بقلم:عبدالحميد صيام
أريد في هذا المقال أن أخرج عن السكة قليلا آملا في أن أساهم في تصحيح بعض الظواهر السلبية أو على الأقل تسليط الضوء عليها. وبما أن شعبنا يعيش تحت الاحتلال والاقتلاع والتفريغ الكولونيالي، والحصار ونظام الأبرتهايد والتهويد، فلا بد من أن تكون المواجهة مع هذا الكيان السرطاني شاملة وفي كل المجالات. فالنضال لا يقتصر على المواجهة بالسلاح، بل أيضا بتقديم نموذج حضاري في كل المجالات. نقاوم بالأدب والشعر، والغناء والموسيقى، والرسم والنحت، والعمل الجاد وخدمة الناس والمحافظة على الملك العام، وحماية البيئة والاقتصاد في الاستهلاك، والانخراط في العمل المجتمعي ودرء الأخطاء والمفاسد، بما يليق بالشعب المكافح.
لذلك أرى من واجبي أن أسمع من الناس العاديين وأناقشهم وأتبنى قضاياهم، وأعرض عليهم ملاحظاتي، لا أستذة ولا تعليما، وإنما حرص على وطن نعمل معا من أجل حمايته وتخليصه من كل الشوائب، التي بإمكاننا، بشكل جماعي، أن نتخلص منها ولو جزئيا ليكون جل اهتمامنا منصبا على العلة الأكبر، أمّ المشاكل جميعا: الاحتلال والحصار والاستيطان والتطهير العرقي والعنف المفرط. وليسمح لي القراء الأعزاء أن أشاركهم في رصد بعض الظواهر السلبية، التي يشكو منها معظم الناس ويمارسونها بطريقة عادية وكأنها أصبحت هي «الطبيعي» وغيرها «الشاذ»، لعلنا نتمكن من تصحيح أو معالجة بعضها إن لم يكن كلها.
* فوضى قيادة السيارات- هذا الازدحام في حركة السير، خاصة في رام الله والمداخل إليها وقرب الحواجز، لا تبرره كثرة السيارات وضيق الشوارع، بل الفوضى في السياقة. لم أشاهد مثل هذا التدافع بالسيارات ومحاولة التسلل وتجاوز الطابور، وما هي إلا لحظات حتى تجد العديد من السيارات تقفز خلف تلك السيارة فيتحول المكان إلى ما يشبه مرآبا عموميا تحكمه الفوضى كل يندفع باتجاه، ويعمل على الخروج من الأزمة على حساب الآخرين. وقد شاهدت أكثر من مرة من يخرج عن مساره ويتجه بسيارته عكس اتجاه السير، وهي مخالفة كبرى قد تؤدي بصاحبها في بلاد أخرى إلى السجن أو الغرامات الثقيلة، أو سحب الرخصة. وقد اعترضتني سيارة كبيرة وأنا في خطي الصحيح، وفتحت الشباك وقلت للسائق كيف تسمح لنفسك أن تسير عكس السير فرد باستهزاء: «أنا هكذا» فآثرت الصمت والانسحاب، لأن لديه استعدادا لبدء الشجار. هذا التدافع المحموم تطور مرارا إلى مواجهات وشجار وإطلاق نار، فقد قتل شخص في الشارع الرئيسي في رام الله بسبب الشجار على موقف سيارة، وقتل ثلاثة في بلدة كفر عقب قرب رام الله بسبب نقاش حاد بدأ حول التسابق في الشارع العام. أضف إلى ذلك حالات التصادم والخروج عن الشارع بسبب السرعة المفرطة، ولا يكاد يمر يوم، من دون أن تسمع عن سقوط ضحايا بسبب حودث الطرق. وكان الله في عون المواطن العادي الذي يضطر أن يمشي بين السيارات لاجتياز الشارع، لأن أحدا لا يقف احتراما للمشاة. الغريب أن الشرطة الفلسطينية لا تتدخل ولا تعمل على تنظيم السير إلا في حالات نادرة، كأن يكون هناك زائر كبير في طريقه للمقاطعة، أو أن الرئيس نفسه سيمر من ذلك الشارع. أشفق على أفراد الشرطة الذين يتقاضون رواتب ضئيلة تتأخر أحيانا لشهور.
* نظافة الشوارع – لا مبرر أن تكون الشوارع بهذا الشكل المزري من لملمة الأوساخ على الجانبين، خاصة المواد البلاستيكة والأوراق المبعثرة وبقايا المأكولات والخضار الفاسدة وأعقاب السجائر وأوراق الألمنيوم وغيرها. صناديق القمامة منتشرة وبشكل جيد تغطي المناطق كافة. الذي يثير الحنق أن يرمي الناس أحيانا قمامتهم على الحاوية وهم في سياراتهم، فلا تصل الحاوية وتنفرط المحتويات قربها. تجد الحاوية أحيانا غير ممتلئة وحولها أكثر مما في داخلها من الفضلات، فتصبح منطقة مفضلة للقطط والكلاب الضالة فتزيد الأمور سوءا وبعثرة، وتنتشر الروائح الكريهة الناقلة للأمراض. لا أعرف ما هو مبرر هذا الإهمال من سلطات البلدية ولماذا لا تصدر مخالفات شديدة ضد من يرمي قمامته بطريقة عشوائية. وأخطر ما تكون هذه الظاهرة في الشريط السكاني المزدحم الممتد من كفر عقب إلى قلندية فالرام وصولا إلى الضاحية وبيت حنينا. فهذه منطقة لا تخضع لا للسلطة لأنها محسوبة على القدس، ولا تقوم سلطات الاحتلال بواجبها عن قصد حتى تعم الفوضى والخلافات. لقد أصبحت بلدة جميلة مثل الرام (واسمها يعني المكان العالي) مكانا لا يطاق لكثرة انتشار القمامة، من دون وازع أو سلطة تضبط الأمور. أما مخيم شعفاط فأصبح ملاذا للفارين والتجارة غير الشرعية والعصابات، وهذا ما تشجعة قوات الاحتلال، فليس للسلطة أي تأثير في المخيم، لأنه رسميا تابع للقدس. يضاف إلى هذه المصيبة البنايات العشوائية في هذه الشريط، فلا سلطات الاحتلال تمنح رخص البناء ولا السلطة لها صلاحيات رسمية، وتركت الأمور للجان المحلية والتنظيمات الفصائلية لضبط الأمور، وحل الخلافات، والبحث عن متطوعين للقيام بمهمات السلطات الرسمية.
* التدخين في الأماكن العامة – لم أجد تفسيرا مقبولا لرؤية أطباء يدخنون حتى داخل العيادات والمستشفيات. فإذا كان الطبيب/ القدوة يدخن فكيف للمواطن العادي. هناك تحذيرات قاسية حول مضار التدخين يشير بعضها إلى أن «التدخين يسبب السرطان» ومع هذا فالغالبية تدخن، ولا تكترث للمخاطر الصحية. أتفهم التدخين في الشوارع والأماكن العامة، لكن كيف يمكن السماح للمدخن أن يشعل سيجارته في البنك والدائرة الحكومية والبريد وحتى في المصعد. قلت لسائق تاكسي كيف تكتب إعلانا «ممنوع التدخين» وأنت نفسك تدخن؟ قال الإعلان هذا للزبائن وليس لي». وعندما أشعل أحد الركاب سيجارته في سيارة عمومية طلبت من السائق أن يتوقف للترجل من السيارة، لأن التدخين يخنقني، فاضطر الرجل أن يقذف سيجارته من الشباك حتى لو تسببت في حريق. على الأقل يجب أن يمنع التدخين في الأماكن المغلقة والدوائر الرسمية وداخل الغرف والمواصلات العامة. أهذ كثير على شعب الجبارين؟
* المبالغة في احتفالات الأعراس- الصيف موسم الأعراس. ولا يمر يوم دون الاحتفال بعرس أو أكثر، قبل أيام احتفلت بلدة دير دبوان بسبعة أعراس في يوم واحد. وهذا شيء يبعث على البهجة من جهة، لكن الإسراف في احتفالات العرس تثير التساؤل من جهة أخرى. العرس للفلسطيني شيء مهم للعائلة والعشيرة والبلد. ولا مناسبة أعز من رؤية الولد أو البنت في ثوب الزفاف، ربما لأن الفلسطينيين فقدوا من أبنائهم أكثر من أي شعب في البلاد العربية، ولمدة طولية تزيد عن القرن، ولا نهاية لنهر الدم في الأفق ما دام الكيان مزروعا فوق أجسادنا. لذلك يعتبر الفلسطيني العرس مناسبة وطنية تستحق الاحتفال والإشهار. إلى هنا كل شيء طبيعي. الأمر غير الطبيعي هو المبالغة في الاحتفالات، حتى تحت نير الاحتلال واحتمال قيام وحدات من جيش الاحتلال بمداهمة البلدة في أي وقت. فالعرس يمتد لثلاثة أو أربعة أيام، ويشمل ليلة الحناء والسهرة التي يحييها أحد المطربين المحليين ثم الغداء وأخيرا الزفة، التي تشهد انتقال العروس إلى بيت عريسها. وفي ليلة السهرة انتشرت الألعاب النارية التي تكلف الكثير، وتجبر كل من عنده عرس أن يجاري التقليد. لكن الظاهرة المزعجة هي إطلاق النار الحي في الأعراس، أي أن السلاح يظهر في الأعراس. والسلاح موجود بين يدي مجموعتين، إما رجالات السلطة، أو أفراد ليس لهم علاقة بالنضال والمقاومة، وتعرف عنهم إسرائيل وتغض الطرف عن اقتنائهم للسلاح، لأنه لن يستعمل إلا للمشاكل والجرائم والتباهي والتفاخر. ولو حدث أن أظهر مقاوم سلاحه وهو أمر نادر، إلا إذا كان ضمن أوامر وترتيبات فصائلية مثل ما يجري في جنين، ليتم اعتقال الشخص في اليوم الثاني أو الثالث. لا أجد مبررا لمثل هذه الظاهرة، فقد أصيب ابن عمي قبل سنوات في ساقه نتيجة طلقة طائشة قلبت العرس إلى فوضى وخوف وقلق.
هذا غيض من فيض تلك الظواهر المَرَضية التي بحاجة إلى أن نواجهها بكل شجاعة ولا نقول المسؤول عنها الاحتلال أو السلطة وكفى. صحيح أن السلطة الفلسطينية أشاعت جوا من الفوضى واللامسؤولية وحولت مئات الألوف إلى عالة عليها بانتظار الراتب آخر الشهر، ما نشر روح الاتكال والكسل واللامبالاة والانسحاب من الميدان، إلا أن الضمير يجب أن يظل البوصلة التي تحكم تصرفات الفرد الغيور على وطنه وشعبه.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي