان كتبتهما عمتي رحاب العيساوي، واحد عني وواحد عن جدي. لم يسمحوا للكتابين بالدخول. نضرب عن الطعام أحيانا لتحقيق بعض المطالب مثل إدخال الكتب، يقبلون الشروط لفك الإضراب وسرعان ما يعودون إلى سابق الممارسات. معنوياتنا عالية واعتبر نفسي أملك حريتي لأني في جبهة قتال، عندما نفرض شروطنا وعندما نرفض إملاءات العدو نكون قد امتلكنا حريتنا. نحن على العهد.. نحن على الوعد.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي